تعليقات على الردود السريعة للدكتور محمد أحمين على بيان رابطة علماء المغرب العربي
هوية بريس – رضوان نافع
إن أمتنا اليوم في حال حرجة، حيث تتعرض رموزها المعرفية والقيمية لمحاولات حثيثة للإسقاط، ولا يخفى على مشتغل بالعلم الشرعي ما لذلك من التبعات على دين الأمة و قيمها، وما يسهل هذا على أعداء الشريعة في الداخل والخارج ظهور الخلافات السلبية بين هذه الرموز والتي تتحول إلى صراع ونزاع يكتنفه البغي والتنقيص و ترك العدل والإنصاف، وللأسف نرى من ذلك بين علماء الامة و دعاتها وهيئاتها وجماعاتها ما يدمي قلب المؤمن و يفرح العدو، لذلك كان لزاما على علماء الامة و دعاتها العقلاء ان يعالجوا هذا الداء ويبدؤوا فيه بأنفسهم.. فالخلاف لا بد حاصل لكن لا يلزم منه البغي و التنقيص والإسقاط للمخالف.
و يزيد من مفاسد هذا المسلك خروجه إلى الأوساط الاجتماعية و عرضه على جمهور الناس بالصحف والمجلات ووسائل التواصل مما يرجع بالانتقاص من الطرفين، فإذا كان كلا الطرفين رادا ومردودا عليه، ومنتقصا ومنتقصا منه فما تدري ما يحدثه ذلك في نفوس العامة من الاستخفاف بالطرفين.
وكفى بهذا شرا ومفسدة يتعين دفعها بترك أسبابها.
وبعد هذه المقدمة العامة التي يخاطب بها الجميع في نازلتنا، أقف وقفات سريعة مع رد أخي الدكتور محمد أحمين على البيان الذي أصدرته رابطة علماء المغرب العربي بخصوص فتوى الشيخ الفاضل أحمد الريسوني وفق الله الجميع لما يحبه الله ويرضاه.
1) مما ورد في رد الدكتور على البيان أن محرر البيان يقول بأن الخمر محرم تحريم وسائل ووصفه صاحب الرد بالهذيان و استصغره لأنه لم يفرق بين ما حرم تحريم وسيلة وما حرم تحريم مقاصد، وهذا استعجال و قصور في فهم ما في البيان نتج عنه حكم ليس في محله ، والله المستعان.
فالبيان تكلم عن تحريم التداوي بالخمر للنصوص الواردة عن التداوي بالخمر و بالمحرم و الخبيث وليس عن شرب الخمر. وأورد أصحاب البيان كلام ابن القيم وفيه ما يفيد أنه حرم سدا للذريعة حتى لا يقع المؤمن في شرب الخمر الذي حرم تحريم مقاصد، ثم بينوا بأن هذا التداوي لا يجوز ولو مع وجود الحاجة وكونه محرما تحريم وسائل، وذلك لوجود سبب أقوى ثم دعوا إلى إجراء مثل هذا على الربا من باب أولى لأنه أغلظ.
فأين الهذيان وأين الخلط؟!!
التداوي بالخمر ورد فيه نهي خاص ويظهر أنه نهي عنه لسد ذريعة قربان الخمر وتعلق النفس بها، والتداوي بالخمر ليس بالضرورة أن يكون بشربها فقد تستعمل للدهن و تنظيف الجروح والبثور التي بها صديد أو تؤخذ حقنة، ولو قلنا بأن التداوي بها شربا يلحق بالمحرم قصدا فالتداوي بها على غير هذا الوجه يتناوله النهي عن التداوي وقد يدخل في الامر باجتناب الخمر احتمالا، لذلك يجوزه بعض العلماء للحاجة- وإن كان مرجوحا للمقصد الذي من أجله أورد صاحب البيان مثال التداوي بالخمر وهو إن كان حرم للذريعة فإن هناك سببا أقوى فلا يجوز – يقول ابن عثيمين رحمه الله (قوله تبارك وتعالى: ﴿فَاجْتَنِبُوهُ﴾ هل المراد اجتناب شربه المؤدي إلى المفسدة أو الاجتناب مطلقًا؟ نقول: إذا كان الله يقول: ﴿فَاجْتَنِبُوهُ﴾ ثم قال: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ﴾ إلى آخره، علمنا أن المراد بالأمر بالاجتناب هو اجتناب الشرب، لا شك في هذا أنه اجتناب الشرب، أما اجتناب غير الشرب فهذا محل اشتباه، والورع ألا يفعل الإنسان إلا لحاجة، ألا يتدهن بهذه الأشياء إلا لحاجة؛ كالتعقيم للجرح وما أشبه ذلك) فالشيخ رحمه الله جوز التداوي بالخمر في غير الشرب للحاجة عملا – في نظري- بالقاعدة “ما حرم سدا للذريعة جاز للحاجة”.
وقال ابن مفلح في الآداب الشرعية (ذكر النووي رحمه الله أن الأصح عند أصحابهم الشافعية تحريم التداوي بالخمر، وإنما حرم الشرع التداوي بالمحرمات لأنه لم يحرمه الا لخبثه لا عقوبة، وقد قال في بعض المحرمات إنه داء فكيف يجوز أن يقال إنه دواء، ولا نفع فيه؟ وإن كان أعقب البدن والروح والطبيعة والقلب خبثا وضررا أكثر مما حصل به من النفع ولأن ذلك وسيلة وذريعة إلى تعاطيه لغير التداوي وهو علة النهي عنه و الذرائع معتبرة، ولذلك نهى عليه السلام عن امساك الخمر لتتخذ خلا).
وانظر إلى قوله وهو علة النهي.
واستعمال الخمر على ظاهر الجسم كمعقم ومطهر موضعي بقصد التضميد والمداواة فإن الشافعية أجازوا ذلك، وقد أجازه الإمام النووي في فتاويه المسماه ب(المسائل المنثورة).
فاعتبار التداوي إنما حرم سدا لذريعة تناوله لذة و شهوة وجيه.
يقول ابن القيم رحمه الله:… فإن في إباحة التداوي به، ولا سيما إذا كانت النفوس تميل إليه ذريعة إلى تناوله للشهوة واللذة، ولا سيما إذا عرفت النفوس أنه نافع لها مزيل لأسقامها، جالب لشفائها، فهذا أحب شيء إليها، والشارع سد الذريعة إلى تناوله بكل ممكن ولا ريب أن بين سد الذريعة إلى تناوله، وفتح الذريعة إلى تناوله، تناقضًا وتعارضًا”.
ومما نختم به هذه النقطة أن الرد جاء فيه التركيز على جزئية رآها مشينة – وهي ليست كذلك- و لو سلمنا أن محرري البيان أخطؤوا في إيراد مثال التداوي فما قرروه من كون القاعدة ليست على إطلاقها صحيح و قد أعرض عنه صاحب الرد، لكونه يهدم ما بنيت عليه الفتوى كما شرح ذلك الدكتور أحمين نفسه، هذا إذا سلمنا بكون ربا القرض هو من ربا الفضل.
2) الكلام الذي ورد في رد الدكتور أحمين عن المصلحة لا وجه لإيراده وكأنه يرد على كلام غير الذي في البيان.
البيان جاء فيه أن الأخذ بالقاعدة المذكورة (ما حرم سدا للذريعة جاز للحاجة) هو من باب المصلحة، وهذا الأمر لا غبار عليه، فاستباحة ما حرم وسيلة للحاجة المعتبر شرعا يدخل في تحقيق المصلحة. قال شيخ الإسلام رحمه الله : “ما كان من باب سد الذريعة: إنما يُنهى عنه إذا لم يُحتج إليه، وأما مع الحاجة للمصلحة التي لا تحصل إلا به: فلا ينهى عنه ” انتهى من ” مجموع الفتاوى”(23/214) وهذا المقصود تماما في البيان فهل شيخ الإسلام يهذي هو الآخر؟!!
والعجيب أنه استنكر الكلام ثم قرره بكلامه و كلام الإمام الشاطبي رحمه الله (فقوله كل حاجة مصلحة ولا عكس) يوافق ما في البيان من كون الحاجة مصلحة، فيا للعجب!!!!
فالمحرم سدا للذريعة يجوز عند الحاجة، والحاجة لما كانت من قبيل المصالح الراجحة فقد اختصت بارتكاب المحرم لغيره، بخلاف الضرورة فإنها تبيح ارتكاب المحرم لغيره، وتبيح أيضا ارتكاب المحرم لذاته، وهو ما نهي عنه على وجه القصد والأصالة.
والقاعدة نفسها محل النقاش تذكر فيها الحاجة مقترنة بالمصلحة، أو يكتفى بأحدهما إشارة إلى المعنى الذي قرره البيان.
ولا يخفى عليكم ان المصالح أقسام ومنها ما يتعلق بالحاجة و هو ما اصطلح عليه العلماء بالمصالح الحاجية وهي التي يفتقر إليها الناس لرفع الحرج والضيق عنهم.
فالمصلحة الحاجية هي: ما كانت المصلحة فيها في محل الحاجة لا الضرورة فيحصل بتحقيق هذه المصلحة التسهيل وتحصيل المنافع، ولا يترتب على فواتها فواتُ شيء من الضروريات.و المقصود أن إباحة المحرم تحريم الوسائل يكون رعيا للمصلحة الراجحة، و فيه ترجيح ولا بد بين المصلحة والمفسدة المزدحمتين.
3) قوله (هذا يعرفه صغار الطلبة….)
إنشاء وتنقيص جرى عليه صاحب الرد في غالب رده، ولو تأمل المكتوب لظهر له وجه الكلام كما ظهر لغيره.
4) قوله : (هذا أكبر حجة على المحرمين؛ فإذا ثبت لدى شخص الزيادة فليمتنع وليخبر بأن خطأ الأستاذ الريسوني في تقدير التكلفة لا في إباحة الربا كما يريد المحرمون أن يصوروه، فإذا صدقهم الريسوني فبها، وإلا فآلت المسألة إلى تعارض الأخبار العائدة إلى تحقيق المناط، لا إلى الخلاف في مسألة الربا).
هذه مغالطة فالخلاف مع الشيخ الريسوني في أكثر من نقطة، فالخلاف في هذه النقطة التي عمل فيها الشيخ – في نظر أصحاب البيان – بالتخمين والظن دون رجوع إلى معطيات واقعية ولا مراعاة لضوابط التكلفة الفعلية والأمر الثاني قوله بأنه لو ثبتت الزيادة على التكلفة فهي ربح يسير يباح للحاجة وهذا موجود في فتواه المسجلة فلم الحيدة؟
وقد ذكر الدكتور محمد في غير هذا المقال أن فتوى الشيخ الريسوني أخذ فيها بقول شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم ورشيد رضا في أن ربا الفضل، ومنه القرض، محرم تحريم وسيلة فيجوز للحاجة، لا سيما إذا عمت. فسواء قاله تنزلا أو أصالة، فهو لم يخرج عن أقوال أهل العلم).
فالذين ردوا قالوا بأن الشيخ الريسوني يقول بجواز قليل الربا الذي في هذه القروض للحاجة فأين التقول عليه؟ والدكتور محمد يزيد هذا الأمر تقريرا بأن ربا القرض محرم تحريم وسائل فيجوز للحاجة بل على تقريره يشمل القليل والكثير إذ لم تقيده بالقليل، فيزيد الطين بلة.
وقوله بأن الشيخ إنما قرر ذلك من باب التنزل. نقول هب أنه من التنزل فغاية ما يفيده التنزل أن الأمر بخلاف ما يقرره الذين ردوا عليه في وجود ربح زائد على التكلفة الفعلية لهذه القروض، أما إفادته تجويز هذه القروض مع وجود الزيادة فهو ثابت، فما يقرر من حكم أو مذهب حالة التنزل فهو لازم إذا تحققت صورة التنزل.. فما أدري وجه الإنكار؟
5) وفي قوله (هذا الكلام يرد على المحرمين الذين خالفوا المجامع التي أجازت التكلفة الفعلية على القروض، وهو ما أفتى به الأستاذ الريسوني، وأراد المحرمون أن يصوروه بأنه من الربا المقطوع…).
هذا كسابقه فيه مغالطة و حيدة عن إثارة الجزئية الشائكة في فتوى الشيخ وهو تجويز القرض مع ثبوت الزيادة على التكلفة الفعلية للحاجة، والبيان ليس فيه تحريم القرض إذا صاحبه اشتراط التكلفة الفعلية أبدا.
أما بقية الكلام عن تقدير التكلفة فأصحاب البيان ذكروا اعتمادهم إفادات أهل الاختصاص وهم أهل الذكر في بابهم.
وأؤكد على أن مسألة تجويز الشيخ هذه القروض ولو ثبتت الزيادة على التكلفة الفعلية للحاجة هو من باب تجويز قليل الربا للحاجة في اعتقاد أصحاب البيان وكل من رد على الشيخ، ولذلك وصفوا الفتوى بالشذوذ، و لا يسلمون بما يشرح به الدكتور أحمين فتوى الشيخ من كونه يجيز ربا هذه القروض لكونها من ربا الفضل وربا الفضل محرم سدا للذريعة، وما كان محرما سدا للذريعة جاز للحاجة، فالذين يردون لا يسلمون بكون ربا القرض هي من ربا الفضل، ومن سلم منهم بذلك لا يسلم بإعمال القاعدة (ما حرم سدا للذريعة جاز للحاجة) لكونها ليست على إطلاقها عند العلماء.. وقد أوضح أصحاب البيان هذه المسألة.
الدكتور أحمين وفقه الله في ردوده وشرحه لفتوى الشيخ الريسوني قال بالحرف (وأقصى ما يقال في فتوى الأستاذ الريسوني أنه أخذ بقول شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم ورشيد رضا في أن ربا الفضل، ومنه القرض، محرم تحريم وسيلة فيجوز للحاجة، لا سيما إذا عمت. فسواء قاله تنزلا أو أصالة، فهو لم يخرج عن أقوال أهل العلم لكنه لم يأت بنقل واحد موثق عن ابن تيمية و ابن القيم يفيد هذا.
فلو ينقل لنا نقلا صريحا يقولان فيه أن ربا القروض من ربا الفضل وأنها تجوز للحاجة، لأن أصحاب البيان ذكروا أنهما لا يقولان بتجويز ما حرم للذريعة بإطلاق، فإذا وجد سبب أقوى لم يقولا بالجواز، للحاجة و هذا يدخل فيه ربا القرض إذا تنزلنا بأن ابن تيمية وابن القيم يجعلان ربا القرض من ربا الفضل.
وإن كان هذا تخريجا على تقريرهما للقاعدة أو أن الدكتور نسب القول لهما لأنه من لوازم أخذهما بالقاعدة (ما حرم سدا للذريعة جاز للحاجة والمصلحة الراجحة)، فينبغي التصريح بهذا، ويكون بذلك يعوزه إثبات أنهما يقولان بأن ربا القرض من ربا الفضل، ولو ثبت ذلك عنهما فلا يسلم بأنهما يقولان بجواز ربا القرض للحاجة، لكون القاعدة ليست على إطلاقها فلا بد من إثبات أنهما يقولان بجوازه للحاجة.وهذا لا يعرف عنهما رحمهما الله – فيما أعلم- .. فلا ينبغي نسبة هذا القول لهما. والله اعلم.
وختاما أقول بأن الله ندب عباده إلى القول الحسن لكل الناس، وأهل العلم أولى الناس بهذا، فاللهم اجمع كلمة علمائنا و دعاتنا على الحق و الرشد ووفقهم للعمل لما فيه خير هذه الأمة وخلاصها.