تثمين العمل المنزلي.. الخراب على الباب
هوية بريس – د.محمد عوام
منذ تشكيل لجنة الاستماع وتلقي المقترحات حول مدونة الأسرة، بدأت جحافل الوفود تفد على اللجنة، متعددة المشارب، متنوعة المذاهب، متباينة الأفكار، من علمانية وإسلامية ومحافظة، كل يخوض ويتخوض في قضية الأسرة، وكل يحلم أن تحظى مذكرته بالرضى والقبول، ولو كانت مرجعيتها المذهبية من مكان بعيد عن معتقدات وشريعة الإسلام التي يؤمن بها الشعب المغربي، أو كان اجتهاده متطرفا، وغاية في التطرف، ولو ادعى أنه ينتمي إلى التيار الإسلامي.
والحق كل يدعي حب ليلى، ولكن ليلى المسكينة المظلومة المقهورة، لا أحد من هؤلاء أشفق من حالها، ذلك الحال البئيس، الذي تعيشه خارج مدونة الأسرة، بلا حقوق مضمونة، وكرامة موفورة، إنها المعاناة اليومية في المصانع والمعامل والمزارع بأجر زهيد، وعمل شديد، لا يتلاءم مع أنوثتها وحالها. عمل تداس فيه أنوثة المرأة، وتهان فيها كرامتها. لا أحد من المناضلين “الغيورين” ما شاء الله التفت إلى هذه الحال المضنية، فقط أن يخرجوها من الظلمات إلى “النور” بجعل حياتها الأسرية جحيما لا يطاق، فهل هذا هو النضال الذي تبشرون به المرأة؟!!
بعض المذكرات الرائعة الماتعة اقترحت تثمين العمل المنزلي، على غرار صويحبات الكومنوليت البريطاني، فاقترحوا أن تتقاضى المرأة أجرا، أو يحتسب لها عملها المنزلي في تنمية الأموال المكتسبة، بل ذهب جهابذة “المجتهدين”، وفحول “الفقه” إلى تحديده في 10% كحد أدنى، و20% كحد أعلى، ولا تبقى السلطة التقديرية للقاضي رجراجة سيالة، فيكفي أن هؤلاء حددوها بناء على معطيات مقطوع بها عندهم، نبتت في مخيلاتهم، وعششت في أمخاخهم.
لكن هؤلاء “المثمنين” للعمل المنزلي، نسوا أن يرفقوا ذلك باقتراح إجراء مسطري، وهو عند الزواج ينبغي أن يبرم الزوج عقدان، عقد نكاح وعقد إجار، تكون بمقتضاه الزوجة أجيرة بالنهار، وزوجة بالليل، ويحتسب لها أيام العطل، ونوع العمل، والتقاعد، والضمان الاجتماعي، والتأمين، وتدفع شواهد طبية للزوج عند التغيب عن العمل المنزلي، أو عجزها عن ذلك، حتى يخصم لها ذلك اليوم أو الأيام من الأجر، …إلخ.
وهكذا يصبح بيت الزوجية جحيما لا يطاق، وعلاقة متوترة دائمة، وكيف يحس هذا الزوج الذي يدفع ثمن العمل المنزلي، الذي اعتاده النساء برغبة وحب وتفان، بل ينسجم مع طبيعتهن، هل يحس بالطمأنينة والسعادة والمودة والرحمة أم يحس بالتعاسة والحزن والشقاء؟!!
وهذا لا يمنع أن يكون للزوج حظا فيه، وأنا أعرف كثير من الرجال يقومون بذلك، صحيح ليسوا كالنساء في هذا. فالعرف جرى بأن العمل المنزلي يقوم به النساء، وهو عرف عالمي، أقصد العمل المنزلي العادي جدا، مع أنه اليوم أصبح إلى حد ما يسيرا، بسبب وجود الألات المنزلية، كالغسالة، والعجانة، والعصارة، حتى تنظيف الأرض له آلته الخاصة به، وهكذا. ومعلوم أن المعروف عرفا كالمشروط شرطا، والعادة محكمة.
نعم بعض المناضلات اللواتي يصدعن الرؤوس ويقمن العويل والصراخ، لا يقمن بأعمال منزلهن، ونحن سعداء إن هم أدوا حقوق العاملات كما ينص عليها القانون، كاملة غير منقوصة.
والغريب جدا أن هؤلاء الفلاسفة الجدد، التفلسف الخاوي، احتسبوا في تثمين العمل المنزلي عدد الأبناء، كأن هذه المرأة لا صلة لها بأبنائها باعتبارها أما، ونحن نعرف ما تضحي به الأم بالغالي والنفيس من أجل أبنائها، والله هذا هو البؤس الذي لا حد له، وهذا مشروع تخريبي للأسرة.
لقد حاورت كثير من النساء، ممن يعملن خارج البيت وداخله، ومن الطبقات الهشة المسحوقة، ليس كالمناضلات الجامعيات والمهندسات والطبيبات والمحاميات، قياس الخير وما شاء الله، عن رأيهن في تثمين العمل المنزلي، فقابلنه بالسخرية والاستهزاء (إيوا بزاف هذا، هذا الحمق، هذه التفليا….) إلى غير ذلك من المصطلحات والألفاظ التي تنم عن اشمئزازهن من هذا “الاقتراح” التخريبي.
ومن المؤسف والمقرف أن تجد أكثر المتحمسين لهذا المشروع التخريبي بعض الإسلاميين والإسلاميات، كأنهم جاؤوا للأسرة بفتح جديد، سيخرجها من معاناتها، وإنما سيزيدها رهقا وتمزقا، ثم إنه أكل مال الزوج بالباطل، بمعنى أنكم تقرون باقتراحكم الرائع أن تأكل الزوجة مال زوجها أو الورثة بالباطل عند الوفاة أو الطلاق.
طيب لماذا سكتم عن اقتراح إرفاق عقد الزواج بعقد التثمين ومقترنا به؟ لأنكم تعلمون لا أحد يقدم على هذا الاقتراح، ولا أحد يرغب في بناء حياته الزوجية على عمليات الحساب التثميني، وهذا يعني أن هذا الاقتراح لا قيمة له، وعري عن أي رؤية شرعية سديدة، وإنما هو مشروع تخريبي للأسر، والزج بها في متاهات الفوضى وعدم الاستقرار.
الأسرة اليوم، والمرأة منها، جزء ضمن إطار كلي، يتأثر به، جزء يعيش ضمن منظومة الفساد والاستبداد، الذي نغص عليها حياتها، جعلها تعاني من الغلاء الفاحش، والظلم المتفحش، لا تستطيع أن تلبي حاجاتها ومتطلباتها اليومية، غير قادرة على إعانة أبنائها على التمدرس، ولا حتى على توفير لقمة العيش، بله أن تفكر في تثمين العمل المنزلي، كما يفكر فيه عباقرة القرن الحادي والعشرين. بدل أن تناضل من أجل الأسرة كلها، والشعب كله، بتوفير حياة كريمة شريفة عزيزة، تناضلون ضد السراب، وضد الأصفار، ضد0.6%، فأعمال العقلاء تنزه عن العبث، كيف تتركون النضال ضد 90 أو 95% مما يصيب حياة المجتمع في مقاتله، وتختبؤون وراء الأصفار، هذا هو البؤس والمقت، لا تخربوا أسرنا باقتراحاتكم السقيمة، وآرائكم المعوجة، فمعظمكم لا يعيش مع المجتمع، وإنما يحوم حول دائرته، وفي صفوف أتباعه وتنظيماته.
فلتتفضل الدولة لمنحها راتب شهري على هذه الأعمال و تربية أطفالنا التي تعتبرهم الدولة موردا بشريا لإنصافها بإسم حقوق المراه.