تحولات المغرب الكبرى.. كيف أصبحنا هكذا خلال قرن فقط؟؟

تحولات المغرب الكبرى.. كيف أصبحنا هكذا خلال قرن فقط؟؟
هوية بريس – إبراهيم الطالب
للإجابة عن سؤال العنوان يحسن بنا بداية أن نتموقع في الزمن، فنحن اليوم في نهاية الربع الأول من القرن الواحد والعشرين 2025م، وقبل قرن من اليوم -أي 1925م- بالتمام والكمال، كان المغرب يعيش المرحلة الأولى من مراحل أخطر عملية عرفها في تاريخه وهي: إعادة الصياغة عبر التفكيك وإعادة الترتيب، أو ما درجنا على تسميته بـ”التطوير القسري للمجتمع المغربي”.
كان المغرب قبيل سنة 1925، في الشمال لا يزال يعيش نشوة النصر في معركة أنوال على الإسبان، وفي منطقة الاحتلال الفرنسي، كان المجاهدون من أمثال موحا أوحمو الزياني في معركة الهري، وعسو وبسلام في معاركه الكثيرة والتي تكللت بملحمة بوغافر 1933، والشيخ ماء العينين وأبنائه، وأمثالهم ومن معهم من المغاربة يجودون بالمهج والأموال حتى لا يحكمهم الأجنبي “الكافر” عدو الملة والدين، وكانت فرنسا فيما أسمته بحروب التهدئة تحرق القرى وتقتل النساء والأطفال حين لا تعثر على المجاهدين.
في نفس الوقت كان ليوطي المقيم العام يبني المغرب وفق نظرته والتي أسسها على مبدأ إلحاق العباد والبلاد بالإرث الروماني، مع الحفاظ على “الإسلام المغربي” الصوري وليس الحقيقي، الإسلام الذي لا يعارض حداثة بلاد الأنوار، ولا يقف في وجه البنوك والمؤسسات الاقتصادية من قبيل بنك روتشيلد الذي كان من مؤسسي البنك المخزني، (الذي أنشأته القوى الأوروبية في المغرب بموجب اتفاقية الجزيرة الخضراء سنة 1906)، إسلام يتماشى مع علمانية تنفيذية مكتسحة، بل كان يطلب منه أن يسوِّغ لها كل مشاريعها حتى الأكثر مناقضَة للشريعة.
أما على المستوى الفكري والاجتماعي نقتطف مشهد محمد بن الحسن الحجوي الثعالبي مدير المعارف وهو يلقي محاضرة في سنة 1925، ضمن أنشطة معهد الدروس العليا الذي كان بمثابة مركز ثقافي-تعليمي للنخبة في تلك المرحلة، بحضور كل من العلامة أبي شعيب الدكالي، والصدر الأعظم أحمد المقري وجماعة من النخبة المغربية، والمحاضرة كانت حول “تعليم البنات”.
في هذا السياق لم تكن البنات بعدُ تخرج من البيوت إلا نادرا، ولكن النقاش حول تعليمهن أصبح مطروحا بقوة بسبب المدارس الفرنسية-الإسلامية التي بدأ الاحتلال فتح أبوابها واستقبال أبناء وبنات المغاربة، بالموازاة كانت فرنسا تشجع إصلاح التعليم في المغرب تحت الحماية، وتستقطب أبناء النخبة لإيجاد جيل جديد تشكله حسب ثقافتها وأهداف مشاريعها، يوكل إليه قيادة المجتمع نحو الاندماج في التصور الجديد الذي وضعه ليوطي للمغرب -وكذلك كان-.
لم يكد العلامة الحجوي ينتهي من محاضرته حتى قام له كل من أبي شعيب الدكالي، والصدر الأعظم أحمد المقري معترضين عليه وعلى الموضوع برمته، واعتبر الأولُ أن الحجوي يتجاوز حدود التأويل الشرعي، ورأى في الدعوة إلى تعليم البنات “مدخلا لأفكار غربية”، وحصلت مشادة كلامية شهيرة بينهما في القاعة نفسها.
أما الثاني فقد وقف مع العلامة الدكالي، واتهم الحجوي بأنه “يسير في ركاب الإدارة الفرنسية”، واعتبر أن تعليم البنات سيؤدي إلى “فساد الأخلاق”.
باختصار، لنا أن نلاحظ الزمن: 1925م، فإلى غاية هذه السنة كان المغرب لا يزال يعيش وفق تقاليده وأعرافه وقيمه، وكل هذه الظواهر التي نعيشها نحن اليوم لم يكن شيء منها قد ظهر بعدُ، لكنه كان يعيش بداية عملية التطوير لإعادة التشكيل والصياغة، فكل شبر من الإسفلت كان يشق طريقا، وكل جدار كان يُبنى في شارع عمومي كان يوازيه هدم لجزء من الهوية الثقافية والدينية ويوضع محله جزء من الثقافة الغربية والقيم العلمانية. ونعجب هنا لقلة البحوث العلمية التي تعنى بهذه القضية: “قضية التطوير القسري للمجتمع المغربي”.
فكيف وقع هذا التطوير؟
وماذا حصل؟ وما هي العوامل والأسباب الكبرى لما حصل؟
أكيد، لن تتسع هذه المقالة إلا لرؤوس أقلام تحسيسية تمارس “الوخز” الفكري للعقول الباحثة في ميادين التاريخ والأنثروبولوجيا والسوسيولوجيا لتوجيه الطلبة الباحثين لدراسة ما وقع خلال هذا القرن (1925-2025).
بالتأكيد على أرض الواقع يلاحظ الناظر لما يجري بوضوح أن المغرب عرف تحديثا متسارع الوتيرة من جهة، وتحولات قيمية وثقافية عميقة من جهة أخرى. هذه التحولات لم تكن مجرد تغيّرات ظاهرية، بل تعبّر عن انتقال جذري -بدأ خلال القرن الماضي- في المرجعيات التي تنظّم المجتمع.
ولتفسير هذا الانتقال لا بد من فهم الأسباب والعوامل التي صنعته، وعلى رأسها التحول من الشريعة إلى القوانين الوضعية، والذي نتج عنه هذا التحول الواضح في منظومة القيم والسلوك، إلا أننا سنكتفي بالإشارات فقط، نظرا لطبيعة المقالة.
أولا: أسباب التحول من الشريعة إلى القوانين الوضعية
1– أثر الاحتلال 1912-1956
لقد دخل الاستعمار بمنطق القوة، وحافظ على شكل الدولة لاكتساب المشروعية، لكنه بالموازاة فرض نموذجا قانونيا حديثا يستند إلى بناء قضاء فرنسي، على أنقاض القضاء الإسلامي، وتنظيم المعاملات التجارية بين المغاربة على أساس قوانين وضعية ألغت بالتدريج التحاكم إلى الشريعة الإسلامية، وتنظيم إدارة حديثة ومجالس حضرية عصرية، فكانت النتيجة تفكيك البنية الشرعية التقليدية وإضعاف العلماء الذين شكّلوا لقرون أساس النظام القضائي والاجتماع.، وبهذا اختفت تدريجيا الدولة التقليدية التي كانت تحكم بالإسلام والفقه المالكي، لصالح دولة الاحتلال.
2- بناء الدولة الوطنية بعد 1956 والاستمرار في تثبيت إرث الاحتلال
بعد الاستقلال التوافقي، لم يتم الرجوع إلى الشريعة كنظام عام بل تم تبنّي إرث الحماية مع توسيعه، حيث قامت الدولة بـ”تحديث” الإدارة وفق الرؤية الفرنسية، وتبنت مبدأ الانفتاح على المؤسسات الدولية، والقبول التدريجي بأوامرها وتصوراتها، وسنّت قوانين جديدة في التجارة والاقتصاد ليست مخالفة للشرع فقط بل تعمل على استكمال التصور الليبرالي الذي بدأه ليوطي، دون أي انتصار للشريعة أو أحكامها، حيث تمت الاستجابة للإملاءات الغربية خصوصا ما تفرضه مؤسستا البنك الدولي وصندوق النقد الدولي،
أما على المستوى الاجتماعي فقد تم رفع التحفظات بشكل تدريجي عن كل ما يخالف الاتفاقيات الدولية في مجال الأسرة وحقوق الإنسان والمرأة، وتجلى ذلك في عملية “تحديث” الأحوال الشخصية خصوصا مدونة الأسرة 2004، التي ألغت شرط الولي في عقد الزواج وهذا لم تستطعه حتى الحماية الفرنسية، واليوم “يجاهد” وهبي وزير العدل، ومن وراءه من مؤسسات ونخب، لفرض التصور الليبرالي الغربي في مجال الحريات الفردية لتحكم القانون الجنائي ومدونة الأسرة.
ومعلوم أن السبب في هذا كله هو الاتجاه العام الرسمي والذي تحكمه رغبة الدولة في الاندماج في الاقتصاد العالمي والحصول على الشرعية الدولية، إضافة إلى مقتضيات التنمية التي رُبطت بالنموذج الغربي، وقد شكل ضغط الاتفاقيات الدولية والمنظومة الحقوقية المرتهنة للغرب، وكذا ارتفاع تأثير تقارير الأمم المتحدة، والاتحاد الأوروبي، والمنظمات الحقوقية، قوة مخضعة للدولة المغربية دفعها إلى التفاني في الحفاظ على صورة “دولة إصلاحية” حتى لو اصطدمت بعض الإصلاحات بالمرجعية الإسلامية الأصيلة.
ثانيا: أسباب التحول في منظومة القيم والسلوك
1- التحضر والهجرة نحو المدن
كان للهجرة نحو المدن وتنقل ملايين المغاربة من القرى إلى الحواضر، دور مهم في تراجع سلطة القيم الهوياتية التي كانت تَرعاها القبيلة، فاختفت “الرقابة” الاجتماعية القديمة، وهذا ملاحظ بقوة في سلوكيات الأجيال التي نشأت في الأحياء الهامشية والعشوائية، حيث ارتفعت معدلات الجريمة وعمَّ الانحلال الأخلاقي، نتيجة لاضمحلال سلطة الضمير الجمعي بعد التحول إلى المدن، حيث برز نمط عيش جديد قائم على الفردانية، وسهَّل هذا التحول انتشار معضلات تحتاج لتفسيرها إلى تعميق للبحث والدراسة ومنها:
– العلاقات خارج الزواج،
– التحرر في اللباس،
– تغير الأدوار التقليدية للأسرة ولأفرادها.
2- الإعلام والفضاء الرقمي
يمكن للإنسان العادي أن يلاحظ الدور الذي لعبه التلفزيون منذ أول انطلاق له في مستهل الستينيات، في تشكيل وعي جيلنا حيث كان النافذة الوحيدة آنذاك، واستمر خلال السبعينيات والثمانينيات يمزج بين عري طرازان وخليلته والمسلسلات العربية السورية مثل عازف الليل ونادر والأخرس، إلى أن وصلنا التسعينيات حيث تم إنشاء القناة الثانية مع إدارتها من طرف الفرنكوفونية النصف فرنسية ياسمينا الفيلالي، ليدخل المجال التلفزيوني حقبة جديدة من الانفتاح والجرأة على العري والتهتك والأفكار الهادمة للقيم والأخلاق، والتركيز على المسلسلات المدبلجة البرازيلية والميكسيكية التي كانت توردها للشركة المغربية شركة يملكها يهودي، والتي كانت تحقق متابعة جماهيرية مرتفعة خصوصا في القرى المغربية. لنصل بعد ذلك زمن الإنترنت والذروة مع وسائل التواصل الاجتماعية التي فتحت المغرب وسلمت المجتمع المغربي للعولمة الثقافية، دون رقابة ولا تدخل من طرف الدولة الأمر الذي يدلنا على التحكم القوي والنافذ للتيار الليبرالي داخل دواليبها.
ومع هذه الوسائط تم إعادة تعريف الجسد والمرأة واللذة والعلاقات، حيث نلاحظ بقوة حدوث انفصال واضح بين المرجعية الأسرية التقليدية وبين المرجعية الإعلامية الكونية، خصوصا على مستوى العلاقات بين الآباء والأبناء.
3- تراجع دور العلماء والمؤسسات الدينية
منذ الاحتلال قضت السياسات العمومية على المكانة المركزية التي كان يحتلها العلماء، وتدريجيا تراجع دورهم، كما تراجع أثر خطابهم في تأطير السلوكيات المجتمعية، حيث لم يعد الفاعل الأساس في تشكيل الوعي الفردي والجمعي داخل المجتمع المغربي، بل تمّ تهميشه لصالح المدرسة الحديثة، والإعلام العمومي و”الخصوصي”، ثم جاءت شبكات التواصل ليصبح الأفراد تحت سطوة تيك توك وأخواته.
لكن بعد انطلاق الحرب العالمية على الإرهاب استيقظت وزارة الأوقاف ليس للدفاع عن القيم والأسرة والأخلاق ولكن للقيام بالدور الذي حدد لها في محاربة التطرف والعنف تماما كما يقتضيه المشروع الأمريكي، حيث نجد المجالس العلمية والمساجد بخطبها ومواعظها تنأى عن المشاركة في التشكيل الجديد للمجتمع المغربي، والاكتفاء بالوعظ منزوع الدسم والذي لا يقلق العلمانية والليبرالية المتحكمة في كل منابر انتاج الخطابات المؤطرة للسلوك والموجهة للعلاقات، حيث اقتضى مبدأ الوزير التوفيق المتعلق بتحييد المساجد عن الصراعات الفكرية والإيديولوجية تكميم أفواه الخطباء والوعاظ؛ لنصل اليوم إلى مرحلة الخطبة الموحدة والتي أضعفت الجانب الفكري والدعوي لمنبر الجمعية لفائدة باقي منابر إنتاج الخطاب في المجتمع المغربي.
كل هذه العوامل سمحت بتنامي سلوكيات كانت نادرة، مثل:
– العلاقات الجنسية خارج الزواج،
– الإجهاض،
– إنتاج أطفال خارج إطار الزواج،
– انتشار اللباس المتحرر بل الفاضح.
– انتشار الخمور بيعا واستهلاكا
– التطبيع مع القمار والربا
– القبول بمناقشة المحرمات القطعية في الفضاءات العمومية مثل اللواط والزنا…
4- تضييق الدولة على الزواج الشرعي
بالإضافة إلى الخلل في توزيع الثروة، الناتج عن الفساد، ناهيك عن طبيعة النظام الليبرالي المتحكم في الاقتصاد المغربي، شكلت تطبيقات مدونة الأسرة (2004)، فزاعة ترهب الشباب من الاقتراب من الزواج، فالقضاء اليوم يشرد الأزواج ويرهق كاهلهم في حالة عدم نجاح التجربة الأولى لزواجهم، ويكون الدمار الشامل في حالة وجود الأبناء، حيث يستحيل أن يقدم الرجل على الزواج مرة أخرى خصوصا إذا كان من ذوي الدخل المحدود، حيث لا يتبقى من دخله حتى ما يعيش به منفردا.
فإذا أضفنا إلى ذلك تقييد التعدد والصرامة في ملفاته، والتضييق على تزويج القاصرات، كل هذا مع وجود إمكانية تفريغ الشهوة خارج إطار الزواج، وسهولة إقامة علاقات خارج الزواج غير مكلِّفة، مع ضعف في المتابعات القضائية لملفات الفساد الأخلاقي والزنا والشذوذ والدعارة، كانت النتيجة الطبيعية هي:
ارتفاع معدلات الزنا والإجهاض والأطفال المتخلى عنهم وكل الظواهر التي تَلحق ذلك من تفكك أسري وانتشار للجريمة وفقدان للأمن وسقوط جماعي نحو الحضيض.
فكل ما سبق ذكره هو جزء من العوامل والأسباب التي يمكن أن تساعدنا في صناعة جوابِ سؤالِ العنوان: كيف أصبحنا هكذا خلال قرن فقط؟؟ وتسعفنا في تفسير هذا التحول الحاصل اليوم في المجتمع المغربي، والذي صار يهدد الدولة والمجتمع، الأمر الذي يستوجب من كل من لا يزال يهمه الحفاظ على الأمن واستمرارية مقومات الهوية المغربية أن يشارك في إعادة بناء ما انتقض من عرى المجتمع وصرح مجده.
وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم.



