تقرير بنك المغرب.. إشارات في تقييم السياسة العمومية
هوية بريس – حليمة الشويكة
صدر مؤخرا تقريربنك المغرب لسنة 2018 والذي قدمه والي بنك المغرب عبد اللطيف الجواهري أمام صاحب الجلالة، وككل سنة يعرض التقرير الوضعية المالية والاقتصادية والنقدية عالميا ووطنيا، والانجازات التي قام بها بنك المغرب في إطار مهامه..
إن ما يهم في القراءة الساسية للتقرير، ليس فقط قراءة الأرقام و المتغيرات المالية والنقدية -التي لها أهمية كبيرة في فهم الوضع الاقتصادي وعلاقته بالوضع الاجتماعي والسياسي- والتي سيهتم بها المتخصصون في المجال المالي، وإنما أيضا قراءة الإشارات التي تضمنها التقرير فيما يخص تقييم السياسة العمومية. إذ أنه لم يكتف بالوقوف عند الوضعية الاقتصادية والمالية “الصعبة” لسنة 2018 التي “لم تنجح في تقليص العجز على المستوى الاقتصادي والاجتماعي، في ظل انتظارات اجتماعية متزايدة على المستوى الداخلي، وتغيرات كبرى محفوفة بالشكوك على الصعيد الخارجي” بل تعدى ذلك إلى إصدار أحكام سريعة وغير مؤسسة حول بعض السياسيات العمومية، إذ يؤكد التقرير في سياق حديثه عما تعانيه السياسة العمومية من قصور مرتبط بغياب التنسيق والفعالية في التطبيق، أن هذا الوضع أدى إلى تدني ثقة المواطن في الإدارة العمومية وفي الهيئات الوسيطة، وأنه أصبح يرى في التردد الذي وسم السياسة العمومية دليلا على عدم الاهتمام بمصالحه المشروعة. وقد ذكر التقرير أن حالات التردد تلك تتمثل في “الجدل الذي أحاط بالقانون الإطار المتعلق بمنظومة التربية، وتدبير ملف الأساتذة المتعاقدين والمماطلات حول هوامش ربح موزعي المنتجات النفطية، ومستوى المساهمة الضريبية لبعض المهن”. وفي سياق المزيد من الأحكام الغامضة، يشير التقرير إلى أنه بالرغم من التحديات لايزال المغرب بفضل استقراره يحافظ على وضع متميز إقليميا ودوليا، وهو الوضع الذي يجب أن تحافظ عليه كافة الأطراف المعنية بتحقيقها- حسب التقرير- لطفرة فعلية عبر تجاوزها لـ”الاعتبارات الشخصية والحزبية وتعبئة جهودها خدمة لمصالح البلاد والساكنة”.
ما يمكن التقاطه من هذه الإشارات “التقيمية” هو أن النقاش العمومي حول القانون الإطار للتربية التكوين، والتحول في فلسفة التوظيف بإلغاء مفهوم الوظيفة العمومية وغيرها من القضايا الواردة أعلاه، تم اعتباره دليلا على عدم اهتمام الفاعلين بالمصالح المشروعة للمواطنين، وأن سبب عرقلة التنمية وعدم تعزيز الوضع المتميز للبلاد هو ناتج عن تغليب الاعتبارات الشخصية والحزبية على حساب خدمة مصالح البلاد. لكن، قبل التسرع في إصدار أحكام على هذه الاستنتاجات التي يفضي إليها التقرير، وعن مدى صوابها أو خطئها، يجب في البداية أن نتساءل: هل تقييم السياسة العمومية يدخل ضمن اختصاصات هذا التقرير؟ من هي المؤسسات التي وجب عليها أن تضطلع بهذا الدور؟ وهل من السليم أن نسمع في كل محاولة تقيمية تبخيسا للعمل الحزبي و السياسي؟ ألا يحتاج الأمر إلى تجاوز هذه اللغة الانطباعية المسكونة بالأحكام المسبقة واعتماد منهج علمي في تقييم السياسات العمومية؟ ألا ينبغي أن ننشغل بدل ذلك كله بالبحث عن المقاربات العلمية الملائمة لطبيعة السياسة العمومية في بلادنا؟
يمكن الجواب عن هذه التساؤلات بالرجوع إلى دستور 2011 الذي شكل تطورا في أدوار البرلمان من خلال مأسسة مناقشة وتقييم السياسات العمومية (الفصل 70) وبذلك يكون دستور 2011 لحظة حاسمة في مسار تقييم السياسات العمومية بالمغرب عبر دسترتها واعتبارها صلاحية برلمانية أصيلة. حيث أصبح بإمكان البرلمان إن يلجأ إلى مساعدة مؤسسات الحكامة لطلب الرأي والاستشارة في مختلف السياسيات والقضايا المعروضة للنقاش والتقييم. ولعل هذا ما يسمح بالتأكيد على أن الإشارات التي تضمنها تقرير بنك المغرب لا يمكن اعتبارها تقييما للسياسات العمومية، بقدر ماهي أحكام تلتبس فيها الحدود بين ما هو سياسي وتقني وانطباعي. لذلك فإن دسترة تقييم السياسات العمومية بجعلها صلاحية برلمانية، دليل على أن هذا التقييم ليس مجرد عمل تقني ينحصر في البيانات والجداول والأرقام، بقدر ما هو سيرورة لها طابع سياسي، طالما أن السياسات التي تكون موضوع تقييم، هي منبثقة بالأساس من قرارت سياسية. و طالما أن القرار ذاته ينبغي أن يعبر عن مشكل يتم السعي إلى حله، أو عن احتياجات اجتماعية معينة، فإن الحكم على سياسة عمومية بالنجاح أو الفشل يتم وفق تقييم مدى مسايرتها لتلبية تلك الحاجات ومساهمتها في حل المشاكل التي انبثقت لأجلها. لكن القيام بهذا الدور يحتاج بالضرورة إلى الوسائل التي تسمح للبرلماني بالحصول على المعطيات الدقيقة، وهي بطبيعتها معطيات تقنية توفرها المؤسسات المختصة، لتكون موضوع تقدير سياسي للفعل العمومي بناء على الرهانات التي تحكمه، وتحليل النتائج المباشرة وغير المباشرة للسياسات على المجتمع. فليس مطلوبا من السياسي أن يقوم بالمهام التقنية، كما أنه غير مطلوب من الخبراء في مجال الاقتصاد والمالية القيام بمهام التقييم السياسي، ولكن نقط الالتقاء والتعاون بينهما تتسع أو تضيق بمقدار اتساع أو ضيق الحقل السياسي.
في كل الأحوال، وبالرغم من الملاحظات السابقة، لا يمكن المرور على إشارات تقرير بنك المغرب، دون طرح السؤال حول مدى علمية أي تقييم للسياسات العمومية، سواء صدر عن المؤسسة البرلمانية ذات الصلاحية الدستورية، أو عن مؤسسات أخرى. ويأتي طرح سؤال العلمية في هذا السياق لأن تحليل السياسات العمومية أصبح اليوم علما قائما بذاته رغم الصعوبات التي تعتري موضعته، و رغم التعدد الذي تتسم به منهجيات البحث. إلا أنه ساهم في بناء مقاربات متكاملة بإمكانها أن تعين الفاعلين في فهم وتحليل و تقييم السياسات العمومية، بعيدا عن لغة الانطباعات الذاتية، أو الأحكام المسبقة. خاصة أن السياسة العمومية بتحولها إلى”فعل عمومي” -نتيجة انفتاح الدولة على شركاء آخرين في بناء السياسات واتخاذ القرار-، أصبحت أكثر تعقيدا وغموضا. فخلافا للسياسة العمومية “الصلبة”، أصبح اليوم الفعل العمومي متعدد المستويات ومتشعب الحقول ومشتركا بين عدد من المتدخلين، ما جعل العلماء في سوسيولوجيا الفعل العمومي يبحثون عن باراديغم جديد لتحليل الفعل العمومي.
وفي انتظار بلورة نموذخ تحليلي يلائم السياسة والحالة المغربية، تجدر الإشارة إلى أن أي فهم أو تقييم للسياسات العمومية بالمغرب، لا يمكن أن يحققه تقرير إو عدة تقارير مهما بلغت درجة دقة أرقامها، لأن المناهج الكمية والإحصائية في حالتنا قد تقول الشيء وضده، بينما تستطيع المناهج الكيفية فك شفرات هذه “العلبة السوداء” التي لاتزال في حاجة إلى تفعيل الصلاحيات الدستورية للبرلمان المغربي، فهل يرجع البطء في هذا الأمر إلى النخب أم إلى النسق السياسي العام أم كلاهما؟