تأملات حول المقاومة والوحدة في مواجهة التحديات
هوية بريس – الخامس غفير
ما دفعني إلى تحرير هذه الصفحات القليلة، يرجع إلى ذلك الجزء البسيط مما راكمته من خلاصات وأفكار تشكلت لدي خلال الأيام الماضية من طريق بعض النقاشات التي خضتها مع بعض الأصدقاء والتي تخص السياق العربي والإسلامي، وما تعرفه بعض الجغرافيات من تحولات اجتماعية وقيمية، خصوصا منذ مرحلة “طوفان الأقصى” إلى يوم الناس هذا. وارتفعت حدة النقاش حيت وصلت إلى حدّ السّجال بعد هروب الديكتاتور بشّار الأسد.
(1)
ولعل من الملاحظات التي سجلتها وأنا أتابع ما يُكتب حول الموضوع السّوري، بدا لي أن بعض الوجوه المحسوبة على النُّخب والفئات المثّقفة أنها تعيش نوعا ما تناقضات رئيسية، وهو يحمل القارئ على الحُكم عليها بلا مُجازفة بأنّها تنكّرت لمبادئها التّحررية، وقيّمها النّضالية باسم الإنسانيّة والحُقوق الآدمية، ومن ثمة رجحت كفّة الجلاّد على الضّحية، وصارت تَنْبش في الماضي ولم يعد بِمُكنها التّخلص من عُقدة النّقص بالمعنى السّيكولوجي نتيجة تلقّفها لرزمة من المفاهيم ذات الحمولة العنصرية المُنتصرة للمركزية الثّقافية الغربيّة على حساب القيّم والمبادئ التي من المفرُوض أنّها تستمد قوّتها من الخُصُوصيّة العربيّة والإسلاميّة. وتوجهت بها إلى فئات عريضة من المجتمع وسعت إلى اسقاطها كما هي دون زيادة أو نقصان ومن دون غرْبلة أو نَقد.
(2)
لاشك أن المعايير التي استندت عليها هذه النُّخب للحكم و تقييم تجربة الثورات العربية التي كان وراء قياداتها تيارات تختلف عنها إيديولوجيا وفكريا لم تتوفر فيها الشروط الموضوعيّة، بل كانت مجرد ردود فعل هوجاء لم تفكر في المستقبل، ولم تستحضر مآلات الأوضاع في ظل القبضة الاستبداديّة التي حلّت محلّ المؤسسات المُنتخبة شرعيّا و ديموقراطيا، ولم تتنظر ما يكفي من الوقت حتّى تنضج الأفكار و تتوضّح الرُؤية لكي يتم الحُكم بتلكم المعايير على تجربة لم تأخذ حظّها من الوقت الكافي.
(3)
لا يختلف اثنان أن بعض النُّخب وتياراتها لم تكن يوما ما مُنضبطة لإرادة الشّعوب في اختيار مؤسساتها وصياغة مشاريعها التّنموية والثّقافية والسياسية لا لشيء؛ فقط لأن من يقف وراءها خصم سياسيّ مُختلف عنها عقائديا وفكريا ،حتّى أنّ البعض عندما يعلم أن الذي انتخب أو تصدر مشهدا إعلاميا يبدأ في “التّفكه” و “نسج عبارات فكاهية” ليقوم بصياغة عبارات يتوقع صدورها من الأغيار، كلها أحكام قيمة -طبعا- كل هذا قبل صدورها من المؤسسات الرّسمية و الدّولية والإعلاميّة، كما هو مُتوقع تجد بعد حين ما كان “ينكث” به متحققا؛ بل أكثر من ذلك هو ما نشاهده و نسمع به، و كأننا أمام شريط من الأحداث المعدّ سلفا، وأمام سجّل من الوقائع التي تتكرر في الزمان من دون تحديد المكان، لأنه قابل للإعادة والتكرار وقابل للتعميم.
(4)
أمام هذه المعطيات والملاحظات وحفاظا على الخصوصيّة الثقافية والقيمية، وللاستفادة من دروس التاريخ وعبره، حريّ بهذه النخب و الساسة و المثقفين التّوجه إلى المستقبل ولا ينبغي عليها العودة إلى الوراء، لأن المجتمعات العربية والإسلامية ونخبها أمامها تحديات خطيرة جدًا، وليست في حاجة إلى فتح جبهات داخليّة تثقل كاهل الحركة النّضاليّة من أجل الوحدة والقوة، وعلى الجميع أخذ الدروس من الأحداث التي شهدها اليمن وهو يواجه صراعات خارجية، ويعيش تطاحنات داخلية أتعبت نسيجه المجتمعي، وكفى بالدرس السوداني خير شاهد ودليل على صحة هذا القول.
(5)
في خضم هذه التّحديّات، يجب أن نتذكر بشكل مُستمر أن “طوفان الأقصى يَجُبُّ ما قبْله”، وبالمعنى القرآني: “تعالوا إلى كلمة سواء”. لنوحد الصّف ولا نلتفت إلى ما يشتت ولا يجمع، ونعيد قراءة الأبعاد الاستراتيجية لوضعنا الحالي في ظل العربدة الصّهيونيّة التي لم تترك أرضا إلا وقصفتها ولم تفرق بين أعدائها سواء أكان سُنيا او شيعيا، يساريا او يمينيا، ولنعيد صياغة أهدافنا المستقبلية في أفق تحقيق النصر والتحرير الشّامل لإرادتنا وأراضينا المغتصبة في كل بقعة من بقاع جغرافيتنا العربية والإسلامية.
(6)
ومما يجب التسليم به؛ أن المقاومة فكرة، والفكرة لا تموت، ولذلك لا يمكن تبخيس الشعوب حقّها في النضال من أجل القضايا العادلة والمشروعة، واختيار من يسوسها، ويدبّر شأنها، و بالطريقة التي تحقق امالها في الانعتاق و الحرية، وكما أن من حق الشعب الفلسطيني ان يقاوم من أجل حقّه و أرضه، ومن حق الشعب السوري أيضا أن يختار ما يناسبه من حكم وصيغ تدبيريّة لمرحلته ، ومن المُنطلق الموضوعي الذي يُراعي حقوق الغير يمكن القول أنه؛ لا يمكننا أن ننكر بأن فنزويلا تعتبر من محور المقاومة، وهذا بحق ليس تزيّدا في القول، بل حقيقة وواقع ، وذلك بيّن من خلال مواقفها اتجاه القضية، ولكن في المقابل لم أعتبر يومًا ما أن المخلوع جزءًا من هذا المحور المقاوم؛ بل في اعتقادنا كان سببا في طعن المقاومة في ظهرها وبسعيه المتواصل نحو تذكية النزعة الطائفية أكثر مما فعلته الآلة الإعلامية الخليجية والصهيونية والإدارة أمريكية.
(7)
لقد أدى النظام السوري وظيفة خبيثة عمل من خلالها على تقسيم الطوائف والجماعات وألقى بها في أثون الفتن والصّراعات المذهبية، لقد عمل هذا النظام المجرم إلى تحويل الصراع بين السّنة والشّيعة من مجرد خطاب لفظي إلى تطاحن ميداني ودموي، وهو ما عجزت عنه الآلات الإعلامية لكل من السعودية والإمارات لسنوات.
(8)
للأسف، كانت هناك أخطاء قاتلة ارتكبت في هذه المرحلة. ومع ذلك، استبشرنا خيرًا “بالطوفان السنواري/الأقصى” الذي أعاد القضيّة الفلسطينية إلى الواجهة بعد موجة التطبيع التي اجتاحت الدول العربية. ودخل محور المقاومة إلى المعركة وقدّم خيرة قياداته وصفّه الأول على طريق القدس، إلا أن البعض أراد أن يُفسد على المتابع والمحلل فرحة وحدة السّاحات، وذهب بكليّته نحو شيطنة كل مبادرة تحررية أو فعل ميداني مقاوم للغطرسة الصّهيونية والاستكبار العالمي والاستعمار الجديد.
(9)
المقاومة ليست ملكا لأحد، والمقاومة الحقيقية اليوم تقع على عاتق الجميع لجمع الشمل وعدم التفتيت ونزع فتيل الطائفية. ولنتذكر دائمًا أن النظام السابق لم يستفد منه سوى الكيان المحتل، بينما خسرت المقاومة رصيدها التاريخي بسبب السياسات الفاشلة للنظام المخلوع.
المقاومة تحتاج رجالاً يدافعون عنها ويؤمنون بمبادئها بعيداً عن الأشخاص الذين لا يريدون سوى تحقيق المصالح الشّخصيّة أو الذين يرغبون في نزع حق الاعتراف بهم أو الترويج لهم كأبطال وهم ليسوا كذلك.
(10)
وراء كل انتصار رجال الظل وأناس أخفياء وعباد أتقياء، وليس كل من ظهر في الواجهة هو من حقق النصر أو هو من أطاح بالنظام؛ بل لأن النظام قد يكون في أحايين كثيرة قد وصل بنفسه إلى نهايته المحتومة، ويكون فيها غير قادر حتى على تقديم وجبة فطور لجنوده جراء الفساد المستشري في محيطه، كما هو حال النظام السّوري على سبيل المثال لا الحصر.
(11)
إن ما يبعث على الارتياب والحذر؛ هو تسليط الضّوء على شخصيات معينة ليظهروا كمخلصين بينما هم لا يمثلون إلا جزءاً صغيراً من الصورة الكبيرة. وأعتقد أنه إذا استمرينا بالسّماح لذوي النيّات السيّئة إلى إيقاظ الفتن الطّائفيّة فستجني الأمة نتائج كارثيّة وستزداد فُرْقَةً وهو الامر الذي سيتؤثر لا محالة سلبًا على مصيرنا ووجودنا.
(12)
في النهاية، يجب علينا تعزيز جهود التقريب بين وجهات النّظر والعمل على تجاوز الأخطاء الماضية بدلاً من الانجرار وراء تقلبات الأحداث والشّخصنة التي قد تؤدي بنا فقط نحو الهدم وليس البناء. نحن بحاجة لبناء دولة مدنيّة قوية تستند على مبادئ العدالة والمساواة دون اللجوء للفتن الداخليّة أو العنف المتبادل.
إن الاختلاف لا يفسد للود قضية؛ ونحن هنا نحلل الواقع بناءً على معطيات تاريخية ومعلومات موثوقة لنستفيد منها جميعا ونعمل بحكمة نحو تحقيق أهداف مشتركة تعزز وحدتنا وتساعدنا في مواجهة كل التحديات التي تطرأ علينا كأمة واحدة.