تركيا ما بعد الأردوغانية
هوية بريس – فرج كُندي
بعد مرحلة طويلة من الصراع الفكري والثقافي الذي ساهمت فيه عدة عوامل داخلية، متأثرة بأخرى خارجية تمثلت في الغزو الفكري القادم من الغرب الأوربي الذي عجل بأيدي داخلية تحول تركيا في الربع الأول من القرن الماضي من امبراطورية إسلامية عريقة واسعة الأطراف إلى دولة علمانية قومية -طورانية- أثرت في تغيير خارطتها الجيوسياسية ، والثقافية والاجتماعية.
عرفت هذه المرحلة بالمرحلة “الكمالية الاتاتوركية” نسبة إلى مصطفي كمال اتاتورك الذي قام بطرد الخليفة العثماني عبدالحميد الثاني سنة 1908 ميلادي.
ثم اسقط الخلافة الاسلامية عام 1924 ميلادية، واعلن النظام الجمهوري التركي الذي يقوم على اساس العلمانية، وفصل الدين عن الدولة ؛ وقام بتغيير وجه تركيا نحو النظم والقوانين الأوربية ، في محاولة حثيثة لسلخ تركيا عن اصولها التاريخية وعقيدتها الإسلامية، ونقلها روحا وجسدا لتنصهر وتذوب في القارة الأوربية.
من خلال اتباع سياسة متشددة في ذلك بدأت من منع الاذان باللغة العربية إلى استبدال الحروف العربية بالحروف اللاتينية في اللغة التركية مع ترسيخ النظام الأوربي في القوانين ومناهج التعليم، والتضييق على كل ما له علاقة بالدين الاسلامي أو الموروث الحضاري والثقافي العثماني القائم على روح الشريعة الإسلامية.
كما مارس النظام العلماني الذي عُرف (الاتاتوركية) نسبة اتاتورك الذي فرض العلمانية بشدة على الشعب التركي برغم إعلانه السير على النمط الاوربي في السياسة إلا ان حقيقة الأمر كان حكم الفرد المهيمن على الحزب، وعلى الحياة العامة فكان هو المهيمن على الحياة السياسية في عهده، وفي عهد من جاء بعده من ورثته من رؤساء الجمهورية التركية “الاتاتوركية”.
وحين حدوث أي انفراجه سياسية، وإن كانت محدودة؛ سرعان ما يقوم عليها انقلاب عسكري يعيدها إلى سابق عهدها باعتبار أن الجيش هو حامي العلمانية، وهو الوصي على الدولة، والمسيطر على كافة مظاهر الحياة فيها، وهذا ما جعل جنرالاته هم المتحكمين في مفاصل الدولة دون استثناء، ولا يسمحون بأي حراك سياسي يرغب في التحرر من سيطرة العسكر على الحياة العامة في الدولة.
وأي تحرك يكون الانقلاب جاهز ومتعدد الصور؛ إما أن يكون عنيف كما حدث مع “عدنان مندريز” الذي كان مصيره الإعدام، أو مع الاستاذ “نجم الدين اربكان” رحمه الله الذي تمت عرقلته وإقصائه عن السلطة.
إلا ان مجريات الاحداث تغيرت إلى حداً كبير وغير متوقع مع دخول الألفية الثالثة، وبروز شخصية كبيرة تتمتع بـ”كاريزما” جذابة، ومؤثرة هي شخصية (رجب طيب أردوغان) الذي تتلمذ على يد الاستاذ اربكان ثم خرج عن خطه السياسي ليرسم خطا جديدا مع نخبة من جيل الشباب الذي يمتلك “رؤية” وتصور جديد لتركيا جديدة وصاعدة وواعدة يقودها جيل من الشباب مثل “أحمد داوود أوغلوا وعبدالله غول” وغيرهم ممن يشتركون معهم في الرؤية ويشاركونهم نفس الحلم.
تبلورت صورة هذا الطموح في أنشاء حزب “العدالة والتنمية” الذي يقوم على مبادئ وقيم تركية اصيلة لا تصطدم بالعلمانية، وتتمسك بالهوية والجذور التاريخية، وهذا سر نجاح الحزب في الوصول إلى الناخب التركي وتحقيق فوز قوي هزم فيه الاحزاب التركية القوية والعريقة المتواجدة، والمتأصلة في المجتمع التركي، بل هزمت حزب اتاتورك نفسه.
والنجاح الحقيقي لحزب “العدالة والتنمية” تمثل في قدرة كوادره في إحداث نقلة نوعية حقيقية وملموسة لدى المواطن التركي من خلال تقديم الخدمات التي تمس المواطن ابتداء من نجاحهم في تقديم مشروعهم في بلدية استانبول. الامر الذي جعل باقي البلديات تقتنع بهذا الحزب الفتي وبقدرة كوادره على الانجاز والوفاء بالوعود وبصدق العهود.
وهذا النجاح كان سبباً مباشرا في وصول الحزب رئاسة الدولة ورئاسة الوزراء في فترة زمنية وجيزة ، لتنطلق الدولة التركية، وفي سباق مع الزمن إلى مرحلة جديدة من العمل المتواصل وفق هدف كبير لتحقيق مشروع عظيم وهو الحلم الذي راود اعضاء حزب العدالة والتنمية، وعلى رأسه السيد (أردوغان).
نجح أردوغان في السير قدما وبخطى ثابته بمشروعه السياسي والاقتصادي لنقل تركيا من دولة مثقلة بالدين من صندوق النقد الدولي وتعاني من اعباء الديون المتراكمة مع تضخم مالي وضعف الليرة التركية وازدياد سنوي في نسبة البطالة مع مقاومة أوربية شرسة لمنع تركيا من الانضمام إلى السوق الأوربية المشتركة.
لينقل هذا البلد المنهك بكل هذه الأعباء بأتباع سياسة الاعتماد على النفس، وتفجير الطاقات الكامنة لدى الشعب التركي من خلال تحفيز الهمم، والتخلي عن سياسات الاستجداء والاستعطاف، واعتماد سياسات العمل والبناء والثقة بالنفس واستحضار التاريخ المضي للشعب التركي مع محاربة للفساد واتباع سياسة الشفافية، واستحضار ماضي الشعب التركي وحضارته وسيادته وقدرته على تحدي الصعاب وإعادة ثقته بنفسه، فتحولت تركيا في أقل من خسة عشر سنة من دولة مدينة إلى دولة من ضمن اكبر اقتصاد عشرين دولة واصبحت من دولة مدينة لصندوق النقد الدولي إلى ثاني أكبر ممول للصندوق. ناهيك عن ارتفاع معدل دخل المواطن التركي مع طفرة في نمو قطاعات التعليم والصحة.
إن هذه التحولات قامت على يد كوادر حزب العدالة والتنمية الذين نجحوا في نقل تركيا من مرحلة تاريخية وهي المرحلة (الاتاتوركية) إلى مرحلة جديدة يمكن ان نطلق عليها المرحلة (الأردوغانية).
فالمرحلة الأتاتوركية استمرت من عام 1924- 2002م لتبدأ المرحلة الأردوغانية.
فالمرحلة الأتاتوركية هي مرحلة مصطفي كمال أتاتورك ومن جاء من بعده استمرت اكثر من خمسة وسبعون سنة. في حين المرحلة الأردوغانية فهي لم تتجاوز الخمسة عشر سنة، ونتيجة ما حققته من انجازات كبيرة وسريعة نبهت إليها خصومها من الدول الغربية التي ترى في تقدم تركيا الدولة المسلمة في أوربا وهذا ما لم ولن يسمح به فهو في تصورهم يشكل خطر على الحضارة والثقافة الاوربية.
وهو ما جعل هذه الدول تعمل على التضييق على مشروع حزب العدالة والبناء ومحاولة حصاره، وإجهاضه والقضاء عليه بانقلاب عسكري، أو بإفشال اقتصادي يؤدي خسارته في الانتخابات، وإنجاح خصومه، ودعم نظام جديد يهدم كل ما تحقق من نجاح في فترة حكم العدالة والتنمية.
ومع اقتراب الانتخابات المبكرة التي أعلن عنها الرئيس أردوغان فإن المخاض عسير والنتائج المتوقعة إما أن تنجح الدول المعادية لمشروع العدالة والتنمية في إقصائه، وأستبدله بحكومة لها سياسات ومشاريع تختلف بل تتصادم مشروع العدالة والتنمية وفي هذه الحالة سوف تتعطل المرحلة الأردوغانية وقد تؤد وتموت.
في حين لو نحج حزب العدالة والتنمية في الانتخابات القادمة فستكون المرحلة القادمة أصعب من الماضية، والتحدي سوف يكون اكبر لأن خصوم المرحلة الأردوغانية لن يقبلوا بالهزيمة، ولن يرضوا بما أفرزته صناديق الاقتراع، بل ستكون المواجه أكثر شرسة وسوف تبدأ معركة كسر العظام في محاولة لأقصاء أردوغان وحزبه عن السلطة في تركيا، وهذا ما استعد له أردوغان من خلال نجاحه في اعتماد النظام الرئاسي في الحكم في المرحلة المقبلة -بعد الانتخابات المبكرة- على الرغم يتضمنه هذا النظام من خطورة.
والخطورة الاكبر التي تواجه تركيا بصفة عامة ومشروع العدالة والتنمية تتمثل في شخصية أردوغان الذي توفرت له من مقومات الزعامة والقيادة التي جعلت منه شخصية مركزية ومحورية يؤثر غيابها المفاجئ على استقرار تركيا بصفة عامة وعلى مشروع حزب العدالة والبناء، وذلك أن الحزب يفتقر إلي وجود شخصية قوية تمتلك المواصفات القيادية التي يمتلكها أردوغان تسد الفراغ الذي سوف يخلفه أردوغان؛ مع ما يتوافر لدى الحزب من كوادر وقيادات مهنية وتكنوقراطية متميزة، إلا ان الحالة التركية لم تتعود بعد على نظام إدارة المؤسسات بقدر ما اعتادت كغيرها من الدول في الشرق على الزعامة الفردية والشخصية الكاريزمية أو العسكرية القائمة على القوة والبطش وإدارة السيطرة.