تعديل المدونة.. لم يفلحوا في تسديد الضربة القاضية!

04 يناير 2025 22:03

هوية بريس – الأستاذ الحاجي الوزاني (*)

عقد وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية أحمد التوفيق لقاء تواصليا أمام الإعلام الوطني والدولي يخبر فيه الرأي العام بمخرجات مراجعة وتعديل مدونة الأسرة، ومما جاء على لسان الوزير قوله: “رأي المجلس العلمي الأعلى جاء مطابقا موافقا لأغلب المسائل والقضايا التي رفعت إليه، البالغ عددها سبع عشرة مسألة (17)” ثم بين الوزير أن المجلس اقترح “فيها حلولا بديلة من الأفضل الأخذ بها”، ثم أشار إلى ثلاث مسائل رفضها المجلس بسبب مخالفتها لنصوص قطعية، وهي استعمال “الخبرة الجينية لإثبات النسب”، و “إلغاء العمل بقاعدة التعصيب”، ثم “التوارث بين المسلم وغير المسلم”.

ويهمني من هذه المسائل الثلاث؛ المسألة الأولى المتعلقة باللجوء للخبرة الجينية من أجل إثبات النسب، حيث إن كثيرا من الإعلاميين والمثقفين والمدونين تساءلوا: هل الإسلام ضد العلم؟ كيف نأخذ بالظن ونرفض اليقين؟ كيف يقبلون بالخبرة الجينية في الجرائم وغيرها ويرفضونها في إثبات النسب؟ إلى غير ذلك من الأسئلة التي تكشف عن غموض في هذه المسألة، وهنا لا أتحدث عن التيار النسوي المعلوم، فهو تيار يمارس الضغط في إطار حربه على هوية المغاربة بشتى السبل، المشروعة منها وغير المشروعة، ويلجأ إلى التضليل الإعلامي تارة، واستعارة التقية من الشيعة تارة أخرى؛ بل أتحدث عن بعض المثقفين الذين لهم جهود كبيرة في الدفاع عن قيم المغاربة وهويتهم، ومنهم على سبيل المثال؛ الباحث إدريس الكنبوري، حيث نقلت عنه صحيفة (صوت المغرب)، والعهدة عليها؛ قوله: “لا يمكن رفض وسيلة علمية دقيقة بحجة التمسك بالمنهج التقليدي، وفي نفس الوقت؛ قبول أفكار أو تغييرات ذات طابع إيديولوجي”، ثم يضيف: “الفقهاء قد حسموا منذ عقود في جواز اللجوء إلى الوسائل العلمية الحديثة إذا كانت توفر الحسم والدقة”، ثم وصف الدكتور إدريس هذا الموقف بكونه “متناقضا يعيق تحقيق العدالة، خاصة وأن الإسلام يدعو دائما إلى الأخذ بالعلم والتطور في تحقيق الحق”.

فهل صحيح أن الفقهاء منعهم الجمود والتقليد من مسايرة التطور العلمي ورفض نتائجه اليقينية؛ أم أنهم وقفوا موقفا تاريخيا ضد الضربة القاتلة التي كانت موجهة بإحكام للأسرة؟

بالرجوع إلى اللقاء الصحفي لوزير الأوقاف؛ نجد السيد الوزير يعلل هذا الرفض على لسان المجلس العلمي الأعلى بقوله: “لأن ثبوت النسب يخالف الشرع، والدستور، ويؤدي إلى هدم مؤسسة الأسرة، وخلق أسرة بديلة”، والجملتان الأخيرتان ثقيلتان بمعان خطيرة تكشف حجم المخطط والمؤامرة ضد الأسرة، فأين يخالف إثباتُ النسب بالخبرة الجينية الشرعَ والدستور؟ وكيف يهدم مؤسسة الأسرة لتحل محلها أسرة بديلة؟

يخالف الشرعَ مخالفة صريحة، حيث تقرر في الشريعة الإسلامية إجماعا أن الأسرة لا تكون إلا عن طريق الزواج الشرعي بأركانه وشروطه، وهو حكم لم يستنبطه الفقهاء ظنا من الحديث الظني (الولد للفراش وللعاهر الحجر)؛ بل هو حكم منصوص عليه بنصوص كثيرة في القرآن الكريم، والسنة النبوية القولية والفعلية، ومتواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام، وأجمعت عليه الأمة بفقهائها ومذاهبها.

ويخالف الفصل 32 من الدستور الذي يؤكد أن “الأسرة القائمة على علاقة الزواج الشرعي هي الخلية الأساسية للمجتمع”، فالدستور هنا حدد مفهوم الأسرة، وحصر أسسها في الزواج الشرعي وفق أحكام الشريعة الإسلامية، وكل أسرة خارج هذا الإطار فهي أسرة غير معترف بها.

أما هدم مؤسسة الأسرة لتحل محلها أسرة بديلة؛ فتلك هي ثالثة الأثافي كما يقال، ومن أجل فهم هذه العبارة ينبغي أن نحرر محل النزاع ونحقق المناط، فالنسب الذي نتحدث عنه، ويرفضه الفقهاء؛ هو النسب الشرعي لابن غير شرعي وليس النسب الطبيعي، والنسب الشرعي هو النسب الناتج عن الزواج، والنسب الطبيعي هو النسب الناتج عن علاقة غير شرعية، فكل نسب شرعي فهو نسب طبيعي في نفس الوقت، وليس كل نسب طبيعي نسبا شرعيا، والاختلاف هنا منحصر في النسب الطبيعي وما يترتب عليه من آثار وأحكام.

وعندما يرفض الفقهاء إثبات النسب بالخبرة الجينية؛ إنما يرفضون النسب الشرعي وآثاره في الحمل الناتج عن العلاقات الرضائية كما يسمونها، فالولد هنا لا ينسب لوالده الطبيعي، ولا يرثه، ولا تنشأ عن هذه العلاقة مؤسسة الأسرة، لكن المجلس العلمي الأعلى قدم اجتهادا في هذه المسألة، جاء في جواب المجلس، كما هو موجود في موقع وزارة الأوقاف؛ “تحميل الأب كالأم المسؤولية عن حاجيات الولد”، وهو اجتهاد سديد، فالخطأ منهما معا، ويجب أن يتحملا معا المسؤولية، غير أن لنا تحفظا على استعمال لفظ (الأب) هنا، فالأبوة لا تكون إلا في إطار شرعي.

أما الجهات التي تدافع عن إثبات النسب بالخبرة الجينية؛ فإنما تقصد ما يترتب عليه من آثار وليس النسب نفسه، وهنا مربط الفرس، فإذا ادعت امرأة خارج فراش الزوجية بأن ولدها من فلان، وهو ينكر؛ وجب إجراء الخبرة، وإذا ثبت ادعاؤها وجب عليه ما يجب على الزوج تجاه ولده وزوجه، وتترتب على ذلك جميع الأحكام الشرعية والقانونية، ومنها الاعتراف بهذه الأسرة، وهنا يجب أن نفهم ما نبه إليه المجلس بقوله “ويؤدي إلى هدم مؤسسة الأسرة، وخلق أسرة بديلة”، فالأسرة التي ستُهدم وتُقوض أركانها؛ هي الأسرة التي يربطها ميثاق شرعي بين رجل وامرأة على وجه الدوام، غايتها الإحصان والعفاف وإنشاء أسرة مستقرة، والأسرة التي ستحل محلها هي الأسرة التي تربطها غريزة حيوانية بين عاشق وعشيقته، غايتها إشباع الشهوات وما ينتج عنها تبعا لا أصالة من مواليد، أي أننا سننتقل من أسرة منضبطة تسود فيها المودة والرحمة، ورعاية حقوق الأطفال المادية والنفسية والتربوية؛ إلى أسرة متحررة من جميع القيود، غايتها المتعة الجنسية وإسقاط الأجنة وإعدامها ظلما وعدوانا.

وإذن، ليس هناك رفض لوسيلة علمية نتائجها قطعية، وتمسك بوسائل تقليدية ظنية؛ بل هناك معركة بين الهدم والبناء، بين من يريد استعمال هذه الوسيلة (ADN) سُلَّما لتفكيك الأسرة وتخريبها من الداخل، وبين من يريد المحافظة عليها وقطع الطريق على المتربصين بها، ففقهاء المجلس العلمي الأعلى ليسوا أغبياء إلى درجة السقوط في التناقض ورفض البدهيات، لكن مع الأسف الشديد مرت هذه المسألة مرور الكرام، ولم تأخذ حظها من النقاش رغم أنها أخطر من أخواتها، بل إن كثيرا من الناس أساؤوا فهمها وسقطوا في الفخ دون أن ينتبهوا. إن ضرب مؤسسة الزواج كانت ضربة قاضية خُطط لها بإحكام؛ لأن الأسرة إن سقطت؛ سيسقط جميع ما يبنى عليها، فهي الأصل وغيره الفرع، والفرع يسقط بسقوط أصله، لكن المجلس العلمي الأعلى كان لها بالمرصاد، لما تنبه إلى خطورتها، وأدرك مقاصدها، ثم قام مشكورا بإشهار سد الذريعة في وجهها.

ــــــــــــــــــــــــ

(*) الأستاذ الحاجي الوزاني: باحث في العلوم الشرعية، ومفتش تربوي للتعليم الثانوي التأهيلي.

آخر اﻷخبار
1 comments

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M