تأملات وخواطر حول مدونة الأسرة -2-
هوية بريس – حسن المرابطي
الجزء الثاني: محاولة لإدراك فلسفة الزواج والطلاق في الإسلام
كما نعلم جميعا، فإن الحديث عن مدونة الأسرة والمساهمة في النقاش الدائر حول تعديلها يعني بالضرورة التطرق إلى الزواج والطلاق؛ لأن من أهم ما يؤطره قانون الأسرة ويجب أن يؤطره هو هذا؛ وعليه، فإن مناقشة مدونة الأسرة يحيلنا قسرا إلى مناقشة كل ما يرتبط بهما، لاسيما بعد الدعوة، من الجهات الرسمية وغير الرسمية، إلى تعديلها لمواكبة تطور الحياة وكذا لتجاوز إشكالات كثيرة عرفها تطبيق المدونة بعد اعتماد النسخة الأخيرة لسنة 2004؛ بل إن واقع الأسرة بلغة الأرقام توجب على كل عاقل إعادة النظر في القانون المنظم للزواج والطلاق بعدما أصبحت وزارة العدل تسجل أرقاما قياسية لحالات الطلاق وتراجع حالات الزواج؛ وبالتبع، صار لزاما التأمل في نمط العيش عموما وإعادة بناء فلسفة جديدة للحياة، لأن الحياة وما تعرفها من مستجدات لم تعد تقبل بالنمط المعاش به، ولا حتى بالعقلية السائدة.
ومن باب استكمال ما بدأناه في الجزء الأول من هذه السلسلة، فإن المنهج المعتمد يفرض علينا عدم التركيز على التفاصيل، وإنما التعمق في المفاهيم لإدراك فلسفة الأسرة وبالضبط العلاقة الرابطة بين أفرادها، سواء في الأسرة النووية أو الكبيرة، وبشكل ضمني فلسفة الزواج والطلاق؛ وهذا لا يعني إهمال كل التفاصيل، بل تَمَكُنَنا من تحديد المفاهيم بشكل دقيق، وبالأخص إدراك فلسفة الأمور، تجعل كل شيء بعده سهل الدراسة والمناقشة، حيث نستطيع بعد ذلك فهم وإدراك مجموعة من الأمور والشكليات التي استشكلنا قبولها أو على الأقل كانت سببا لخلق بعض النقاشات التي جعلت من الفروع أصولا، حتى تم تشتيت التركيز والانتباه، والخوض في ما لا ينبغي الخوض فيه لو كنا أدركنا المعنى الحقيقي للأمور، لاسيما مفهوم الزواج والطلاق.
وبالتالي، فإنه عندما نريد تحديد المفاهيم كما تطرقنا إلى ذلك في الجزء الأول، يقتضي بالضرورة تحديد المرجعية المعتمدة، لأنه لا يعقل الحديث في أي موضوع دون الانطلاق من فلسفة ما، ولو كانت أوهاما وخيالات؛ وعليه، فإن حديثنا، بصفتنا على دين الإسلام، يفرض علينا منطقا محاولة إدراك فلسفة الأشياء مهما بدت صغيرة في ضوء الإسلام، وبالتحديد الفلسفة الائتمانية التي نركز عليها؛ إذن، ما الزواج في الإسلام؟ وما يعني فك هذا الارتباط الذي يسمى الطلاق؟
بدون شك، أن الجميع يدرك، بشكل أو بآخر، المعنى العام للزواج، والذي يتحدد في كونه عقد يربط بين ذكر وأنثى، دون أن يكونا من صنف المحارم، على أساس أن تكون النية في ذلك الديمومة والاستمرار، حتى لا يقع المرء في زواج المتعة أو أي علاقة أخرى، مع مراعاة مجموعة من الشروط والإجراءات، فضلا عن تحديد الأركان والموانع، والتي تم تفصيلها بشكل دقيق من طرف فقهائنا، سواء المتخصصين في المجال الفقهي الشرعي أو القانوني، قديما وحديثا؛ بل إن أتينا على ذكر عناوين الكتب والمؤلفات في هذا المجال لطال بنا المقال؛ ولكن رغم ذلك، نرى بعض المتطفلين ما زالوا يطرحون بعض التساؤلات التي يظن من خلالها أنهم توصلوا إلى ما لم يناقش بعد، ولم يسمحوا لأنفسهم التركيز فيما كتب لعلهم يهتدون إلى سبيلهم، إن هم أخلصوا النية، مع ابتعادهم التركيز على بعض الآراء الشاذة والتي أنتجت في ظروف خاصة.
بالرجوع إلى المفهوم العام للزواج كما ذكرنا أعلاه، ومحاولة ربطه بواقعنا اليوم، نجد أن تأثرنا بالثقافة الغربية، بكل أصنافها، جعل البعض منا ينظر إلى الزواج كعلاقة مصلحية صرفة، من خلالها يلبي المرء حاجاته المادية بشكل عام، حتى بدأ من يصور الزواج كشركة من الشركات والمقاولات، وأن عقده كباقي العقود، بل أقل قدرا بعدما نادوا بحرية التصرف فيه، ووفق ما تمليه أهوائهم.
ولذلك لم يعد ينظر إليه كما وجدنا عليه أبائنا ومن سبقونا، واستخفوا به أيما استخفاف، حتى صار كلا الطرفين لا يلقي بالا للزواج أو الطلاق، بل لم يعد يُفكر في الأمر إلا ما كان من زاوية الأعباء المالية؛ فترى المرء إن تردد في إقدامه على الزواج مثلا فُسر ذلك بما يقتضيه من مستلزمات العرس والمهر والبيت وما شابه ذلك، ولم ينظر إليه أنه عقد لا كالعقود؛ وبالتالي، لا يستغرب إن ظهر من يتحدث عن تعديل المدونة باستحضار النظرة المادية الصرفة دون غير ذلك، حيث نشهد بشكل دائم وجود اهتمام مفرط بالجوانب الشكلية والمادية، حتى رأينا من يمكن إشعال حرب ضارية على عدم مراعاة آخر صيحات الموضة، وفي المقابل التغاضي عن أمور في غاية الأهمية تمس كرامة الزوجين وغير ذلك.
وعليه، فإن قبلنا بالمفهوم العام للزواج، كما سبق، فإنه لا يعني أن الأصل هو هذا، وإنما وراء ذلك الفهم العادي فلسفة خاصة تؤطر الزواج في ديننا، والتي وجب استحضارها قبل أي نقاش أو حديث، وإلا تحولنا من حيث لا ندري إلى وضع أكثر بؤسا مما نحن عليه إلا من رحم الله؛ ما يعني أن القانون الذي يجب أن يؤطر هذه العلاقة في نظر المسلم لا يجب أن ينسى الفلسفة العامة لذلك، لأن المسلم في هذه الحياة لا يفصل بين دينه ودنياه، وإنما يراهما شيء واحد، بل أوسع من وصف هذه العلاقة بوجهي العملة الواحدة كما يشاع، ولعل هذا ما سيتضح عندما ندرك مكانة الزواج عند الله، وبالتبع أمر الطلاق.
بعد النظر والتأمل في مجموعة من النصوص الشرعية والتي لها علاقة بالزواج، نجد أن الزواج أخذ أكثر من وصف، وكل وصف يوحي إلى المكانة الخاصة له في الإسلام؛ وقد نكتفي بالإشارة إلى أن القرآن الكريم جاء فيه أن الزواج آية من آيات الله، ما يعني بالضرورة التأمل فيها كل حين، حتى نستخرج من ذلك العبر والحكم، قال تعالى: “وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً”؛ وعليه من باب التأمل في هذه الآية، استخرجنا آية قرآنية في غاية الأهمية تتحدث عن الزواج والتي نراها هي المرجع في كل شيء يتعلق به وبالطلاق سواء، وهي قوله سبحانه وتعالى: “وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَىٰ بَعْضُكُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا”.
من خلال التأمل في كلمة “الميثاق الغليظ” والبحث عنها في القرآن الكريم، وجدنا أن كلمة “ميثاق” لم تقترن بوصف “غليظ” إلا ثلاث مرات، فيما ذكرت واحد وعشرون مرة وحدها؛ لكن ما أثار انتباهنا هو أن كلمة ميثاق في القرآن، رغم ورودها أربع وعشرين مرة، لم تذكر إلا بأخذه بشكل مباشر من الله، أو فُهم منها ذلك وفق سياقها في الآية في الحالتين التي لم يشر بها صراحة إلى أخذه من الله؛ وبخلاصة، فإن وصف الميثاق في القرآن الكريم مقترن بأخذه من الله؛ وللتذكير، فإن المعنى العام لكلمة ميثاق يوحي إلى معنى العهد والعقد وما شابه ذلك؛ وبما أن أخذ الميثاق من الله، وفق ما ورد في القرآن الكريم، يمكن تفسيره وإعطاؤه الكثير من الدلالات واستخراج منه العديد من القواعد والمبادئ، فإننا سنكتفي بالمعنى العام الذي يتبادر إلى ذهن كل واحد منا وهو أن الإنسان يتعهد ويلتزم أمام الله العمل بما يتضمنه هذا الميثاق من مقتضيات.
وفي هذا السياق لا بأس من إثارة الانتباه إلى أن إدراك معنى الميثاق بشكل أوسع، يتطلب الإشارة إلى أن الإنسان قَبِل الأمانة عن اختيار وبكل حرية، عندما عرضت عليه، قال تعالى: “إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ، إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا”، وهذا ما يشكل ميثاق الائتمان؛ بل إن بعض الآيات التي جاء فيها لفظ “الميثاق” يوحي إلى هذا الميثاق وأيضا إلى الميثاق الإشهادي الذي قال فيه عز وجل: “وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ، قَالُوا بَلَىٰ شَهِدْنَا أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ”.
وعلى العموم، فإن المقصود بالميثاق الغليظ الذي وُصف به الزواج في القرآن هو أوسع معنى وأكثر متانة من المعنى المدني الذي يراد إعطاؤه إياه (أي للزواج)، لاسيما بعدما أصبح من يتكلم عن مفهوم الزواج المدني الذي ظهر في الحضارة الغربية؛ حيث أن الزواج عندهم هو عقد من العقود التي توثق في المؤسسات الرسمية بين طرفين، هما الرجل والمرأة فقط؛ في حين أن الزواج عندنا في ضوء آية الميثاق الغليظ هو ميثاق بين الله، يُستأمن الطرفان فيه على تلك العلاقة التي تربط بينهما، لاسيما الرجل الذي خوطب في هذه الآية، لأنه صاحب القوامة وهو الذي استند إليه تنفيذ الميثاق الغليظ، أو قل بلغة العصر: المشرف عليها؛ وربما في ضوء هذا المعنى يمكن فهم مجموعة من الآيات القرآنية وكذا الأحاديث الشريفة؛ وقد يطول بنا المقال إن بدأنا في دراستها كلها، لكن لابأس من إعطاء مثالين على ذلك.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “اتَّقوا اللهَ في النساءِ؛ فإنَّكم أخذتُموهنَّ بأمانةِ الله، واستحلَلْتُم فروجَهنَّ بكلمةِ الله”؛ وقال أيضا: “ثلاثٌ جدَّهنَّ جِدٌّ، وهزلهنَّ جدٌّ: النكاح، والطلاق، والرجعة”؛ وهذا ما يعني أن الزواج ليس علاقة عادية كباقي العلاقات الأخرى الإنسانية، وإنما باستحضار آية الميثاق الغليظ، سنفهم معنى الحديثين بشكل أدق؛ أي أن هذه العلاقة تتعدى الحدود الدنيوية والمادية الصرفة، لأنها لا يمكن أن تكون على الوجه الصحيح والآمن إلا إن اعتبرت في نظر الزوجين ذات صلة بربهما، وأنهما ملزمان بتنفيذ ما أمر به ورضي عليه؛ وبذلك فإن الزوج مطالب بشكل، في غاية الدقة، السهر على اتقاء الله لأن الزواج أمانة الله وأخذ العهد على الحفاظ عليها؛ وبالتالي، لابد من أخذ كل الحذر في تكوين هذه العلاقة أو إنهائها، حيث أنها لا تقبل المزاح والهزل، لأن نطق كلمة “الزواج” أو “الطلاق” ضمنيا تستحضر خلالهما عهد الله، وعهد الله لا هزل ولا مزاح فيه، بل كله جد في جد.
وعلى سبيل الختم، نقول: إن التأمل في آية الزواج واستحضار مفهوم الميثاق الغليظ كما يفهم معناه من القرآن الكريم، يجعلنا نتوسع في مفهوم الزواج بشكل مغاير لما هو عليه حالنا، أو لما يراد التأسيس له بعدما سيطرت الثقافة المادية الوافدة علينا من الغرب والشرق؛ بل إن إدراك فلسفة الإسلام المتعلقة بالزواج، تجعل المرء يتردد آلاف المرات قبل أن يدلي برأي يخالف ما نصت عليه الآيات القرآنية أو الأحاديث الشريفة، لأن عهد الله لا يمكن أن يدار وينفذ بما تمليه علينا أهواؤنا، وإنما سندرك ضرورة البحث عن كل التفاصيل التي تعلقت بالزواج والمفصلة بشكل أوضح من طرف علمائنا وفقهائنا قديما وحديثا؛ وبذلك، يمكن فهم أن أفعال المسلم، في هذه الحياة، لاسيما فعل الزواج، لا يمكن فصله عن دينه وما أتى به، وإنما يصعب حتى التمييز بينهما، لأن زواجه يتخطى حدود الدنيا الزائلة ويرتبط بالله مباشرة قبل أن يُشهد العدول على زواجه، بل حتى أن يستحضر أي قانون وضعي.
وأخيرا، يمكن لأحدنا أن يتساءل عن مفهوم الطلاق، الذي وعدنا الحديث عنه في أول الكلمة، ونقول: إن إدراكنا مفهوم الزواج كما حاولنا الإشارة إليه أعلاه، يعفينا من الحديث بشكل مفصل عن الطلاق، لأنه ببساطة هو إنهاء تلك الرابطة التي تكون باسم الله؛ أي أنها بالضرورة يجب أن تستوفي ما أمرنا الله به ووفق ما جاء به القرآن الكريم والحديث الشريف، لأن عهد الله وميثاقه لا ينهى إلا بالطريقة التي يرتضيها؛ وبالتالي، لن نستغرب وقوع الطلاق ولو هزلا، لأن ما تريد إنهائه إنما الله هو المستأمن عليه وراعيه، وأن التعامل مع الله ونقض الميثاق الذي بينك وبينه لا يقتضي إشراك الناس؛ كما لا يجب أن نجعل من الميثاق أمرا للهزل ولا لعبة في يد أحد؛ وبخلاصة، فإن أمر الطلاق كأمر الزواج سواء بسواء، ينبغي إخضاعه لما أمر الله، لأن المسلم لا يقبل أن يكون على غير ذلك.
وفي انتظار استكمال سلسلتنا حول مدونة الأسرة، نعدكم في الجزء الثالث منها، أننا سنحاول مناقشة فلسفة النسب والإرث في الإسلام.
يتبع في الجزء الثالث.