تعديل مدونة الأسرة المغربية وسؤال المرجعية
هوية بريس – د.محمد شاكر المودني / أستاذ التعليم العالي / مكناس – المغرب
مقدمة:
إن الأسرة في التصور الإسلامي ومنظومته التشريعية وحدة اجتماعية في غاية الأهمية، ولبنة من أهم لبنات المجتمع الإسلامي؛ صلاحه في صلاحها، وفساده في فسادها، وهي مؤسسة من أهم مؤسسات التنشئة الاجتماعية، وإنتاج وإعادة إنتاج القيم..
على مر التاريخ الإسلامي حافظت الأسرة على الخصوصية الحضارية للأمة الإسلامية، وحفظت فطرة الإنسان وآدميته وكرامته الإنسانية إلى حد كبير.
ولكن تحولات قيمية كبيرة باتت تعرفها الأسرة المسلمة عامة والمغربية خاصة جراء التحولات الاجتماعية الجارية، وزحف النموذج المجتمعي الغربي، في وقت تعيش فيه هذه الأسرة المغربية المسلمة الهشاشة الاجتماعية والتربوية والنفسية، تجعلها اليوم مهددة في هويتها وخصوصياتها الحضارية..
وإذا كان هذا الواقع الاجتماعي العام له علاقة بما هو سياسي واقتصادي وثقافي عامة، فإن النقاش العمومي الدائر اليوم حول موضوع تعديل مدونة الأسرة له طبيعة خاصة، إذ هو موضوع قديم جديد؛ بدأ منذ وضع مدونة الأحوال الشخصية عام 1957م، وما رافقه من نقاش، ثم ما تبعه من مواكبة مجتمعية لمختلف مراحل التنزيل والتطبيق، حتى جاء التعديل الأول سنة 1993م، ثم تعديل سنة 2004م إلى مدونة الأسرة، مع مراعاة الأطراف المختلفة، والمطالب المتنوعة، ومنطق التقاطبات السياسية والتجاذبات الاجتماعية التي بلغت أحيانا حدة لم تسبق، ما أدى إلى نسج خيوط المدونة بما يسهم في حل مشاكل المجتمع، ويجيب عن الأسئلة العالقة، ويستجيب للحاجات المجتمعية، مع الحرص على التوافقات السياسية والسلم الاجتماعي، دون الإخلال بمقتضيات الشريعة الإسلامية وأحكامها وحكمها ومقاصدها…
واليوم، وبعد 19 سنة من تنزيل آخر نسخة لمدونة الأسرة يتجدد النقاش، وترتفع المطالب بتعديل المدونة وتجديدها لمسايرة المستجدات، ومواكبة التحولات، وتجاوز الإشكالات..
فهل هناك من دواعي حقيقية للتعديل؟
وهل التعديل يتعلق بكل بنود المدونة أم بعضها؟
ووفق أي مقاربة يمكن أن يكون هذا التعديل؟ وما موقع المرجعية الإسلامية من التعديل اليوم؟ وهل يمكن الجمع والتوفيق بين المرجعية الإسلامية وغيرها في التعديل؟
وما هي الشروط والضوابط التي ينبغي مراعاتها عند التعديل للإسهام في تحقيق المصالح ودفع المفاسد عن أسرنا ومجتمعنا، مع الحفاظ على هويتنا، واحترام خصوصياتنا الثقافية والحضارية؟
هذا ما سأحاول الإجابة عنه في هذا البحث ومقاربته بمنهج وصفي تحليلي؛ يرصد المعطيات الرقمية، والإحصاءات الرسمية التي تكشف عمقَ المشكل، ويناقش مختلف الشبهات المثارة في الموضوع، والإكراهات والضغوطات المحيطة به، فضلا عن الخلفيات العلمية والثقافية والسياسية المؤثرة في النقاش، والموجهة للاختيارات المرتقبة لتعديل مدونة الأسرة المغربية.
المبحث الأول: في دواعي تعديل المدونة:
المطلب الأول: في دواعي التعديل:
لا شك أن مشاكل الأسرة المغربية متعددة ومتنوعة؛ تتوزع بين مشاكل تربوية، ومشاكل اجتماعية، وأخرى اقتصادية، خاصة مع واقع الفقر والهشاشة، وضعف المستوى المعيشي لـ 79,2 % من الأسر المغربية، وارتفاع نسبة البطالة إلى حوالي 77% في غضون اثنا عشر سنة من 2010 إلى 2022م، فضلا عن الأرقام المقلقة المرتبطة ببنية الأسر المغربية، وعلاقاتها الداخلية، ووظائفها الاجتماعية، وحسبنا أن نسب الطلاق والتطليق ارتفعت بشكل ملفت ومقلق؛ فقضايا التطليق تضاعفت تقريبا من سنة 2010 إلى 2022م فقط، حيث ارتفعت من 33564 حالة تطليق سنة 2010 إلى 61147 حالة سنة 2022م، في حين ارتفعت باقي رسوم الطلاق من 22452 سنة 2010 إلى 27536 سنة 2022م، ليصل مجموع حالات الطلاق والتطليق خلال سنة 2022م إلى 88683 حالة (قرابة 90 ألف)، في حين تراجع عدد عقود الزواج المبرمة من 313356 عقد سنة 2010م إلى 251847 عقد سنة 2021م، وتصير النسبة المائوية مقلقة أكثر إذا أخذنا بعين الاعتبار التوسع الديمغرافي والتزايد السكاني الذي عرفه المغرب، هذا فضلا عن واقع تزايد النساء العازبات بحوالي الضعف في حدود عشر سنوات (حسب الإحصاءات المتوفرة) حيث ارتفع من 5,3% سنة 2004م إلى 9,6% سنة 2014م[1]، مع تأخر سن الزواج، وارتفاع متوسط العمر عند الزواج الأول لدى الجنسين، وتنامي ظاهرة العزوف عن الزواج، وانخفاض نسبة الخصوبة، وارتفاع نسبة النساء المعيلات للأسر (ما بين أرامل ومطلقات ومتزوجات)، أو اللواتي يعشن لوحدهن[2].
وإلى جانب هذه المشاكل التربوية والاجتماعية والاقتصادية، تبقى المشاكل التشريعية تستقطب الاهتمام، وتحظى بالمتابعة، وتقض مضاجع مختلف المواكبين والمتتبعين لواقع الأسرة المغربية، ذلك أن المنظومة التشريعية فشلت إلى حد كبير في إيجاد حلول لمشكلات الأسر، وفي تقديم إجابات لواقعها، وفي العمل على الحد من النزيف الاجتماعي، سواء ما يتعلق بتكوينها، أو تماسكها، أو رعاية أفرادها بما فيهم الأبناء، أو حفظ حقوق أطرافها المادية والمعنوية، في الحياة أو بعد الممات.
وفي الوقت الذي نكاد نجمع على ضرورة تعديل مدونة الأسرة بما يرأب الصدع، ويجلب المصالح، ويدفع المفاسد.. تطلع علينا بعض الجهات مستقوية بهيآت ومنظمات دولية وأممية، وتمارس الضغط ليس في اتجاه حل المشاكل الحقيقية للأسرة المغربية، بل بمحاولات فرض تشريعات لا علاقة لها –أحيانا- بواقعنا الاجتماعي، بقدر ما تخدم توجهات معينة و”أجندات خارجية”، وتستنبت نموذجا اجتماعيا غريبا عن الواقع الإسلامي؛ كإلغاء تجريم الشذوذ، وإضفاء الشرعية على العلاقات الجنسية خارج مؤسسة الزواج، والعبث بالنسب وطرق إثباته[3]… فضلا عن قضايا أخرى تخالف المرجعية الإسلامية بدعوى انخراط المغرب ومصادقته على الاتفاقيات الدولية، ومثال ذلك قضية زواج المرأة المسلمة بغير المسلم، وَرَدِّ الآية الكريمة ﴿لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ ٱلانْثَيَيْنِ﴾ [النساء: 11] باعتبار ما فيها من التمييز في الإرث بين الذكور والإناث![4].. إلى غير ذلك، وتجد هؤلاء يطالبون بضرورة احترام المغرب لالتزاماته الدولية، فيطالبون بتغيير القوانين المحلية المؤطرة بالمرجعية الإسلامية لتنسجم مع المرجعية الدولية، مع العلم أن المغرب يُعمل مبدأ التحفظ فيما يخالف مرجعيته الإسلامية كما تسمح له بذلك القوانين والاتفاقيات الدولية المعمول بها[5].
المطلب الثاني: ملاحظات واستدراكات:
أولا- الاختلاف سنة كونية، والنقاش والحوار ظاهرة صحية، ولهذا أن يختلف الناس شيء طبيعي، ولا ينبغي لأحد أن يتضايق من الرأي الآخر، فالله تعالى جعل الاختلاف في الخلق من آياته الكبرى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلارْضِ وَٱخْتِلاَفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُم إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ﴾ [الروم 21]، والاختلاف سنة جارية: ﴿وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ ٱلنَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ [هود 118].
فليس العيب في الاختلاف وتباين الرؤى، ولكن العيب في العجز عن تدبير الاختلاف، وفي التضايق من النقاش، ورفض الحوار آلية لتقريب وجهات النظر والبحث عن المشترك، وتضييق مساحة المختلف فيه، والاستعانة في المقابل بأدوات ووسائل الضغط من الداخل، أو الاستقواء بالخارج…
ثانيا- تجاوب المؤسسة الملكية مع قضايا المجتمع، والتفاعل مع مطالب فئاته المختلفة في قضايا تعنيها ومشاكل تؤرقها، مَنْقَبة تُحمد لإمارة المؤمنين، وحسنة تكتب مرة أخرى في صحيفة الملك العاقل، الذي يحس بنبض المجتمع، ويُحسن التدخل في الوقت المناسب، وبالشكل المناسب، وبالصلاحيات المخولة له، فقد جاء خطاب جلالة الملك محمد السادس بمناسبة عيد العرش 2022م واضحا صريحا، إذ يقول: “وإذا كانت مدونة الأسرة قد شكلت قفزة إلى الأمام، فإنها أصبحت غير كافية؛ لأن التجربة أبانت أن هناك عدة عوائق، تقف أمام استكمال هذه المسيرة، وتحول دون تحقيق أهدافها، ومن بينها عدم تطبيقها الصحيح، لأسباب سوسيولوجية متعددة، لاسيما أن فئة من الموظفين ورجال العدالة، مازالوا يعتقدون أن هذه المدونة خاصة بالنساء. والواقع أن مدونة الأسرة، ليست مدونة للرجل، كما أنها ليست خاصة بالمرأة؛ وإنما هي مدونة للأسرة كلها. فالمدونة تقوم على التوازن، لأنها تعطي للمرأة حقوقها، وتعطي للرجل حقوقه، وتراعي مصلحة الأطفال. لذا، نشدد على ضرورة التزام الجميع، بالتطبيق الصحيح والكامل، لمقتضياتها القانونية.
كما يتعين تجاوز الاختلالات والسلبيات، التي أبانت عنها التجربة، ومراجعة بعض البنود، التي تم الانحراف بها عن أهدافها، إذا اقتضى الحال ذلك.
وبصفتي أمير المؤمنين، وكما قلت في خطاب تقديم المدونة أمام البرلمان، فإنني لن أحل ما حرم الله، ولن أحرم ما أحل الله، لاسيما في المسائل التي تؤطرها نصوص قرآنية قطعية.
ومن هنا، نحرص أن يتم ذلك، في إطار مقاصد الشريعة الإسلامية، وخصوصيات المجتمع المغربي، مع اعتماد الاعتدال والاجتهاد المنفتح، والتشاور والحوار، وإشراك جميع المؤسسات والفعاليات المعنية”[6].
ثالثا- لقد دأب المغرب رغم كل صور الاختلاف والتباين في وجهات النظر، واحتداد الصراع أحيانا.. على تدبير اختلافاته، وتقريب وجهات نظر مختلف الفرقاء السياسيين والاجتماعيين، وهو اليوم مدعو مرة أخرى إلى التفاعل الإيجابي مع تعديل المدونة، وهذا يقتضي إنصات الأطراف المختلفة بعضها إلى بعض، والتشارك في إدارة اللحظة بما يحقق مصالح كل فئات المجتمع، مع احترام المرجعية الإسلامية، ومع الانفتاح على كل كسب بشري، ومراعاة التزامات المغرب الدولية دون الإخلال بدينه أو بخصوصياته الثقافية، بل المطلوب من الجميع الحرص على حفظ هوية المغرب وعقيدة المغاربة، والعمل على الانسجام مع مقتضيات الدستور الذي يمتح من الشريعة الإسلامية أساسا.
وهنا يحق لنا أن نتساءل: لماذا هناك جهات تدافع عن المواثيق الدولية وتدعو إلى احترامها جملة، فقط لأن المغرب منخرط وعنده التزامات مع هذه المرجعية الدولية؟ في حين تغفل -أو تتغافل وتتجاهل- كون المغرب اختار الإسلام لخمسة عشر قرنا خلت (15 قرنا)، وهو أيضا منخرط ومتفاعل ومعتمد له كمرجعية أولى، وعليا، وتاريخية، ولاحمة لأبنائه ومختلف شرائحه ومكوناته الاجتماعية.. وما وضعت المدونة إلا لخدمة المسلمين أساسا لا غيرهم. ويبقى السؤال: كيف السبيل إلى التوفيق والتسديد؟! هو الذي ينبغي أن يؤرق الجميع، ويشتغل الكل بتقديم الإجابات السليمة، والمقاربات المناسبة..
رابعا- وإذا كان لبعض هذه الجهات المجتمعية ملاحظات أو اعتراضات على بعض الاجتهادات الفقهية لعدم مواكبتها للمستجدات -حسبهم- أو عدم استجابتها لبعض التطلعات، فإن هناك أيضا ملاحظات، ورفضا، أو على الأقل تحفظات كبيرة على كثير من مواد الاتفاقيات الدولية، وهي تعني الأسرة بكل مكوناتها (المرأة والرجل والطفل)، كالعبث بمفهوم الأسرة، واعتبار الزواج بين رجل وامرأة ليس هو الصورة الوحيدة لبناء أسرة؛ كدعوى المثلية، والعلاقة بين الجنسين خارج مؤسسة الزواج… وغيرها، وكالحديث عن الأم العازبة دون اعتبار لحقوق الطفل النفسية والاجتماعية، وحقه في النسب، وفي الانتماء لأسرته الطبيعية، وكحرمان الطفل من حقه في الحياة السوية، فنسمح باغتصاب طفولته المبكرة، ثم نبدي الاهتمام بطفولته المتأخرة من خلال الحديث عن زواج القاصر.. إلى غير ذلك!!
خامسا- والمؤسف كثيراً طريقة التفاعل مع قضايا الأسرة عموما والمدونة خصوصا، سواء من طرف بعض العلمانيين الحداثيين حيث طغيان النسوانية، ونَفَس الصراع، وحصر النقاش في قضايا معينة لا تستوعب كل مشاكل الأسرة المغربية (كالإرث والحضانة…)، وأحيانا رفض الدين وإقصاؤه وكأن المشكل في الدين فحسب، إذا تم إبعاده حلت كل المشاكل، مع أن واقع الأسر الغربية بالنظر إلى المشاكل التي تتخبط فيها دال رغم إبعادها للدين من حياتها أصلا… والأمر نفسه بالنسبة للتيارات الإسلامية وللمحافظين الذين لا يرون إلا العداء للدين، وكأن أسرنا بخير وليست هناك أي مشاكل، أو كأن وضع الطلاق مثلا الذي ارتفع بالشكل المهول الذي رأيناه غير مقلق…
فيحضر بالتالي نَفَس الصراع ومدافعة التيار الآخر أكثر.. وهكذا، مما لا يخدم أحداً، ولا يحقق مصلحة..
فيا قومنا ﴿ تَعَالَوِاْ اِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَآءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُم﴾ [آل عمران: 63].
المبحث الثاني: لماذا سؤال المرجعية؟!: وقفات تصحيحية:
إن حسم أمر المرجعية في غاية الأهمية، إذ ستحسم معه عدد من الإشكالات، وتغلق معه عدد من النزاعات، وتعالج عدد من الاختلالات.. وفي هذا السياق يحق لنا أن نتساءل: لماذا المرجعية الإسلامية لها إلحاحية وأولوية؟ وهل يمكن اعتماد ازدواجية المرجعية؟ بمعنى أن نجمع بين المرجعية الإسلامية والمرجعية الكونية أو المرجعية الدولية؟ وسأبدأ من السؤال الثاني لأبين مدى خطورة وتعذر اعتماد ازدواجية المرجعية، وبعض أهم الإكراهات والإشكالات التي تعترضها، ثم أعرج على السؤال الأول لِأُجَلّي حتمية وأهمية اعتماد المرجعية الإسلامية.
المطلب الأول: في ازدواجية المرجعية:
أول سؤال يمكن أن يتبادر عند من حسنت نياتهم هو: لماذا لا نجمع بين المرجعيتين الإسلامية وما يسمى الكونية أو الدولية؟
والجواب ببساطة دون الدخول في الخلفيات الفكرية المؤطرة، هو أن هناك قضايا كثيرة ليس فيها أي مشكل، ويمكن أن يكون فيها التوافق، ويمكن أن نبحث لها عن تقارب، ويمكن فيها ردم الهوة الحاصلة، والمشترك الإنساني على العموم كثير.
ولكن المشكل في بعض القضايا، ورغم قلتها، لكنها لافتة وحاسمة، فبقدر ما يتشبث العلمانيون دعاة اعتماد المرجعية الكونية بوجهة نظرهم، ويتعللون بكون المغرب انخرط في الاتفاقيات الدولية، مما يقتضي التزامه، فضلا عن أن هذا توجه دولي.. إلى غير ذلك، مما قد يتضخم إلى درجة التهديد والضغط والاستقواء بجهات أجنبية.. بالقدر نفسه تجد المحافظين والمتدينين ومعهم القاعدة العريضة من أبناء الوطن يتشبثون بدينهم وقيمهم وأعرافهم، ويعتبرون المرجعية الإسلامية أسمى من أي مرجعية، والتزامهم بدينهم سابق لأي التزام، وتسندهم الاتفاقيات الدولية التي تكفل للمغرب حق التحفظ على ما يخالف الشريعة الإسلامية ولا يحترم الخصوصيات الثقافية..
وفيما يلي بعض الأمثلة من التعارض المحرج:
– مسائل متعلقة بالزواج:
– المادة 16 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي ينص على أن “للرجل والمرأة، متى أدركا سنَّ البلوغ، حقُّ التزوُّج وتأسيس أسرة، دون أيِّ قيد بسبب العِرق أو الجنسية أو الدِّين”[7].
– وكذلك المادة 16 من اتفاقية القضاء على جميع أنواع التمييز ضد المرأة، والتي تنص على المساواة بين الرجل والمرأة، وضرورة اتخاذ “الدول الأطراف جميع التدابير المناسبة للقضاء على التمييز ضد المرأة في جميع الأمور المتعلقة بالزواج والعلاقات الأسرية”[8].
في حين يحرم الإسلام زواج المرأة المسلمة بغير المسلم، كما يحرم الزواج بين نفس الجنس، مما يسمى اللواط والسحاق (أو المثلية بالتعبير المتداول اليوم).
– مسائل متعلقة بالإرث:
وضع الإسلام نظاما إرثيا عادلا وواضحا وصارما، وفق فلسفة تشريعية عامة، ومما شرعه ما جاء في الآية الكريمة ﴿لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ ٱلانْثَيَيْنِ﴾ [النساء: 11]، والتي بمقتضاها يرث الذكر ضعف ما ترثه الأنثى في سياقات معينة، في حين نجد ما يسمى بالمرجعية الكونية تدفع في اتجاه تساوي الذكور والإناث في الإرث بإطلاق، وتضرب بعين الاعتبار فلسفة الإسلام في الإرث التي تقيم الحظوظ والأنصبة على ميزان العدل لا التساوي، فيتمايز الورثة بتقديرات مصلحية لا دخل للجنس ولا اللون ولا السن فيها[9]..
واعتبر الإسلام الكفر والزنا من موانع الإرث، فلا يرث غير المسلمِ المسلمَ، كما لا يرث ابن الزنا في أبيه.. في حين نجد المرجعية الغربية لا تقيم الاعتبار للزواج الشرعي، وتسوي بين الابن الشرعي وابن الزنا..
– وما ذكرته هو للتمثيل لا الحصر، وإلا فإن هناك قضايا أخرى لا تقل أهمية، من مثل العلاقات الرضائية أو الزنا باصطلاح الشريعة الإسلامية، وزواج القاصر، وتعدد الزوجات، وإلغاء تجريم الشذوذ… وغيرها، مما سيضع المنظومة التشريعية المتعلقة بالأسرة في حرج كبير وورطة مجتمعية، وهي تبحث عن السبيل لإرضاء جهات خارجية ضاغطة لا تقيم اعتبارا للدين ولمرجعية معتنقيه من المغاربة، ولا سبيل في كثير من تلك القضايا إلى تجاوزها بالاجتهاد لقطعيتها إلا بتحريم ما أحل الله أو تحليل ما حرم الله.
وخلاصة القول: إن ازدواجية المرجعية منزلق خطير، ولا يمكن بحال أن يحل المشاكل إن لم يزدها تعقيدا، والمطلوب فتح النقاش ومراجعة ما يقتضي المراجعة وفق المرجعية الإسلامية..
المطلب الثاني: لماذا المرجعية الإسلامية؟
– المرجعية الإسلامية اختيار المغاربة لحوالي 15 قرنا، وهو الاختيار الرسمي للدولة، وعليه نص الدستور[10]، كما جاء في ديباجته: “المملكة المغربية دولة إسلامية ذات سيادة كاملة”، وفي الفصل 3: “الإسلام دين الدولة”، وفي الفصل 175: “لا يمكن أن تتناول المراجعة الأحكام المتعلقة بالدين الإسلامي”، بما يحسم مرجعية الإسلام في بلادنا، فالانضباط للمرجعية الإسلامية إذن انسجام مع الخيار الشعبي والرسمي، وموافقة للدستور المغربي.. ومع التزامات المغرب الدولية، يبقى هامش التحفظ يحفظ له ماء الوجه دوليا ومحليا …
– احترام المرجعية احترام للخصوصية، وصيانة للجسم المغربي حالا ومآلا، وحفظ للمجتمع وهويته وعلاقاته وقيمه ودينه.
– اعتبار المرجعية الإسلامية مرجعية عليا تسمو فوق كل المرجعيات من شأنه أن يحسم الخلاف في كثير من القضايا وخاصة المتعلقة بالأسرة وبالنسيج الاجتماعي ككل، ويحافظ على توازن المجتمع وتلاحمه..
– وهو اعتبار يمكن أن يسهم في ترشيد الاختيارات القانونية الشرعية، ويساعد الجهاز القضائي في نضج وسلامة أحكامه واختياراته وقراراته.
– ثم إن عوامل السعة والمرونة في الشريعة الإسلامية كبيرة، والمدونة نصت في المادة (400) على اعتماد الاجتهاد بإطلاق إذا لم يسعف المذهب المالكي، بشروط ثلاثة: قيم العدل والمساواة والمعاشرة بالمعروف.. مما يتيح إمكانية الاجتهاد من داخل الشريعة الإسلامية، مع الانفتاح على الكسب البشري الذي يحقق المصالح ويدرأ المفاسد ما لم يخالف التشريع الإسلامي.
– كما أن تجربة الاجتهاد عموما والاجتهاد المقاصدي في المذهب المالكي تجربة كبيرة وغنية يمكن الإفادة منها…
فإذا حسم أمر المرجعية، فلا بد من أمرين اثنين:
الأول: ضرورة تحرير محل النزاع، أو بعبارة أخرى؛ الجواب عن سؤال: أين المشكل؟
الثاني: ضرورة استحضار منطلقات أساسية في اعتبار المرجعية.
المبحث الثالث: في ضرورة تحرير محل النزاع في مقتضيات تعديل المدونة:
المطلب الأول: في تحرير محل النزاع: أين المشكل؟
أعتقد أننا في هذا السياق يحق لنا أن نتساءل: أين المشكل؟
– هل المشكل في الشريعة الإسلامية أم في المواثيق الدولية أم في الخلفيات الثقافية والإيديولوجية؟
– هل المشكل في المدونة كلها أم في بعض بنودها؟
في استطلاع أجراه موقع هسبريس مؤخرا[11]، ذكر أن 43.43% يطالبون بتغيير شامل للمدونة، في حين الأغلبية بنسبة 56.57% من أصل 12110 مشاركا ومشاركة أجابوا عن سؤال: هل تؤيد إجراء تغيير شامل على مدونة الأسرة؟ بـ”لا”..
وأحسب أن السؤال غير صحيح، لأنه مع كون مطلب التعديل مشروعا، فلا يعني هذا أن كل مواد المدونة غير صالحة، ولا أحد يقول بضرورة تعديل المدونة كلها، ولو تم وضع سؤال التعديل في القضايا التي تثيرها الجهة العلمانية الحداثية (كمشكل المساواة في الإرث، والعلاقات الرضائية، وزواج المسلمة بغير المسلم…) وغيرها، لانخفضت النسبة بشكل كبير، ولوجدنا أن الأغلبية المغربية المسلمة ترفض تعديل ما فيه مخالفة واضحة للشريعة الإسلامية، في حين لو سئلوا في مشاكلهم الحقيقية (كمشكل الطلاق والعنوسة وارتفاع نسبة النساء المعيلات للأسر، أو اللواتي يعشن لوحدهن…) وغيرها، لارتفعت النسبة، ولوجدنا الأغلبية الساحقة مع تعديل ما يضرهم ولا ينفعهم، ورفض ما تسبب في الوضع الذي آلت إليه الأسر المغربية.
– وهل المشكل حقيقة في المواد والتشريعات أم في الفهم والتأويل وفي التنزيل والتفعيل؟
– وهل المشكل في تعذر التنزيل السليم أم في التحايل والالتفاف على القوانين؟
– وهل إذا استبدلت مواد المدونة موضوع النظر بغيرها من القوانين الدولية سيحل المشكل، وتعالج قضايا ومعاناة الأسر المغربية؟ أم هو صورة أخرى لذر الرماد في العيون، والبحث عن مسكنات للألم بدل استئصال الداء؟
– ثم هل مشكل الأسرة المغربية أساسا منحصر في مدونة الأسرة، أم له ارتباط كذلك بالسياقات والمعطيات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية؟ مما يقتضي مقاربة تتجاوز القانوني إلى الاجتماعي والثقافي والاقتصادي وتستدعي مختلف المتدخلين.
وخلاصة القول: إن مطلب التعديل مشروع دائما، وإن التحولات المجتمعية الحاصلة تفرض مراجعات، وإن واقع الأسرة المغربية بما يعانيه من مشاكل يقتضي تدخلا مستعجلا قصد رأب الصدع وحل المشاكل.. ومن ثم نحتاج ما يلي:
أولا- الوعي بالمشاكل الحقيقية للأسر المغربية (فالتعدد لا يتجاوز نسبة 0,3% على خلاف الطلاق والفقر وغيرهما، والمساواة في الإرث ليست هي المشكل الحقيقي عند المغاربة، بل حرمان بعض المستحقين للإرث من المستضعفين من الأطفال اليتامى، والنساء، أو غير المتعلمين الذين لا يعرفون حقوقهم… وهلم جرا، ولم تُعرض على القضاء المغربي دعاوى تشكو حيفا من قوله تعالى: ﴿لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ ٱلانْثَيَيْنِ﴾ [النساء: 11]، وكذلك زواج القاصر حيث لم تتجاوز نسبة من تزوج من القاصرات 13,7% بالنسبة لمن هن أقل من 18 سنة، و0,5% لأقل من 15 سنة…)[12].
ثانيا- التجرد من الخلفيات الإيديولوجية والنفسية التي تعيق حركة الفكر والإبداع والتجديد، وتحصر الأطراف المختلفة في خندق تكرار المكرور واجترار المقول وترداد الموجود، مما لا يسعف في فك عقدة ولا حل مشكلة..
ثالثا- النَفَس المواطِنُ الصادق الغيور، الذي يسعى إلى تقديم المصالح العليا للبلد والفضلى للمجتمع.
رابعا- الحرص على الاجتهاد المقاصدي المناسب الذي يجلب المصالح ويدفع المفاسد عن الناس.
خامسا- كما أن الحاجة ملحة إلى إطلاق ومداومة النقاش المجتمعي والحوار الوطني الذي يقرب الشقة ويردم الهوة، ويبحث في الحلول المناسبة، بعيدا عن كل التحيزات والتقاطبات التي لا تخدم أحدا…
سادسا- مع الانفتاح على كل المقترحات، والنظر فيما يناسب منها مرجعيتنا الإسلامية، أو يمكن تكييفه مع مرجعيتنا الإسلامية وخصوصياتنا الثقافية، خاصة وأن عددا من أحكام الأسرة ظنية واجتهادية.
وها هنا ينبغي استحضار بعض المنطلقات الأساسية في اعتبار المرجعية، وهو ما سأطرقه في العنصر الموالي.
المطلب الثاني: منطلقات أساسية في اعتبار المرجعية:
إن المرجعية الإسلامية ليست أحكاما جافة ولا قوانين جامدة، بل إن “الشريعة ما وضعت إلا لتحقيق مصالح العباد في العاجل والآجل ودرء المفاسد عنهم”[13]، كما أن هناك مقاصد كلية لابد من استحضارها، وأصولا وكليات لابد من مراعاتها، وعليه، فأحب أن أسجل بعض المنطلقات الأساسية في المرجعية الإسلامية، لنجعلها أساس ومدار النظر والبحث في تعديل مدونة الأسرة، وصمام أمان لمختلف الآراء ومقترحات التعديل الرامية إلى بناء مدونة راشدة..
أ – مبدأ العدل والإنصاف:
ترفض الشريعة الإسلامية كل صور الظلم، وأشكال التمييز والحيف، بل إن مبدأ العدل قامت عليه السماوات والأرض، وهو من مقاصد إنزال الكتب وإرسال الرسل، قال تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِٱلْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ ٱلْكِتَابَ وَٱلْمِيزَانَ لِيَقُومَ ٱلنَّاسُ بِٱلْقِسْطِ﴾ [الحديد:24]، وحرم الله الظلم، فقال في الحديث القدسي: “يا عبادي إنِّي حرَّمتُ الظُّلمَ على نفسي وجعلتُهُ بينَكم محرَّمًا فلا تَظالموا”[14]، فلا يعقل أن يشرع الإسلام ظلما، ولا أن يقر ظلما، ومن ثم فكل حيف لحق الأسرة، وكل ظلم ظهر في المدونة وجب رفضه ودفعه وتعديله، والتقيد بالشرط الذي جاء في المدونة، والذي قيد الاجتهاد بقيم الإسلام في العدل والمساواة.
ب- مبدأ الكرامة الإنسانية:
فلا ينبغي القبول بالإهانة وكل ما فيه انتقاص أو دونية للمرأة أو لغيرها من مكونات الأسرة، فالقرآن الكريم نص على تكريم الإنسان، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي ءَادَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ ٱلطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً﴾ [الإسراء: 70]، وقال سبحانه: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا ٱلانسَانَ فِيۤ أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾ [التين: 4]، وجاءت مختلف تشريعاته راعية وحافظة وخادمة لهذا المقصد الكبير؛ مقصد تكريم الإنسان..
ج- مبدأ التكامل والتعاون:
التعاون مبدأ أصيل في ديننا، لا تقوم الحياة ولا تستقيم إلا به، ولا تصلح حياة الناس وتستوي إلا بتعاونهم، فيحتاج بعضهم إلى بعض، ويتكاملون، كما قال الله تعالى: ﴿نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ﴾ [الزخرف: 31]، كما دعا القرآن الكريم الناس إلى التعاون الإيجابي بصريح العبارة: ﴿وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلْبرِّ وَٱلتَّقْوَىٰ وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلاثْمِ وَٱلْعُدْوَانِ﴾ [المائدة: 3]. وهذا المعنى عام “والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب”؛ يشمل الحياة الاجتماعية العامة، والحياة الأسرية الخاصة، إذ البر كلمة جامعة لكل خصال الخير..
فالعلاقة الزوجية مبناها على المودة والرحمة، ومن مقاصدها السكينة والطمأنينة، وقوامها التكامل والتعاون، بل إن مبدأ التكامل والتعاون يتعدى العلاقة الثنائية بين الرجل والمرأة، ويمتد عموديا إلى التعاون بين كل أفراد الأسرة، وأفقيا بين الأسرة الواحدة وكل مكونات المجتمع…
ثم إن الحاجة ملحة اليوم إلى تضافر جهود الجميع، والتعاون على معالجة أوضاع أسرنا، واعتماد مختلف المداخل للارتقاء بالأسرة المغربية، لا الاكتفاء بالمدخل التشريعي والمقاربة القانونية.
د- مقصد الإسعاد:
وهو الذي قال فيه القرآن الكريم: ﴿طه مَآ أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ ٱلْقُرْآنَ لِتَشْقَىٰ﴾ [طه: 1]، فلا ينبغي أن تصاغ التشريعات إلا وهي تستحضر مقصد إسعاد الإنسان، ولا ينبغي مراجعة مدونة الأسرة وتعديلها إلا ومقصد إبهاج الإنسان ورسم البسمة على محياه حاضر، والعمل على إسعاد الأسر رجالا ونساء وأطفالا ماثل عند صياغة مختلف مواد المدونة.
ه- مبدأ القاعدة الأخلاقية:
فينبغي أولا عدم تغييب الأخلاق والقيم المؤطرة؛ من الأمانة والعفة والصدق والاحترام.. وغيرها عند صياغة مواد المدونة. فالمنظومة القيمية هي الضمانة الحقيقية لرعاية الحقوق وحفظها أكثر من المنظومة القانونية التي يمكن العبث بموادها، ويمكن التعسف في تنزيلها، ويمكن الالتفاف عليها.
ولهذا بني عقد الزواج في الشريعة الإسلامية على المكارمة لا المشاحة والمكايسة، على خلاف باقي العقود، وقد اشتهرت عند الفقهاء “قاعدة نفيسة: “النكاح مبني على المكارمة، والبيع مبني على المكايسة”، إذ معنى التعاقد في آصرة النكاح عارض غير مقصود، والنكاح قد وضع في منزلة أسمى من منازل العقود[15]، وهذا يفيد عندهم أن الأسرة والعلاقة الزوجية على وجه الخصوص تحتاج إلى الأساس الأخلاقي أكثر منها إلى الأساس القانوني، وأن لا تدخل المشاحة في العلاقة الزوجية وإلا أفسدتها، لأن التحايل على القوانين ممكن، وهو ما لا ينبغي في علاقة الأزواج التي ينبغي أن تتأسس على الثقة والسماحة وعفة النفس والتغاضي.. وقبلها ومعها وبعدها، على المحبة والمودة والرحمة، على خلاف عقود البيوع المختلفة فإنها قائمة أساسا على المشاحة والمشارطة”[16]. ولهذا قال تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوۤاْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الروم: 20].
ثم ينبغي ثانيا العمل على الارتقاء بالوعي العام لتقبل الاجتهادات الشرعية القاصدة الجريئة الخادمة لمصالح الأسر، حتى وإن خالفت ما اعتاده الناس، وما جرى به العمل عندهم!!
و- اعتبار العرف:
والقاعدة الفقهية تنص على أن: “العادة محكمة”، أو معتبرة، ويعتبر العرف من أصول التشريع الإسلامي، وقد بنى عليه الفقهاء كثيرا من الأحكام الشرعية، كما حضر في المدونة، فينبغي مراعاته كذلك في التعديلات المنتظرة..
جاء في المادة 5 من المدونة: “تتحقق الخطبة بتعبير طرفيها بأي وسيلة متعارف عليها تفيد التواعد على الزواج، ويدخل في حكمها قراءة الفاتحة وما جرت به العادة والعرف من تبادل الهدايا”[17].
وفي المادة 60 أن المحكمة تراعي في تحديد صداق المثل “الوسط الاجتماعي للزوجين”[18].
كما نصت المدونة في بيان مرجعيتها في المادة 400 على المذهب المالكي “والاجتهاد الذي يراعى فيه تحقيق قيم الإسلام في العدل والمساواة والمعاشرة بالمعروف”[19]؛ فحضر إذن اعتبار العرف بالنص على اعتباره مصدرا تشريعيا، وباعتماد بعض الاختيارات الفقهية المبنية على أعراف الناس وما جرى به عملهم، من قبيل ما نصت عليه المادة 5، والمادة 60، كما سبقت الإشارة إليه أعلاه، فينبغي مراعاته إذن ما لم يخالف أحكام الشريعة الثابتة أو مبادئها أو مقاصدها، أو ترتبت على مراعاته مفسدة، أو تسبب في ضياع مصلحة، أو أتى على أصل شرعي بالإبطال..
ز- الاجتهاد المقاصدي:
وقد نصت المدونة -كما سبقت الإشارة- إلى أن كل ما لم يرد في المدونة فيرجع فيه إلى المذهب المالكي أو الاجتهاد، وقيدته بشروط العدل والمساواة والمعاشرة بالمعروف..
والملاحظ أن المدونة في موادها الأربعمائة (400 مادة) تعرضت لألفي مسألة فقهية (2000 مسألة فقهية)، اعتمدت أساسا ما جاء به المذهب المالكي في حوالي (1927 مسألة فقهية)، في حين خالفت المشهور في المذهب المالكي وأخذت بالقول الضعيف فيه في (13 مسألة فقهية)، وخالفت المذهب المالكي جملة في (50 مسألة)، وخالفت المذاهب الفقهية الأربعة المشهورة في (14 مسألة)[20]، فلم تر حرجا في الأخذ بالمرجوح أو الضعيف في المذهب المالكي، كما لم تر بأسا في الاجتهاد خارج المذهب، أو حتى خارج المذاهب الأربعة، إذا كان هذا الاجتهاد يحقق المصلحة المرجوة، ولا يخالف مرجعية الأمة، ولا ثوابتها وخصوصياتها..
ومما ينبغي التنبيه عليه في سياق الحديث عن الاجتهاد، هو ضرورة التمييز بين القطعي والظني في دلالة النصوص، فالاجتهاد يكون في النصوص الظنية في دلالتها لا القطعية، ويبقى حق الدولة في التحفظ على ما جاءت به المواثيق الدولية مما خالف الشريعة الإسلامية حقا محفوظا مكفولا.
ح- منطلق الأسرة بمفهومها الإسلامي ووظائفها الحضارية:
ومن أهم ما يبغى التنبيه عليه في سياق الحديث عن المرجعية الإسلامية والمنطلقات الأساسية في اعتبارها، هو مفهوم الأسرة، وأسس بنائها، وطبيعة وظائفها، ذلكم أن الأسرة المسلمة رغم كل التحولات الاجتماعية التي عرفتها بنية ووظيفة جراء القصف السوسيو-ثقافي المتكرر، والهجوم السياسي والقانوني والتشريعي الدولي، فضلا عن ضغط الواقع الاقتصادي، وواقع ضعف الحصانة عند أسرنا، وقابليتها للانبهار والتأثر بالنموذج الاجتماعي الغربي الغالب اليوم..
رغم كل ذلك لا زالت الأسرة المغربية المسلمة متشبثة بدينها وقيمها الحضارية عموما، ولازالت إلى حد كبير تُسهم في حماية فطرة الإنسان وتصون آدميته، ولا زالت تؤمن بأسرة متكونة من ذكر وأنثى، وترفض كل النماذج الأسرية الغربية الأخرى التي يُسوق لها بقوة اليوم، ويراد تعميمها والتطبيع معها رغم مخالفتها للفطرة السوية ولأحكام الشريعة الإسلامية.. فضلا عن القيم الغربية الأخرى التي رغم كل صور الزحف، لازالت لم تستطع -إلى حد كبير- أن تقتحم على أسرنا الباب، ومدونة الأسرة بلا شك إحدى أقفال هذه الباب، بحفظها يمكن ضمان حفظ أسرنا، وبالرفع من منسوب الوعي في المجتمع يمكن أن نصون هذه الأسر ونحصنها، ونرتقي بها لتستعيد وعيها وموقعها الاجتماعي، وتستأنف أدوارها ووظائفها الحيوية والحضارية..
خاتمة:
بعد هذه الوقفات مع مدونة الأسرة المغربية، وما ارتبط بها من نقاش مجتمعي في قضايا مختلفة، وخاصة تلك المتعلقة بسؤال المرجعية، والمرتبطة بمسألة الهوية، يمكن أن أخلص إلى ما يلي:
– هناك دواعي حقيقية لمراجعة مدونة الأسرة المغربية، خاصة مع معاناة هذه الأسرة، وما تتخبط فيه من مشاكل اجتماعية واقتصادية وقانونية.
– وإذا كانت بعض بنود المدونة لا تستجيب لتطلعات الأسر المغربية، ولا تحقق بعض مصالحها، ومن ثم تحتاج إلى تعديل، فإن مشاكل أخرى صارت تعاني منها أسرنا ينبغي الالتفات إليها وإدراجها في النقاش المجتمعي قصد جلب أقصى ما يمكن من المصالح ودفع أكثر ما نستطيع من المفاسد.
– كما أنه بقدر ما تحتاج بعض مواد المدونة إلى تعديل، فإن مشكل بعض المواد الأخرى في الفهم والتأويل أو في التنزيل والتفعيل، أو في تعلقها بسياقات اقتصادية واجتماعية وثقافية وجب أخذها بعين الاعتبار.
– ثم إن النقاش المفتوح في قضايا الأسرة وبنود المدونة لا ينبغي أن يطبع بالطابع الإيديولوجي، ويغلب عليه التدافع السياسي، ويخضع للضغوطات الخارجية، بل ينبغي أن يصطبغ بالصبغة الوطنية، ويتجرد من كل الحساسيات، ويدفع كل الضغوطات، ويشتغل بما يحقق النفع والمصلحة لأسرنا في العاجل والآجل، في إطار من الاحترام ومراعاة أدب الاختلاف وحسن تدبيره، وإشراك مختلف الفاعلين والمتدخلين في الموضوع.
– إن التشريع الإسلامي لا يقبل التجزيء، وإن المرجعية الإسلامية لها إلحاحية وأولوية، وإن الازدواجية في المرجعية بالجمع بين المرجعية الإسلامية وغيرها “كونية” كانت أو إقليمية لا ينفع من جهة ويتعذر من جهة أخرى.
– وقد خلص البحث أيضا إلى ضرورة اعتبار بعض المنطلقات الأساسية في مراجعة وتغيير مدونة الأسرة، والتي من شأنها أن تساعد في جسر الهوة بين الفرقاء، وحسم كثير من النقاش، وترشيد عدد من المواقف والاختيارات، ومن أهم هذه المبادئ والمنطلقات:
-مبدأ العدل والإنصاف
-مبدأ الكرامة الإنسانية
-مبدأ التكامل والتعاون
-استحضار مقصد الإسعاد
-مبدأ القاعدة الأخلاقية
-اعتبار العرف
-اعتماد الاجتهاد المقاصدي
-منطلق الأسرة بمفهومها الإسلامي ووظائفها الحضارية
– ولا ينبغي إغفال كون الأسرة إحدى أهم المؤسسات الاجتماعية في المجتمع الإسلامي، وإحدى أهم روافد تطعيم المجتمع بالمدد القيمي، وإحدى أهم القلاع التي لا زالت تحصن مجتمعاتنا وتصون هويتها وتحفظ دينها وخصوصياتها الحضارية، والتحدي الكبير اليوم أن ينخرط العلماء والمفكرون، وذوو الرأي والنظر، ومختلف المهتمين والمتدخلين، في النقاش المجتمعي الرامي إلى تعديل مدونة الأسرة، تحصينا للمكتسبات وترشيدا للآراء والمواقف والاختيارات، ولا يكتفون بمواقع الرفض والمعارضة، بله مواضع الفرجة والمتابعة.
لائحة المصادر والمراجع:
- المندوبية السامية للتخطيط، تقرير المرأة المغربية في أرقام 2023م.
- اتفاقية فيينا لقانون المعاهدات لعام 1969م، بموقع الأمم المتحدة.
- نص الخطاب الملكي السامي لصاحب الجلالة الملك محمد السادس، بمناسبة عيد العرش المجيد بتاريخ 30 يوليوز 2022م، بموقع وزارة التضامن والإدماج الاجتماعي والأسرة.
- الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، بموقع الأمم المتحدة.
- اتفاقية القضاء على جميع أنواع التمييز ضد المرأة، بموقع الأمم المتحدة.
- الدستور الجديد للمملكة المغربية: منشور بالجريدة الرسمية، طبعة 2011م، بموقع الأمانة العامة للحكومة.
- استطلاع أجراه موقع هسبريس، الأربعاء 08 مارس 2023م.
- صحيح مسلم: أبو الحسين مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري، دار الاعتصام، 2008م.
- أسس ومنطلقات في بناء الأسرة المسلمة: الدكتور محمد شاكر المودني، مجلة آصرة، تصدرها جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، العدد3، نونبر 2021م.
- مدونة الأسرة: الجريدة الرسمية، عدد 5184، بتاريخ 14 ذو الحجة 1424هـ/ 05 فبراير 2004م.
- التدافع الراشد في مدونة الأسرة: الدكتور أحمد كافي، موقع الجديدة نيوز.
- مقاصد الشريعة الإسلامية: للشيخ الطاهر ابن عاشور، دار النفائس – الأردن، ط2، 1421هـ / 2001م ص 445.
- نظام الإرث في الإسلام: الدكتور أحمد كافي، والدكتور عبد الله الجباري، والدكتور نور الدين الخادمي، من إصدار مركز المقاصد للدراسات والبحوث، سلسلة دراسات 5، مطبعة شمس برانت – الرباط، ط1، يناير 2019م.
- الموافقات في أصول الشريعة: للإمام أبي إسحاق الشاطبي، دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان، ط1، 1411هـ / 1991م.
- مواقع إلكترونية:
- موقع يوتيوب: https://youtu.be/5Ww_dVZYZv4
- موقع العمق المغربي: al3omk.com
- موقع هسبريس: hespress.com
- موقع جامعة منيسوتا: hrlibrary.umn.edu/arabic
- موقع المندوبية السامية للتخطيط: hcp.ma
- موقع الأمم المتحدة: un.org
- موقع وزارة التضامن والإدماج الاجتماعي والأسرة: social.gov.ma
- موقع الأمانة العامة للحكومة: sgg.gov.ma
- موقع الجديدة نيوز: eljadidanews.com
[1] – وهذا آخر إحصاء رسمي متوفر (2023م)، انظر موقع المندوبية السامية للتخطيط www.hcp.ma.
[2] – انظر هده المعطيات الإحصائية بموقع المندوبية السامية للتخطيط، الإحصاء العام للسكان والسكنى، وتقرير المرأة المغربية في أرقام (لسنة 2023م)، موقع المندوبية: www.hcp.ma.
[3] – انظر تصريحات وزير العدل المغربي عبد اللطيف وهبي التي أطلقها في برنامج “حوار في العمق” الذي يقدمه مدير نشر جريدة العمق: www.al3omk.com، وكذلك قوله في تصريح له لموقع “كود”: “إننا نتجه إلى عدم تجريم العلاقات الرضائية في الفضاء الخاص (إلغاء نص التجريم)، وسنضع بعض الشروط في الفضاء العام مع تخفيض العقوبات المنصوصة عليها في القانون الجنائي” انظر: https://youtu.be/5Ww_dVZYZv4، فضلا عن تصريحات أخرى لمختلف الفاعلين من الحداثيين والحداثيات في قضايا مختلفة على الأنترنيت..
ومعلوم أن ما يسمى العلاقات الرضائية هو الزنا بعينه الذي حرمه الإسلام، وكذلك حرم الشذوذ أو ما يسمونه بالعلاقات المثلية وهو اللواط والسحاق، وحرم زواج المسلمة بغير المسلم… إلى غير ذلك مما يحتاج إلى مزيد بيان وتفصيل لا يسمح به هذا السياق، وتكفي فيه هذه الإشارات.
[4] – انظر بعض هذه التصريحات في تسجيل صوتي على اليوتوب تحت عنوان: “دعم الحداثيين موقف وزير العدل عبد اللطيف وهبي من مراجعة وتعديل مدونة الأسرة خاصة المساواة في الإرث”، بالموقع:
https://www.youtube.com/watch?v=-M6spDrrqys، وأيضا تصريحات عدد من القيادات النساء العلمانية بموقع جريدة هسبريس الإلكترونية: www.hespress.com/حقوقيات-والمساواة-في-الإرث-1259679
[5] – جاء في اتفاقية فيينا لقانون المعاهدات لعام 1969 تعريف للتحفظ بأنه “إعلان من جانب واحد، أيا كانت صيغته أو تسميته، تصدره دولة ما عند توقيعها أو تصديقها أو قبولها أو إقرارها أو انضمامها إلى معاهدة، مستهدفة به استبعاد أو تغيير الأثر القانوني لبعض أحكام المعاهدة من حيث سريانها على تلك الدولة” (انظر نص اتفاقية فيينا لقانون المعاهدات بموقع جامعة منيسوتا، مكتبة حقوق الإنسان: http://hrlibrary.umn.edu/arabic).
[6] – نص الخطاب الملكي السامي لصاحب الجلالة الملك محمد السادس، بمناسبة عيد العرش المجيد بتاريخ 30 يوليوز 2022م، موقع وزارة التضامن والإدماج الاجتماعي والأسرة: www.social.gov.ma
[7] – انظر الإعلان العالمي لحقوق الإنسان بموقع الأمم المتحدة، www.un.org
[8] – انظر اتفاقية القضاء على جميع أنواع التمييز ضد المرأة بموقع الأمم المتحدة، www.un.org
[9] – يراجع كتاب نظام الإرث في الإسلام، للدكتور أحمد كافي، والدكتور عبد الله الجباري، والدكتور نور الدين الخادمي. من إصدار مركز المقاصد للدراسات والبحوث، سلسلة دراسات 5.
[10] – الدستور الجديد للمملكة المغربية، منشور بالجريدة الرسمية، طبعة 2011م، موقع الأمانة العامة للحكومة: http://www.sgg.gov.ma/
[11] – موقع الجريدة الإلكترونية المغربية هسبريس، www.hespress.com، 08 مارس 2023م.
[12] – انظر هذه المعطيات الإحصائية بموقع المندوبية السامية للتخطيط، الإحصاء العام للسكان والسكنى، وتقرير المرأة المغربية في أرقام (لسنة 2023م)، موقع المندوبية: www.hcp.ma.
[13] – الموافقات: للإمام الشاطبي، 2/4.
[14] – أخرجه الإمام مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم، ح2577.
[15] – يراجع كتاب مقاصد الشريعة الإسلامية: للشيخ الطاهر ابن عاشور، دار النفائس – الأردن، ط2، 1421هـ / 2001م ص 445.
[16] – يراجع مقال لي بعنوان: “أسس ومنطلقات في بناء الأسرة المسلمة”، بمجلة آصرة، تصدرها جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، العدد3، نونبر 2021م.
[17] – مدونة الأسرة، الجريدة الرسمية، عدد 5184، بتاريخ 14 ذو الحجة 1424هـ – 05 فبراير 2004م.
[18] – نفسه.
[19] – نفسه.
[20] – هذه المعطيات الإحصائية أنجزها الفقيه عبد الله بنطاهر التناني السوسي، وقد تعذر علي العثور عليها، فاعتمدت مقال الدكتور أحمد كافي بعنوان: التدافع الراشد في مدونة الأسرة، بموقع الجديدة نيوز: www.eljadidanews.com