تازة.. هكذا يفقد المغرب رأسماله اللامادي
هوية بريس – إبراهيم الطالب
كلما تضامن المغاربة مع غزة وأهلنا المحاصرين هناك من طرف الصهاينة المعتدين، إلا ورأيت كثيرا من الحاقدين اللادينيين يرفعون حناجرهم ليقذفوا بشعار نَتن فيه من الكراهية والكيد الشيء الكثير، يقولون: “تازة قبل غزة”، لكن بمجرد مرور حملة القتل الصهيونية في غزة، ينسون هذا الشعار، فلا يتحدثون مرة أخرى عن تازة سوى إذا ذكرت غزة مرة أخرى، الأمر الذي يظهر مدى صدق ادعاءاتهم!!!
ما جعلني أتذكر هذا الشعار هو أني قمت برحلة لمدينة تازة الجميلة، زرت خلالها مدينتها العتيقة، تفاجأت بِالكمِّ الهائل من التراث الذي تحتضنه مدينة المجاهدين التي تتآكل في صمت، أعجبت بدماثة أخلاق أهلها وصفاء نفوسهم، أسرتني جبالها الشامخة شموخ أبطالها الذين دافعوا عن الإسلام، فكان منهم شهداء سقطوا بكل عزة، حتى لا تمر جيوش الثعلب “هوبير ليوطي” عبر ممر تازة الذي لم يكن هناك ممر سواه نحو فاس العاصمة، تلك الجيوش المجرمة القادمة من مدينة وجدة بعد احتلالها سنة 1907.
ولأهمية ممر تازة كان ذلك الثعلب الفرنسي دائما يقول: “تازة أولا وقبل كل شيء”. وذلك قبل أن تسقط المدينة.
كانت تازة خلال قرون تشكل بجبالها ومجاهديها أكبر حصن ضد كل غاز لبلاد المغرب، من جهة الشرق، يمنع الأعداء من الوصول إلى العاصمة فاس مدينة المُلك حيث قصر السلطان ووزرائه وجامع القرويين: المجلس العام لأهل الحل والعقد من علماء المغرب الكبار.
في زيارتي هذه، دخلتُ المدينة العتيقة بصدر منشرح، تنسمت عبق التاريخ بين جدران بيوتها القديمة الثاوية في دروبها كأنها كتب كبيرة سُطرت بعلم التاريخ، نأسف ألا يوجد بيننا من يفك اللغة السامية (من السمو) التي كتبها بها أجدادنا.
أدركتني صلاة الظهر بالقرب من مسجدها الأعظم، دخلته وقد تغشَّتني قشعريرة من هيبة المسجد، تملكني بجماله وتصميمه وأقواسه واستثارتني ثرياه العتيقة الشاهدة على قرون عديدة، وعلى أحداث مرت بهذا المسجد العظيم؛ فكم ضم بين جنبيه من ألوف العلماء والمجاهدين والصلحاء وأعلام المغاربة المسلمين وعوامهم، أجيال وأجيال متعاقبة مرت تحت سقفه سجَدَت لله على أرضه، فرحمهم الله أجمعين.
في زاوية على يدك اليسرى وأنت تدخل المسجد من باب القبلة المواجه لدرب القطانين، استوقفني منبر مهجور وقد أحيط بسلسلتين لمنع الزوار من لمسه، في منظر جعل المنبر مثل الأسير، منظر يرمز في نظري إلى تاريخنا المجيد المعتقل في سجون الجهال، والمصفد بسلاسل اللامبالاة والإهمال.
أفادني مرافقي التازي وهو أستاذ للفلسفة ملمٌّ بالتاريخ وآثار المدينة أن هذه التحفة التاريخية السَّنية ترجع إلى عهد الموحدين أي أن أعواده تشهد على أحداث أكثر من 10 قرون، وعلمت أن له أخا بعث به بلاد الأندلس حين كان يحكم المغرب بلاد الإسبان.
تأملت نقوشه الشاحبة بفعل توالي العصور وتعاقب الأحداث، فاستبد بي شعور لم أدرك حقيقته خليط من الحزن والعزة والقهر والزهو والمتعة والعظمة والضعف، تماما كما هو حال المغرب من زمن الموحدين إلى حين وقفتي أمام هذا المنبر عظيم الشأن، الشاهد على كل تلك الأحقاب.
تحفة قيمتها لا تقدر بثمن تعبث بها أشعة الشمس والحرارة والرطوبة، تأملت فجال بخاطري كيف هو حال أخيه في الأندلس؟؟ أكيد أنه اليوم في قرطبة إن كان بها، أو بلنسية أو غرناطة، معزز مكرم في أعظم المتاحف بعد أن عولجت أعواده من الأدواء، ليس لاحتفاء الإسبان بالتراث الإسلامي ولكن لأنهم يقدرون الرأسمال اللامادي ويحسنون ترجمته إلى رأسمال مادي يخدمون به المزيد من ذاكرة أمتهم، ومصالح شعبهم حتى ولو كانت تلك الآثار من مخلفات أعدائهم.
خرجت من المسجد من نفس الباب استدرت على يساري لأقف بعد أمتار قليلة على نفس الإهمال لكن في درجة عالية، وقفت على أطلال مبنى متهدم لم يبق منه سوى الجدران كأشباح قادمة من غياهب التاريخ، أخبرني رفيقي أنه هو المكان الذي كان ذات يوم مصنعا للصابون، الذي كان مضرب الأمثال في جودته وقوته في غسل أكثر الأدران والأوساخ كثافة، حتى درج المغاربة إذا أرادوا أن يعبروا عن قوة الأخطاء بينهم، بقولهم: “ما يكفيكش معايا صابون تازة”.
وهي عبارة تدل على أن صابون تازة رغم جودته وقوته في غسل الأوساخ والأدران فهو لا يكفي في غسل أخطائك وسقطاتك.
وقفت أمام جدرانه متأملًا وكأني أسمع صخب العمال وصرير أدواتهم وهم يصنعون مادة الصابون معتزين بما يقدمونه من منتج بلغت سمعته الطيبة الآفاق.
ثم تقدمت قليلا ليشد انتباهي جدار المسجد الأعظم من ناحية الشمال، وقد أُسنِد بألواح كثيرة لكيلا يسقط على المارة، ويبدو أن عملية الإسناد قد طالت دون أن تقرر الوزارة الوصية ابتداء عملية الإصلاح والترميم.
والله لقد تملكتني مشاعر الامتعاض والقهر والغضب وأنا أنظر إلى إرث يمكن أن يدر الملايير من الدراهم بلا عدد، تكفي للحفاظ على كل المآثر الموجودة في المدينة المجاهدة تازة العظيمة.
وتذكرت شعار “المتعلمنين”: “تازة قبل غزة”. وأدركت يقينا أن هؤلاء من البلاء الذي أصاب الأمة المغربية في مقتل، ويحول دون انطلاقتها وإحراز قوتها.
ففي الوقت الذي يموت فيه أهل غزة دون أن تنتهك عزتهم، ويحفظون بلادهم من كل اعتداء، شامخين معتزين بهويتهم ودينهم، لا نرى ممن يحمل الشعار المذكور: شعار التفرقة والكراهية والمزايدات، سوى الحرب والحقد ودعم التفاهة والاسفاف، وتجهيل الشعب وتسميم أفكار الشباب.
أينهم من تازة ومعالمها التاريخية؟؟
لا تكاد تسمع لهم همسا ولا ركزا، فلا هم نصروا قضية أمتهم الكبرى في غزة وفلسطين والقدس، ولا هم دافعوا عن الإعمال والتهميش الذي ينال مدينة عظيمة مثل تازة المجاهدة.
ومن مظاهر الإهمال أيضا ما أخبرني به أحد رجال المدينة الثقافية أن آلةً وهي عبارة عن “دكاكة” كان يستعملها الاحتلال في قتل وتعذيب المجاهدين المغاربة لا تزال مرمية في العراء ببادية تازة، يأكلها الصدأ، وتتلاعب بها عوامل النحت والتعرية.
ومن نفحات هذه الزيارة المباركة لمدينة تازة المجاهدة، أن قدر لي ولأول مرة في حياتي، أن أزور قرية “تيناست”، التي كانت مركزا عامرا نشيطا خلال مرحلة الاحتلال، ثم صارت يكتنفها الإهمال من كل جانب وعلى جميع الأصعدة، فدخلت إلى قلعتها التي بناها جيش الاحتلال الفرنسي وكان يدير منها شؤون القيادة العسكرية في المنطقة، جُست بين أطلالها أستحضر عتو الضباط الفرنسيين وهم يسومون الأسود الأبطال الذين سقطوا في أيديهم سوء العذاب، تجولت بين مرافقها وجدرانها وحجارتها، يتجاذبني التاريخ وتتقاذفني مجاهيل المستقبل، الذي يروم صناع الحاضر أن يكون خِلْوا من الذاكرة، عبدا للآلة الرأسمالية المتوحشة التي لا يهمها سوى الذهب ولو كان على حساب هويتنا وتاريخنا وذاكرتنا وديننا، لا يهمها سوى أن تقوى مؤسساتها المالية ولو تأسست ثرواتها على جماجم البشر وتلوثت بدماء الأبرياء من الناس وعذاباتهم.
لقد رجعت من تازة وكلي حسرة على مسؤولينا، كيف يتركون تاريخنا يتآكل ويندثر رويدا رويدا؟؟
كيف يضيِّعون حق الأجيال في معرفة تاريخها وهويتها؟؟
كيف يضيعون بتفاهاتهم وسفاهاتهم، على الخزينة العامة ثروات مالية عظيمة يمكن أن تجنى من مشاريع إعادة تأهيل المآثر والمعلمات التاريخية لمدن مثل تازة؟؟
إن ما يجري على مستوى الثروات التاريخية العمرانية والمعالم المحملة بالأحداث والوقائع ذات الأهمية البالغة في بناء تاريخ الذات المغربية وهويتها، هو جريمة نكراء نشجبها بقوة، وندق ناقوس الخطر بشأنها، فكفى من الإهمال والإجرام!!
ونهيب بالموازاة بالمثقفين والنخبة السياسية والعالمة أن تستنهض الهمم وتصرخ بقوة حتى ينتبه من يهمهم أمر البلاد ومصلحة العباد. وكفى من هدر وتبذير الرأسمال اللامادي للمملكة الشريفة!!
وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم.