تخريج حكم صلاة التراويح خلف التلفاز ووسائل الاتصال في المذاهب الأربعة
هوية بريس – د. محمد أبوالفتح
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد؛ فإنَّ من المسائل التي دَعَت إلى البحث فيها ظروفُالحَجْر الصحيّ (بسبب انتشار فيروس كورونا)، مسألةَ الاقتداء بصلاة الإمام في صلاة التراويح عبر التلفاز، وقبل البحث في هذه المسألة لا بُدَّ من استحضار أن هذه المسألةَ نازلةٌ معاصرة لم يتطرق إليها –بعينها- فقهاء المذاهب سابقا؛ لارتباطها بأجهزة حديثة لم يكن لها وجود في زمانهم، ولهذا فالبحث فيها انطلاقا من كتب الفقه، يُعتبر محاولة لتخريجها على مسألة أخرى تطرق إليها الفقهاء قديما، وهي مسألة: حكم اشتراط اتصال الصفوف في صحة الاقتداء بالإمام، وهذه المسألة يفرعها الفقهاء إلى فرعين:
وهذا الفرع الثاني هو الذي يعنينا في مسألتنا، فلنستعرض أقوال المذاهب فيه باختصار:
اشترط الحنفية لصحة الاقتداء اتحاد المكان بين الإمام والمأموم.
▪ قال الكاساني (بدائع الصنائع 1/145) (عند ذكر شرائط نية الاقتداء بالإمام) : “…ومنها: اتِّحَادُ مَكَانِ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ، وَلِأَنَّ الِاقْتِدَاءَ يَقْتَضِي التَّبَعِيَّةَ فِي الصَّلَاةِ، وَالْمَكَانُ مِنْ لَوَازِمِ الصَّلَاةِ فَيَقْتَضِي التَّبَعِيَّةَ فِي الْمَكَانِ ضَرُورَةً، وَعِنْدَ اخْتِلَافِ الْمَكَانِ تَنْعَدِمُ التَّبَعِيَّةُ فِي الْمَكَانِ فَتَنْعَدِمُ التَّبَعِيَّةُ فِي الصَّلَاةِ لِانْعِدَامِ لَازِمِهَا، وَلِأَنَّ اخْتِلَافَ الْمَكَانِ يُوجِبُ خَفَاءَ حَالِ الْإِمَامِ عَلَى الْمُقْتَدِي، فَتَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ الْمُتَابَعَةُ الَّتِي هِيَ مَعْنَى الِاقْتِدَاءِ، حَتَّى أَنَّهُ لَوْ كَانَ بَيْنَهُمَا طَرِيقٌ عَامٌّ يَمُرُّ فِيهِ النَّاسُ، أَوْ نَهْرٌ عَظِيمٌ لَا يَصِحَّ الِاقْتِدَاءُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ اخْتِلَافَ الْمَكَانَيْنِ عُرْفًا مَعَ اخْتِلَافِهِمَا حَقِيقَةً، فَيَمْنَعُ صِحَّةَ الِاقْتِدَاءِ”.
المالكية لم يشترطوا اتصال الصفوف في صحة الاقتداء بالإمام، لكنهم اشترطوا أن يكون الفاصلُ بين الإمام والمأموم نهرا صغيرا أو طريقا ضيقا لا يمنع الاقتداء المباشر بالإمام، وأعني بالاقتداء المباشر: الاقتداءَ الذي يُمْكِنُ مَعَهُ رُؤْيَةُ الإمام مباشرةً أو سماعه، أو رؤية من يقتدي به….
وقد علل المالكية تقييد الإمام مالك للنهر بالصِّغر، أن النهر الكبير يمتنع معهالاقتداء المباشر بالإمام.
وهناك علة أخرى عَلَّلَ بِهَا المالكية هذا التقييد بالصغر، وهي:تخلف صورة الاجتماع بين الإمام والمأموم إذا كان الفاصل كبيرا.
مع أنه لم ير بأسا في صلاة الرجل على ظهر المسجد بصلاة الإمام داخل المسجد، حيث قال: “… وَكَانَ آخَرُ مَا فَارَقْنَا مَالِكًا أَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يُصَلِّيَ الرَّجُلُ خَلْفَ الْإِمَامِ بِصَلَاةِ الْإِمَامِ عَلَى ظَهْرِ الْمَسْجِدِ، قَالَ: وَلَا يُعْجِبُنِي هَذَا مِنْ قَوْلِهِ، وَقَوْلُهُ الْأَوَّلُ بِهِ آخُذُ“ (المدونة 1/175).
– قلت: تبين مما سبق أن المالكية لا يرون صحة الاقتداء إذا كان الفاصل بين الإمام والمأموم كبيرا بحيث يَمنع الاقتداء المباشر بالإمام، ويُخرج المأموم عن كونه مجتمعا مع الإمام، أي: يُخرجه عن الصورة التي تتحقق بها الهيئة الشرعية لصلاة الجماعة.
فإذا كان المالكية لا يصححون اقتداء المأموم بالإمام إذا حال بينهما نهر كبير، أو طريق عريض يمنع الاقتداء المباشر بالإمام، ويخرج بالمأموم عن صورة الاجتماع مع الإمام؛ فمن باب أولى أن لا يصح عندهم الاقتداء في مسألة التلفاز، نظرا لأن الحائل كبير جدا، ولأن صورة الاجتماع مع الإمام مفقودة قطعا.
اشترط الشافعية إذا كان المأموم خارج المسجد أن لا يزيد الفاصل بين المسجد والمأموم عن 300 ذراع، هذا إذا لم يوجد حائل بين الإمام والمأموم، أما إذا وجد حائل بينهما غير جدار المسجد فلا يصح الاقتداء عندهم مطلقا.
قال النووي (روضة الطالبين 1/364): “… أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا فِي الْمَسْجِدِ، وَالْآخَرُ خَارِجَهُ، فَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يَقِفَ الْإِمَامُ فِي مَسْجِدٍ، وَالْمَأْمُومُ فِي مَوَاتٍ مُتَّصِلٍ بِهِ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا حَائِلٌ جَازَ، إِذَا لَمْ تَزِدِ الْمَسَافَةُ عَلَى ثَلَاثِمِائَةِ ذِرَاعٍ، وَيُعْتَبَرُ مِنْ آخِرِ الْمَسْجِدِ عَلَى الْأَصَحِّ. … وَلَوْ كَانَ بَيْنَهُمَا جِدَارُ الْمَسْجِدِ، لَكِنَّ الْبَابَ النَّافِذَ بَيْنَهُمَا مَفْتُوحٌ، فَوَقَفَ بِحِذَائِهِ جَازَ… وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الْجِدَارِ بَابٌ أَوْ كَانَ وَلَمْ يَقِفْ بِحِذَائِهِ بَلْ عَدَلَ عَنْهُ، فَالصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ: أَنَّهُ يَمْنَعُ صِحَّةَ الِاقْتِدَاءِ. … وَأَمَّا الْحَائِلُ غَيْرَ جِدَارِ الْمَسْجِدِ، فَيَمْنَعُ بِلَا خِلَافٍ“.
-قلت: في مسألة الاقتداء بالتلفاز، لا شك أنه يوجد بين الإمام والمأموم حوائل كثيرة غير جدار المسجد، وهذا يقتضي أن لا يصح هذا الاقتداء عند الشافعية أيضا.
إذا كان الإمام في المسجد والمأموم خارج المسجد فإن الصحيح في المذهب عند الحنابلة، عدم اشتراط اتصال الصفوف إذاأمكن الاقتداء المباشر بالإمام، ما لم يكن بينهما طريق، فإن كان بينهما طريق لم يصح الاقتداء.
-قال المرداوي (الإنصاف4/446): والصَّحيحُ مِن المذهبِ، أَنَّه لا يُشْترطُ اتِّصالُ الصُّفوفِ إذا كان يَرَى الإمامَ، أو مَن وَراءَه في بعضِها، وأمْكن الاقْتِداءُ، ولو جاوَزَ ثَلاثَمِائَةِ ذِراعٍ.
ومن الحنابلة من اشترط اتصال الصفوف:
-قال ابن قدامة (الكافي1/302) : (ويشترط اتصال الصفوف وهو أن لا يكون بينهما بُعْدٌكثيرٌ لم تجر العادة بمثله).
فإن فَصَل بين الإمام والمأموم طريق أو نهر لم يصح الاقتداء في مذهب الحنابلة إلا أن تتصل الصفوف.
-قال الزركشي (شرح مختصر الخرقي 2/101-102): “وظاهر [كلام] غير الخرقي من الأصحاب أنه لا يشترط اتصال الصفوف إلا أن يكون بينهما طريق… أما إن كان بينهما طريق فيشترط لصحة الاقتداء اتصال الصفوف على المذهب“.
– وقال المرداوي ( الإنصاف4/448) : لو كان بين الإمامِ والمأمومِ نهْرٌ، قال جماعةٌ مِن الأصحابِ: مع القرْب المُصَحِّحِ (أي: للاقتداء)، وكان النَّهْر تجْرِي فيه السُّفُنُ، أو طرِيقٌ، ولم تتَّصِلْ فيه الصُّفوفُ، إنْ صحَّتِ الصَّلاةُ فيه، لم تصِحَّ الصَّلاة، على الصَّحيحِ مِنَ المذهب، وعندَ أكثرِ الأصحابِ”.
ومن صحح الاقتداء مع وجود الفاصل من الحنابلة اشترط إمكان الاقتداء المباشر بالإمام.
-قال ابن قدامة (المغني 2/253): “…وَإِذَا كَانَ بَيْنَهُمَا طَرِيقٌ أَوْ نَهْرٌ تَجْرِي فِيهِ السُّفُنُ، أَوْ كَانَا فِي سَفِينَتَيْنِ مُفْتَرِقَتَيْنِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا، لَا يَصِحُّ أَنْ يَأْتَمَّ بِهِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَصْحَابِنَا… وَالثَّانِي: يَصِحُّ، وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدِي… لِأَنَّهُ لَا نَصَّ فِي مَنْعِ ذَلِكَ، وَلَا إجْمَاعَ وَلَا هُوَ فِي مَعْنَى ذَلِكَ، لِأَنَّهُ لَا يَمْنَعُ الِاقْتِدَاءَ، فَإِنَّ الْمُؤَثِّرَ فِي ذَلِكَ مَا يَمْنَعُ الرُّؤْيَةَ أَوْ سَمَاعَ الصَّوْتِ، وَلَيْسَ هَذَا بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا“.
– قلت: تبين مما سبق أن المذهب عند الحنابلة:
– عدم اشتراط اتصال الصفوف إن لم يكن بين الإمام والمأموم طريق، بشرط إمكان الاقتداء المباشر بالإمام، برؤيته أو سماع صوته مباشرة،
– اشتراط اتصال الصفوف إذا فصل بينهما طريق، أو نهر تجري فيه السفن
وعلى هذا فإن مقتضى مذهب الحنابلة عدم صحة الاقتداء بالتلفاز لأمرين:
1-عدم إمكان الاقتداء المباشر الذي يتحقق بالرؤية والسماع المباشرين.
2-وجودالطرق والحوائل الكثيرة بين الإمام والمأموم مع عدم اتصال الصفوف.
ومما يدل على اعتبار الحنابلة لأصل الاجتماع، وأن إمكان الاقتداء المباشر مقصود عندهم، قول ابن قدامة (2/152): “وَلَا يُعْتَبَرُ اتِّصَالُ الصُّفُوفِ إذَا كَانَا جَمِيعًا فِي الْمَسْجِدِ (يعني الإمام والمأموم) … وَذَلِكَلِأَنَّ الْمَسْجِدَ بُنِيَ لِلْجَمَاعَةِ، فَكُلُّ مَنْ حَصَلَ فِيهِ فَقَدْ حَصَلَ فِي مَحَلِّ الْجَمَاعَةِ“.
فهذا يدل على أن الفقهاء حين يشترطون إمكان الاقتداء بالإمام يستحضرون أصل الاجتماع بين الإمام والمأموم، ولهذا لم يشترطوا اتصال الصفوف لصحة الاقتداء في المسجد، لأن الاجتماع حاصل في محل الجماعة، واشترطوه خارج المسجد حتى لا تضيع صورة الجماعة بوجود الفواصل والحوائل.
ومما يدل على مراعاتهم أصل الاجتماع في الاقتداء قول ابن قدامة (2/152) : “.…مَعْنَى اتِّصَالِ الصُّفُوفِ أَنْ لَا يَكُونَ بَيْنَهُمَا (بين الإمام والمأموم) بُعْدٌ لَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِهِ، وَلَا يَمْنَعُ إمْكَانَ الِاقْتِدَاءِ”
فإنه هذا يدل أيضا على اعتبار الفقهاء في هذا الباب ما جرت به العادة من الاجتماع والتقارب بين الإمام والمأموم.
ومما يؤكد ذلك أن الصحيح في المذهب عند الحنابلة: أن الاقتداء لا يصح إذا فصل بين الإمام والمأموم طريق أو نهر، حتى لو وجد التقارب الذي يمكن معه الاقتداء المباشر بالإمام، فهذا صريح في كونهم لا ينظرون إلى إمكان الاقتداء بمعزل عن وجود هيئة الاجتماع.
ومما يزيد ذلك تأكيدا أنهم اشترطوا لصحة الاقتداءعند وجود الفاصل اتصال الصفوف، فلماذا يشترطون اتصال الصفوف في هذه الحالة لولا أنهم يراعون بقاء صورة الجماعة، وعدم انفصام هيئة الاجتماع بين الإمام والمأموم بوجود فاصل يفصل بينهما؟!
وابن قدامة وإن خالف المذهب ورجح صحة الاقتداء مع وجود الفاصل، فإنه يشترط اتصال الصفوف بأن لا يكون بين الإمام والمأموم بُعْدٌ لم تجر به العادة، وَيَشْتَرط إمكان الاقتداء المباشر بالإمام.
تبين مما سبق أن المذاهب الأربعة كلها تقتضي عدم صحة الاقتداء بالتلفاز، كما تبين أن الفقهاء حين يتطرقون إلى مسألة الاقتداء بالإمام يربطونها بصلاة الجماعة، أي: أن اجتماع الأجساد عندهم معتبر في الاقتداء، ولا ينظرون إلى إمكان الاقتداء بمعزل عن تحقق هيئة وصورة الاجتماع بين الإمام والمأموم، وإن اختلفوا في مقدار التباعد الذي يُسمح به بينهما، كما اختلفوا في مقدار التباعد الذي يُخرج المأموم عن كونه مجتمعا مع الإمام،مما يؤكد ذلك: أنهم يبحثون مسألة صحة الاقتداء ضمن المباحث المتعلقة بصلاة الجماعة، والسياق من المقيدات المعتبرة، كما أنهم فرقوا في مسألة اتصال الصفوف بين داخل المسجد وخارجه، وبين وجود طريق أو نهر وعدم وجوده بين الإمام والمأموم، وبين الفاصل الكبير والفاصل الصغير، فما الداعي إلى التفريق بين هذه الصور في الحكم، لولا أن هيئة الاجتماع بين الإمام والمأموم في الأصل مطلوبة عندهم، وإن اختلفوا في مقدار التباعد المسموح به بينهما، وأكثرهم توسعا في ذلك رخصوا في التباعد الذي يمكن معه الاقتداء المباشر مع الإمام، إما برؤيته، أو سماعه، أو رؤية من يقتدي به، أو سماع من يُسّمع تكبيره، وأما مجرد إمكان الاقتداء مع التباعد المفرط الذي لا تتحقق به صورة الاجتماع بنسبة ما، فإنهم لميتطرقوا إليه، ومن الخطإ إلحاقه بالتباعد اليسير الذي يمكن معه الاقتداء المباشر بالإمام، وذلك لأن هذا النوع من الاقتداء الذي لا توجد معه صورة الاجتماع مع الإمام يخرج بالمسألة عن بابها وسياقها الذي هو صلاة الجماعة، والتي يقصد بها أصالة الاجتماع، وما الاقتداء بالإمام إلا فرع من فروع صلاة الجماعة، فكيف يُصَحَّحُ اقتداء يعود على صلاة الجماعة بالبطلان، و بعبارة أخرى: كيف يصحح فرعٌ يعود على أصله بالبطلان؟!
ومن الخطإ أيضا فهم كلام الفقهاء بمعزل عن واقع الحال في زمانهم، فإن الفقهاء الذين لم يشترطوااتصال الصفوف اشترطوا إمكان الاقتداء المباشر بالإمام، والذي لم يُعهد في زمانهم إلا مع وجود تقارب بين الإمام والمأموم تمكن معه الرؤية والسماع المباشِرَين، ولم يخطر ببالهم يقينا إمكان حصول الاقتداء مع التباعد المفرط؛ لأن ذلك لم يكن ممكنا في زمانهم؛ فمن الخطإ أن نحمل كلام الفقهاء على ما نعلم يقينا أنهم لم يقصدوه ولا خطر لهم على بال، ومن الخطإ حمل كلام الفقهاء على ما كان مستحيلا في زمانهم… كما أن من الخطإ فهم كلام النبي صلى الله عليه وسلم على ما لم يكن ممكنا في زمانه صلى الله عليه وسلم، فلا نوجب صلاة الجماعة على من سمع النداء بمكبر الصوت من مسافة تزيد على 10 كلم ، بحجة قوله صلى الله عليه وسلم للأعمى : (أتسمع النداء؟… فأجب)(مسلم)، ولا نُجَوِّز للمرأة السفر بغير محرم بحجة أن السفر في زماننا بين القارات يستغرق أقل من يوم وليلة… لأن كل ذلك لم يكن ممكنا في زمانه صلى الله عليه وسلم.
ويضاف إلى ما ذكر أن أداء صلاة الجماعة مع تفرق الأجساد في البيوت المتباعدة هيئةٌ مخترعة في الدين يمكن أن يُستدل على بطلانها بعموم قوله صلى الله عليه وسلم: (من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد) (متفق عليه)؛ فإنه لا يعرف في ديننا، وسنة نبينا، وهدي سلفنا اقتداءٌ بالإمام مع تباعد الأجساد، بل إن اجتماع الأجساد مقصود لذاته في صلاة الجماعة ولهذا بنيت المساجد، ولأجل هذا هَمَّ النبي صلى الله عليه وسلم بتحريق البيوت على الذين يصلون في بيوتهم، ولهذا أيضا قال ابن مسعود رضي الله عنه : «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَلْقَى اللهَ غَدًا مُسْلِمًا، فَلْيُحَافِظْ عَلَى هَؤُلَاءِ الصَّلَوَاتِ حَيْثُ يُنَادَى بِهِنّ، فَإِنَّ اللهَ شَرَعَ لِنَبِيِّكُمْ صلى الله عليه وسلم سُنَنَ الْهُدَى، وَإِنَّهُنَّ مَنْ سُنَنَ الْهُدَى، وَلَوْ أَنَّكُمْ صَلَّيْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ كَمَا يُصَلِّي هَذَا الْمُتَخَلِّفُ فِي بَيْتِهِ، لَتَرَكْتُمْ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ، وَلَوْ تَرَكْتُمْ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ لَضَلَلْتُمْ…” (رواه مسلم). فإن هذا الحديث وإن كان في الفريضة، إلا أنه يدل على أن السنة في صلاة الجماعة أن يجتمع لها الناس بأجسادهم في المساجد التي ينادى فيها بالصلاة، ولهذا قال : “فَلْيُحَافِظْ عَلَى هَؤُلَاءِ الصَّلَوَاتِ حَيْثُ يُنَادَى بِهِنَّ“، وإذا كان هذا يقال في الفرائض التي هي الأصل في صلاة الجماعة، فإنه يقال أيضا في النوافل التي تشرع فيها الجماعة باعتبارها فرعا عن الفرائض في هذا الباب، إلحاقا للفرع بالأصل.
فإن قيل إنه يُتسامح في النافلة ما لا يتسامح في الفريضة، فالجواب: نعم! ولكن هذا التسامح ليس على إطلاقه، والأصل هو عدم التفريق بين الفريضة والنافلة في الأحكام إلا ما استثناه الدليل، ولا دليل في مسألتنا. وبالأخص إذا كان هذا التسامح يَنْفَرِطُ به عِقْدُ صلاة الجماعة، ويعود بالبطلان على المقصود الأعظم منها، والذي هو الاجتماع.
أضف إلى ذلك أن من الأصول العظيمة التي ينبغي مراعاتها في الفتوى أصل سد الذرائع، ومن المعلوم أن فتح هذه الذريعة للعوام يفتح عليهم بابافسيحا من التوسع والتميع، فإذا علمنا أن أكثرهم يهجرون المساجد في الفرائض، ويجددون العهد معها في الشهر الفضيل، فهل من الحكمة أن نَفتحلهم بابا لهجرها في هذا الشهر العظيم؟! بابانعلم يقينا أنه إذا فُتح فإنه لن يغلق بعد زمان كورونا.
فالذي أوصي به نفسي وإخواني في زمان كوروناهو أداء صلاة التراويح في البيوت مع الأهل، ومن المعلوم أن البيوت هي الأصل في صلاة النوافل، حتى إن الإمام مالكا – خلافا للجمهور- يرى أن أداءها في البيت أفضل من أدائها في المسجد؛ باعتبار أنه الأمر الذي داوم عليه النبي صلى الله عليه وسلم واستقر عليه.
وفي الختام: أسأل الله تعالى أن يتقبل مني جهد المقل في بيان حكم هذه المسألة، وأن يتجاوز عن الزلل والخطل، فما كان في بحثي هذا من صواب فمن الله وحده، وما كان فيه من خطإ فمن نفسي ومن الشيطان. والحمد لله رب العالمين.
جزاك الله خيراً