تصرف النبي صلى الله عليه وسلم باعتباره إماماً
هوية بريس – د.فهد العجلان
من المفاتيح الأساسية في فقه السياسة النبوية العلم بـ«قاعدة التصرفات النبوية»، حيث يميز المسلم بها حقيقة الحكم الشرعي فيضعه في ميزانه الشرعي الذي قصده النبي صلى الله عليه وسلم .
والمراد بالتصرفات النبوية: أن النبي صلى الله عليه وسلم يتصرف في بعض الأحكام باعتباره حاكماً للناس ورئيساً عليهم، ويتصرف في بعض القضايا باعتباره قاضياً بينهم يفصل بين خصوماتهم، ويتصرف باعتباره مشرعاً يبلغ أحكام دينهم أو مفتياً يبين لهم ما يحتاجون من دينهم، فالنبي صلى الله عليه وسلم يجمع بين كونه إماماً وقاضياً ومبلغاً ومفتياً، وقد يخفى على بعض الناس الوعي بهذا التمييز فيقع في الغلط في فهم الحكم الشرعي بسبب عدم معرفته بهذه القاعدة.
فتصرفه صلى الله عليه وسلم باعتباره إماماً: يعني أن هذا التصرف خاص بالحكام، لا يحل لآحاد الناس أن يفعلوه اقتداء بالنبي، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعله إلا باعتباره حاكماً، وذلك مثل تجهيز الجيوش وقسمة الغنائم وإقامة الحدود، فهذه أحكام سلطانية أقامها النبي صلى الله عليه وسلم ، فيقيمها من بعده الحكام والسلاطين، فإن جاء أحد وقال: أنا سأقيم الحدود كما أقامها النبي صلى الله عليه وسلم ، فهو لم يفقه حقيقة تصرف النبي صلى الله عليه وسلم ، ولم يميز بين هذه التصرفات.
كما أن النبي صلى الله عليه وسلم يتصرف باعتباره قاضياً يفصل بين الخصوم، وذلك كالإلزام بأداء الديون وفسخ الأنكحة ونحو ذلك، وهذا يعني أن هذا التصرف يتعلق بالقضاة وليس آحاد الناس.
كما يتصرف النبي صلى الله عليه وسلم باعتباره مشرعاً يبلغ الأمة دينها وكلام ربها، ومفتياً يجيب عما يسألون من أحكام دينهم، وهذا عام لجميع الناس، وهذا هو الغالب في الأحكام الشرعية، كما أنه هو الأصل، فلا يترك إلا بدليل يكشف أن تصرفه صلى الله عليه وسلم كان باعتباره إماماً أو قاضياً.
ووضوح هذه القاعدة في الجملة لا ينفي وقوع خفاء في بعض تفصيلاتها كبقية القواعد، فثم مساحة من التصرفات النبوية وقع خلاف بين العلماء في تحديد نوع التصرف هل هو تصرف باعتباره إماماً أم باعتباره مشرعاً مبلغاً مفتياً؟
ويذكر العلماء لهذه القاعدة أمثلة شهيرة، منها:
المثال الأول: قول النبي صلى الله عليه وسلم : «من أحيا أرضاً ميتة فهي له»[1]:
فقد ذهب الحنفية والمالكية[2] إلى أن هذا التصرف كان باعتباره إماماً، وبناءً عليه فلا يحق لأحد أن يحيي الأرض ويتملكها إلا إذا رخص له السلطان بذلك، لأنهم يرون هذا الحديث مبنياً على تصرف النبي صلى الله عليه وسلم باعتباره إماماً.
وخالفهم الشافعية والحنابلة[3] فرأوا أن هذا التصرف كان باعتباره مشرعاً وليس لكونه سلطاناً، فجعلوا الحكم عاماً لكل الناس، فكل من أحيا أرضاً ميتة فهي له.
المثال الثاني: قول النبي صلى الله عليه وسلم لهند بنت عتبة: «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف»[4]:
ذهب جمهور الفقهاء[5] إلى أن هذا حكم قضائي، وبناءً عليه فلا يجوز للمرأة أن تأخذ من مال زوجها إلا بحكم قضائي، وذهب الحنابلة: إلى أنه تشريع عام، فيجوز للمرأة أن تأخذ من مال زوجها بالمعروف إذا قصر في حقها[6].
المثال الثالث: قول النبيّ صلى الله عليه وسلم : «من قتل قتيلاً له عليه بيّنة فله سلبه»[7]:
ذهب فريق من أهل العلم إلى أن هذا التصرف النبوي كان باعتباره إماماً، وبناءً عليه فلا بد من إذن الإمام حتى يستحق المجاهد سلب القتيل، وهذا مذهب الحنفية والمالكية[8].
وذهب فريق آخر إلى أنه من باب التشريع العام المستحق بقول النبي صلى الله عليه وسلم ولا يشترط له إذن الإمام، وهو مذهب الشافعية والحنابلة[9].
فكما ترى، الخلاف في تحديد نوع التصرف النبوي كان سبباً في خلاف العلماء في عددٍ من الأحكام.
التصرفات النبوية وفقه المقاصد:
الوعي بتمييز تصرفات النبي صلى الله عليه وسلم هو من فقه المقاصد الشرعية، حيث إن الفقيه ينظر في التصرف النبوي غير مكتفٍ بالدلالة اللفظية فقط، بل ينظر في السياق والمعنى والمقصد، فغاية هذا التصرف أنه مبني على كونه تصرفاً يراعي فيه منصب الإمامة أو القضاء، فعدم ملاحظة هذا يوقع في الغلط نتيجة التقصير في مراعاة المقاصد في النظر والاجتهاد.
وقد وسع الفقيه ابن عاشور رحمه الله من ذكر التصرفات النبوية فذكر أيضاً: أن التصرف النبوي قد يكون لأجل الصلح، أو النصح، أو التأديب، أو الإشارة على المستشير، وغير ذلك[10].
وهذا كله مما يراعى في النظر الأصولي لدلالة الأحاديث النبوية، فالفقيه ينظر في حديث النبي صلى الله عليه وسلم لينظر هل صدر على جهة الإلزام أو الندب، وهل هو للعموم أو الخصوص، وغير ذلك مما هو سعي في الكشف عن مقصود الشارع.
ولهذا تجد في تقريرات العلماء قواعد معينة في كيفية النظر للتصرفات النبوية، ومن ذلك:
– أن الغالب في التصرفات النبوية هو التشريع، فالأصل أن يحمل على التشريع العام إلا بدليل[11].
يقول القرافي: إن قص هند فتيا لا حكم، لأنه الغالب من تصرفاته عليه السلام، لأنه مبلغ عن الله تعالى، والتبليغ فتيا لا حكم، والتصرف بغيرها قليل، فيحمل على الغالب[12].
ويقول ابن عاشور: «واعلم أن أشد الأحوال التي ذكرناها اختصاصاً برسول الله صلى الله عليه وسلم هي حالة التشريع، لأن التشريع هو المراد الأول لله تعالى من بعثه، حتى حصر أحواله فيه في قوله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إلَّا رَسُولٌ} [آل عمران: 144]، فلذلك يجب المصير إلى اعتبار ما صدر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأقوال والأفعال في ما هو من عوارض أحوال الأمة صادراً مصدر التشريع ما لم تقم قرينة على خلاف ذلك»[13].
– ومن ذلك: مراعاة القرائن، فالحكم على التصرف بأنه باعتبار الإمامة أو القضاء يتطلب النظر في القرائن المصاحبة للواقعة وليس هو من قبيل التوقع والتخمين، فهو اجتهاد تفصيلي يدقق في واقعة معينة.
– ومن ذلك: الوعي بحقيقة كل تصرف، فيجب أن يعرف حقيقة التصرف، وما يمكن أن يدخل مما لا يمكن، ولهذا تجد عند الفقهاء وعياً بهذا، فالعبادات مثلاً لا تحتمل إلا التشريع، قال القرافي: «واعلم أن العبادات كلها على الإطلاق لا يدخلها الحكم البتة بل الفتيا فقط، فكل ما وجد فيها من الإخبارات، فهي فتيا فقط»[14].
إذن، النظر في التصرفات النبوية يقوم على نظر جزئي تفصيلي يتجاوز مجرد الوعي بوجود قاعدة تتعلق بالتمييز بين التصرفات النبوية، وهذه طبيعية الاجتهاد الفقهي لا يتوقف عند الوعي بالقواعد العامة لأنها غير كافية ما لم تصحب بنظر تفصيلي في الوقائع، يعتمد على فهم لجزئيات الشريعة الأخرى[15].
التصرفات النبوية والتحريف المعاصر:
ذهب بعض المعاصرين إلى جر هذه القاعدة المقاصدية المهمة في التمييز بين التصرفات النبوية إلى مجال جديد، فقالوا: التصرفات النبوية منها ما هو متعلق بالتشريع، ومنها ما هو متعلق بغير التشريع كالتصرفات باعتباره إماماً أو قاضياً، فما كان تشريعاً فهو عام لكل الأمة، وما كان من التصرفات باعتباره إماماً أو قاضياً فهي تصرف غير تشريعي للعموم، وإنما يخص الحكام، وبناءً عليه فهو يبنى على المصالح التي يراعى فيها تغير الزمان والمكان، فلا يكون لأقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله فيها لزوم في كل عصر، لأنها تصرفات مبنية على المصلحة المتغيرة وليست تشريعاً.
وهذا التفكير المعاصر يعتمد في سياق هذا الكلام على تقريرات القرافي بشكل أساسي.
أين الخلل؟
هذا التفكير المعاصر قام بعمليتين جراحيتين لكلام القرافي حتى تظهر بهذا الشكل العصراني الجديد:
الأولى: أنه جعل التصرفات النبوية باعتبار الإمامة متعلقة بكل الجانب السياسي، فهي تجعل كل ما في الجانب السياسي من قبيل التصرف السياسي، وهذا غلط بين، ولم يقله القرافي ولم يدر بخلد فقيه، لأنهم يقولون: «بعض» تصرفات النبي صلى الله عليه وسلم يحتمل أن تكون من قبيل التصرف باعتباره حاكماً، لكنهم لم يقولوا إن «كل» ما جاء في السياسة هو باعتباره حاكماً، وفرق كبير بين الأمرين، فيمكن أن تقول: تصرف النبي صلى الله عليه وسلم مع زوجاته في بعض الأمور هو تصرف باعتباره زوجاً، لكن هذا لا يعني أن كل ما جاء في أحكام الزواج هو من قبيل التصرفات الخاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم .
فعندما يقول النبي صلى الله عليه وسلم مثلاً: لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة[16]، فهذا الحديث متعلق بجانب سياسي، لكنه لا يمكن أن يفهم على أنه تصرف باعتباره حاكماً، بل هو حكم تشريعي ولو كان مرتبطاً بجانب سياسي.
ولهذا وقع خلاف بين العلماء في بعض الأحكام المتعلقة بالجانب السياسي لوجود اشتباه هل هو تصرف باعتباره إماماً أم هو عام، وليس مجرد ورود التصرّف في الأحكام السياسية يجعله مشتبهاً[17].
الثانية: أنه حَكم على هذه التصرفات بأنها غير تشريعية، بل مرتبطة بالمصلحة، وهذا تغيير كامل لبحث الموضوع، فالفقهاء لا يقولون هي غير تشريعية، وإنما يقولون هي مختصة بالحكام، وشتان بينهما، فإقامة الحدود واجب لكنه مختص بالحكام، لا أن إقامة الحدود لم تعد تشريعية، وكذا وضع محفزات مالية كإعطاء سلب القتيل وتمليك الأراضي بالإحياء فهي مشروعة لكن المشروعية متعلقة بالإمام، وهكذا، فهي تشريعات قد تكون واجبة أو مستحبة أو مباحة، لكنها موكولة إلى الإمام، وليس أن الحكم لم يعد له علاقة بالتشريع.
إذن، هذه الطريقة العصرية مارست عبثاً بالتصرفات النبوية من جهتين، فعممت التصرفات على كل الباب السياسي، ثم جعلت التصرفات غير تشريعية، فنتج عن الخلط الجديد القول بأن أحكام السياسة مبنية على المصلحة الاجتهادية المتغيرة.
نعم، القول بأن أحكام السياسة كلها مبنية على المصلحة يقترب كثيراً من التصالح مع الرؤية الحداثية للنظام السياسي المعاصر التي لا تقبل الخضوع لمرجعية دينية في الحكم، نظراً لتمكن الفلسفة العلمانية في النظر والحكم، فحين يقال لهم إن السياسة في الإسلام كلها مبنية على المصلحة فقط، فإن هذا التفكير يبدو متصالحاً معهم، لكن من العبث أن يقال إن مثل هذا التصالح مع الفكر العلماني المعاصر كان منطلقاً من تقريرات القرافي في هذه القاعدة.
تعليق أخير:
في خاتمة بيان هذا الاجتهاد العصري نذكّر بثلاثة أمور أساسية:
أن اعتبار الشريعة للمصالح ليس محل الخلاف هنا، فلا شك أن الشريعة كلها جاءت بجلب المصالح ودفع المفاسد، وإنما الخلاف هنا متعلق بإلغاء النصوص في الجانب السياسي والاعتماد الكلي على المصالح، فلا إشكال في اعتبار المصالح، إنما الإشكال في الاكتفاء بها فقط.
أن مراعاة الضرورة والقدرة والإمكان وما احتف بعصرنا من متغيرات مؤثرة في ذلك ليس محل خلافٍ أيضاً، بل هو مجال معتبر للاجتهاد، لكنه متعلق بملاحظة واقع معين وكيفية التعامل معه، وليس في العبث بأصول الاستدلال والنظر، فالقول بأن التصرفات النبوية مصلحية غير ملزمة هو عبث بالاستدلال لا علاقة له بالضرورات وأحكامها ولا بمتغيرات العصر.
أن تحقيق أي قول لحالة تصالح مع الخطاب العلماني لا يقدم أي قوة أو مشروعية لهذا القول، فالعبرة هي بعدم مخالفة الشريعة، وليس إرضاء هؤلاء بمقصد في ذاته، فلا ينبغي أن يكون ارتكاز الذهن على إقناعهم وإرضائهم سبباً للتهاون في العبث بأحكام شرعية[18].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] أخرجه البخاري 3/106 برقم (2335).
لرئيس الحكومة المغربية سعد الدين العثماني كتاب بعنوان تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم بالإمامة فلينظره من كان مهتماً بالموضوع