لا أحد ينازع في قاعدة ارتكاب أخف الضررين، والموازنة بين المصالح والمفاسد، والتدرج في فعل الخير إن لم يمكن فعله دفعة واحدة.
وذلك أنها قواعد يقتضيها النظر العقلي السليم، قبل أن تستقر في براهين الشرع. ولذلك فأغلب العقلاء يعملون بها تطبيقا، وإن لم يؤصلوا لها تنظيرا.
ولكن..
فتحُ الباب لكل من هب ودب، أن يطبق هذه القواعد في قضايا الأمة المصيرية: مهلكة لفكر الأمة وعقيدتها، بل لكيانها ووجودها الحضاري!
وتأمل معي مُنصفا:
هذه القواعد هي التي استدل بها الصحابة الذين جادلوا أبا بكر -رضي الله عنه- حين عزم على قتال أهل الردة وإنفاذ جيش أسامة، وقالوا له (كما في الاكتفاء للكلاعي): “احبس جيش أسامة بن زيد فيكون عمارة وأمانة بالمدينة، وارفق بالعرب حتى ينفرج هذا الأمر، فإن هذا الأمر شديد غوره .. فلو أن طائفة من العرب ارتدت، قلنا: قاتل بمن معك ممن ثبت من ارتد؛ وقد اتفقت العرب على الارتداد، فهم بين مرتد، ومانع صدقة فهو مثل المرتد، وبين واقف ينظر ما تصنع أنت وعدوك قد قدم رجلا وأخر رجلا ..”
كلام سليم لا غبار عليه، يعتمد مبدأ التدرج (حتى ينفرج هذا الأمر) وموازنة المصالح والمفاسد، كما هو واضح.
فهل تعرف مسلما اليوم – أو في تاريخ الأمة كلها -، يعدّ ما فعله أبو بكر من الإصرار على قتال المرتدين وإنفاذ جيش أسامة: خطأً أو تهورا أو قلة عقل أو جهلا بالواقع – عياذا بالله؟
هذه القواعد هي التي استدل بها المعتصم حين كان الإمام أحمد يُضرب بالسياط أمامه فقال له: “يا أحمد علام تقتل نفسك؟! إني والله عليك لشفيق. أتريد أن تغلب هؤلاء؟”. تأمل: “أتريد أن تغلب هؤلاء؟”. الموازنة المادية واضحة وضوح الشمس، فليت أحمد -الذي لا يستطيع أن يغلب الدولة وجلاديها وعلماءها- ينقذ نفسه أولا، ثم بإمكانه أن يتدرج بعد ذلك في إيصال العقيدة السليمة للناس. وما الذي سيربحه أو ستربحه عقيدة أهل السنة، إذا هو قتل نفسه؟!
هذه القواعد هي التي استدل بها القائلون عندنا زمن الاستعمار: يستحيل أن نغلب فرنسا (وقد كانت قبل الحرب الثانية تملك أعظم جيش بري في العالم، وتتحالف مع أقوى دول الكفر)، وهؤلاء المجاهدون يعرضون أنفسهم وأهليهم للهلاك، بل يعرضوننا معهم للأذى الشديد، ويتسببون في تدمير القرى والمدن. وفرنسا – على كل حال – ليست بهذا السوء، فهي تقبل أن نمارس شعائرنا التعبدية وأحوالنا الشخصية بمقتضى الشرع دون إشكال، ولو قاومناها فقدنا كل شيء حتى هذه المساجد والزوايا التي نتعبد الله فيها!
هذه القواعد هي التي استدل بها المناصرون للسادات، حين قرر التطبيع مع إسرائيل، فقالوا: نحن عاجزون عن تحرير فلسطين كلها كما في شعارات من سبقنا، فلنرض بأهون الضررين، ولنقبل التطبيع في مقابل أن نربح سيناء ومعها نربح الاستقرار العسكري الذي يؤهلنا للتنمية الاقتصادية، بدلا من هذا الاستنزاف الذي لا ينتهي.
هذه القواعد هي التي استدل بها قادة منظمة التحرير الفلسطينية حين قبلوا الاعتراف بدولة إسرائيل، ولسان حالهم: محو هذه الدولة من الوجود مستحيل في الواقع، فلنربح على الأقل الضفة الغربية وقطاع غزة. وحينئذ كانت حماس والحركات الإسلامية في العالم – ولا تزال فيما أعلم – ترفض هذا التنازل وتواصل الدعوة إلى إلقاء اليهود في البحر من حيث أتوا! (سؤال طريف: أيهما أصعب: تطبيق الشريعة في بلد مسلم من طرف رئيس مسلم، أم إلغاء دولة إسرائيل التي تقف إلى جانبها قوى الاستكبار العالمي قاطبة، ورميها في البحر كما يقال؟).
أستطيع أن أسترسل بذكر أمثلة مشابهة كثيرة..
وتستطيع أن تذكر لي أمثلة كثيرة لإعمال صحيح لهذه القواعد..
ولذلك أقول عودا على بدء:
المصالح والمفاسد مبدأ صحيح..
التسارع في تطبيقه كيفما اتفق، وبمقتضى الرأي الفطير، مورد قبيح..
والمرجع في التقدير والموازنة: الموقعون عن رب العالمين..
نعم..
شئت أم أبيت..
المرجع هم العلماء الربانيون..
والله الموفق.
إضاءة:
لم أسفّه قط رأي من دعا إلى التدرج في تطبيق الشريعة في تركيا وغير تركيا، أو من عدّ المشاركة السياسة طريقا لاحبا للتغيير -مع مخالفتي لهذا الرأي-، وكيف أفعل وفيهم كثير من أحبابي وأصدقائي ومشايخي؟
ولكنني أنكر أشد الإنكار على من يتبنى هذا القول، ثم هو ينبز المخالف بالسفه وغياب العقل والجهل بالواقع وتضليل الناس، وكلمات أخرى من معاجم الشدة المنزلة في غير موضعها، وعلى غير مستحقها!
وأنا أحمد الله على نعمه الكثيرة، والتي من أعظمها: نعمة تمييز مراتب الخلاف، وحسن تدبيره بمقتضى هذه المراتب، وعلى أنني لا أرفع الاجتهاديات إلى مرتبة القطعيات، ولا أسفّه رأي المخالف لي في أمر اجتهادي يعيى بتأصيله جهابذة المفكرين والعلماء!