تقييد القضاء بالراجح والمشهور وما جرى به العمل بين وزيري العدل أبي شعيب الدكالي وبلعربي العلوي
هوية بريس – د.الحسن الباز
في جلسة خاصة على هامش ندوة مركز النظام العام قي القانون والشريعة الإسلامية المنظمة بكلية الحقوق جامعة ابن زهر بأكادير في شهر يونيو الماضي – تأسف أحد أساتذة القانون على إلغاء مادة كانت تدرس في النظام القديم، وهي تاريخ المؤسسات والوقائع القانونية. ولا تخفى فعلا أهمية هذا التأريخ في الوقوف على تطور المؤسسات موضوعيا وإجرائيا، والإلمام بالتراكمات والسوابق التي ينبغي استثمار مخرجاتها في التقنين وتجويد الصياغة التشريعية ونجاعة العمل القضائي.
وبعيدا عن الإيحاءات التي يمكن أن ترد إلى ذهن القارئ عن مكانة العلماء في القضاء، وتدبير مرفق العدالة، ومستوى الأمانة والكفاءة العلمية والمهنية في التأهيل لتلك المسؤولية، مقارنة بما يلوح في الآفاق من قرائن على أن منظومة العدالة تستدرج إليه، نتيجة السياق المعاصر للعوامل الخارجية والداخلية المؤثرة في هذا المسار، وليس المقام موضع تفصيلها، فإني أقتصر هنا على بند واحد كان يرد في ظهائر تعيين القضاة، وظل العمل به في العمل القضائي بناء على الفصل المتعلق به في المدونات القانونية التي تنص على اعتماد المرجعية المالكية. وهي بالنسبة للتشريع الوطني: مدونة الأحوال الشخصية سابقا ومدونة الأسرة وقانون الالتزامات والعقود، ومدونة الحقوق العينية، ومدونة الأوقاف.
ففي بعض هذه المدونات يرد تقييد القاضي وإلزامه بالحكم بالراجح والمشهور وما جرى به العمل، وأحيانا ترد الإحالة على الفقه المالكي والاجتهاد، دون ذلك التقييد.
مدخل اصطلاحي
دون الدخول في التفصيلات الخلافية فإني أذكر بمفهوم المصطلحات الثلاثة في ما يأتي:
ا)- القول الراجح في المذهب: هو ما قوي دليله، وعلى هذا أكثر علماء المذهب. ( انطر الدكتور محمد رياض، أصول الفتوى والقضاء في المذهب المالكي، ط 1، 1996، ص 474.)
ب)- المشهور: هو ما كثر قائله.، وهو التعريف المعتمد عند أغلبية المالكية.(م س، ص 498.)
ج)- ماجرى به العمل: هو العدول في بعض المسائل عن القول الراجح أو المشهور إلى القول الضعيف أو الشاذ، لمصلحة أو ضرورة أو ملاءمة عرف، مما يقتضيه تغير الأحوال الاجتماعية. ( ينظر العرف والعمل لأستاذنا الدكتور عمر الجيدي، مطبعة فضالة 1982، ص 342.)
أولا: الإحالة على الفقه المالكي في المدونات المغربية
1-مدونة الأحوال الشخصية السابقة:
بالنسبة لمدونة الأحوال الشخصية السابقة سمح المشرع لقاضي الموضوع باستقاء بعض الأحكام مباشرة من الفقه المالكي، كما فعل في الفصل 91 الذي ينص على أنه :” يعتمد القاضي في حكمه على جميع الوسائل المقررة شرعا في نفي النسب”.
إلا أن المشرع قيد اجتهاد القاضي عند غموض النص أو نقصانه أو انعدامه- من خلال الفصول 82 و 172 و 216 و297 بالرجوع إلى الراجح أو المشهور أو ما جرى به العمل من فقه الإمام مالك. ( انظر لتقريب الموضوع الدكتور محمد الكشبور، الوسيط في شرح مدونة الأسرة، الكتاب الأول، ط 2، 2009، ص 68. )
2– مدونة الأسرة:
في مدونة الأسرة المعمول بها حاليا عدلت هذه العبارة في المادة 400 التي تنص على أن : ” كل ما لم يرد به نص في هذه المدونة يرجع فيه إلى الفقه المالكي والاجتهاد، مع مراعاة تحقيق قيم الإسلام من عدل ومساواة ومعاشرة بالمعروف.” وممن درس هذه المادة وعلاقتها بالاجتهاد الفقهي والقضائي الدكتور عبد الله أبوعوض في أطروحة بعنوان: ( أثر الاجتهاد الفقهي والقضائي في تعديل مدونة الأسرة المغربية دراسة تأصيلية في المادة 400. )
3-مدونة الحقوق العينية
تنص المادة الأولى من مدونة الحقوق العينية في فقرتها الثانية على أنه: ” تطبق مقتضيات الظهير الشريف الصادر في 9 رمضان 1331 غشت 1913 بمثابة قانون الالتزامات والعقود فيما لم يرد به نص في هذا القانون، فإن لم يوجد نص يرجع إلى الراجح والمشهور وما جرى به العمل من الفقه المالكي.”
4-مدونة الأوقاف
سارت مدونة الأوقاف على منهج مدونة الأسرة في الإحالة على الفقه المالكي، حيث لم تتقيد في الرجوع بالراجح والمشهور وما جرى به العمل. ونصت المادة 169 على أنه: ” كل ما لم يرد بشأنه نص في هذه المدوتة يرجع فيه لأحكام المذهب المالكي فقها واجتهادا، بما يراعي تحقيق مصلحة الوقف.”
ثانيا: موقفان لوزيري العدل الدكالي والعلوي
الوزير المحدث الحافظ أبو شعيب الدكالي وتقييد القضاء
يتحدث ابن زيدان في العز والصولة عن الظروف التي دعت إلى إنشاء وزارة العدلية في عهد السلطان المولى يوسف؛ ومنها فش, الاستبداد وكثرة المظالم، وامتداد أيدي العمال إلى التهجم على الأحكام في القضايا الشرعية. فأسندت هذه الوزارة إلى المحدث الحافظ أبي شعيب الدكالي، وضم إلى ذلك استيناف أحكام القضاة، أي رئاسة المجلس الاستينافي الشرعي الأعلى.
والشاهد من سيرته القضائية هو التزامه بقيد الراجح والمشهور وما جرى به العمل رغم أنه من كبار الحفاظ المحدثين، ورغم ما عرف من مخالفة بعض الفروع الفقهية المالكية لبعض الأحاديث الصحيحة المعمول بها في بعض المذاهب الأخرى,
فغي الحكم عدد 1 بتاريخ 20 ذي الحجة 1338ه في القضية رقم 243 الحاكم فيها قاضي السماط بفاس، وهي متعلقة بمسألة بين طرفين حول الشفعة، وحكم فيها القاضي بوجوب اليمين على المدعى عليه بالشراء، عملا بحديث: “شاهداك أو يمينه.”
ولما رفعت القضية إلى المجلس الأعلى للاستئناف الشرعي المكون من الفقهاء: علال الشرايبي والعباس بن ابراهيم والهاشمي ابن خضراء، وتوقيع رئيس المجلس ووزير العدلية الشيخ أبو شعيب الدكالي، نقض هذا الحكم، واستهل حكمه بالقول: ” إن القضاة محجر عليهم الحكم إلا بالمشهور أو الراجح أو ما به العمل، لقول خليل: “فحكم بفول مقلده.”
ونقل عن البهجة في شرح تحفة ابن عاصم للتسولي قوله تعقيبا على نص للقرافي: ” فجعل حكم المقلد بغير المشهور وإن ترجح عنده بقيام دليل من صحة حديث ونحوه من اتباع الهوى، وذلك يدل على وجوب نقضه.”
وفي الشطر الأخير من الحكم ورد ما يلخص موضع الاستشهاد منه وهو : ” إن سعادة وزير العدلية الشيخ سيدي شعيب الدكالي، بما له من التفويض من لدن الجلالة الشريفة، بعد أن تحقق لديه أن المرافعة في القضية المقررة أعلاه جرت على منهجها، وتمت سائر موجباتها، سواء لدى القاضي أو أثناء الاستئناف، وبعد اطلاعه على رأي مجلس العلماء الأعلى في شأنها أصدر حكمه الآتي:
حيث إن القضاة محجر عليهم في الحكم إلا بالمشهور أو الراجح أو ما جرى به العمل، وأن القاضي المقلد لا مجال له في استنباط، وأن المتعين عليه هو الحكم بالمسطر في كتب مذهب إمامه…وكانت قضية الدعوى منصوصة، وأن الصواب فيها هو أن لا يمين على واحد من المدعى عليهما، وكان حكم القاضي على المدعى عليه بالشراء باطلا، وكذلك استنباطه الحكم من الحديث الشريف باطل,…فبناء على ذلك حكمنا ببطلان الحكم القاضي باليمين على المدعى عليه بالشراء، وأنه لا يمين على واحد من المدعى عليهما، وأن التسليم المشار له لا يضر، حكما نهائيا أنفذناه وأمضيناه، وألزمنا العمل بمقتضاه، عن إذن الجلالة الشريفة أسماها الله، وحرر في التاريخ صدره 20 ذي الحجة 1338بدار المخزن السعيد بالرباط. أبو شعيب الدكالي.
( انظر الدكتور محمد رياض شيخ الإسلام أبو شعيب الدكالي الصديقي وجهوده في العلم والإصلاح والوطنية، ط 2009، ج 2 / ص 145-149.) وقد علق الدكتور أحمد الخمليشي على هذا الحكم في كتابه من مدونة الأحوال الشخصية إلى مدونة الأسرة، ط دار نشر المعرفة، 2009ـ، ص 10 ه 5، بقوله: ” أشرنا إلى هذا الحكم لكون مصدره وهو الشيخ شعيب الدكالي من كبار علماء المغرب، ويوصف بحافظ الحديث والمتبحر فيه رواية ودراية. ولذلك يكتسب رأيه أهمية فقهية وقضائية في التاريخ الذي صدر فيه.” وقد نقل الحكم من مجلة رابطة القضاة، ع 1، س 1، يناير 1964، ص 47.)
وفي الاتجاه نفسه أسوق موقف وزير آخر هو الشيخ محمد بلعربي العلوي، وكيفية تعامله مع هذا التقييد للقضاة في الأحكام.
2-الوزير السلفي المجدد محمد بن العربي العلوي وتعامله مع تقييد القضاء
هو من تلاميذ الشيخ الدكالي بجامع القرويين ، مارس التدريس وخطة العدالة والقضاء في عهد الحماية، و في السنوات الأولى من عهد محمد الخامس أسندت له رئاسة المجلس الأعلى للاستئناف الشرعي برتبة وزير، ثم تولى وزارة العدل. ( انظر حماد القباج، حياة شيخ الإسلام محمد بن العربي العلوي العالم المفكر والمصلح المناضل، ط 1، 2014، ص 111 وما بعدها. )
والشاهد من سيرته في القضاء هو ما ذكره تلميذه المختار السوسي في كتاب مشيخة الإلغيين، حيث يقول: ” وكان دائما في محاجته مع علماء القرويين لا يستدل إلا بما في كتب المالكية، وإن كان هو في نفسه على مذهب المحدثين الذين لا يختصون بمذهب . وقد قال لي مرة: إن قضايا تأتي إلى يدي، وأدرك أن الحق فيها بعكس المشهور في المذهب المالكي، فأسلك بالقضية مسالك، حتى أوافق فيها الحق الذي ينشرح له صدري، ثم لا ينكره الفقه المالكي.
ولكونه يحافظ عند تنفيذ الحكم على المنصوص من المشهور أو الراجح، لم يرد عليه فيما علمنا حكم من الاستيناف، مع أنه قل أن يكون قاض سلم من ذلك.” ( محمد المختار السوسي، مشيخة الإلغيين، ص 191 -192.
وفي الختام أشير إلى أن الإحالة على الفقه المالكي وتفييده أحيانا بالراجح والمشهور وما جرى به العمل، وأحيانا بتركه مرسلا دون تقييد وعطف الاجتهاد عليه، كان موضع اهتمام بعض الباحثين في التشريع المغربي، ومنهم على سبيل المثال: الدكتور عبد الله أبو عوض في أطروحته: أثر الاجتهاد الفقهي والقضائي في تعديل مدونة الأسرة المغربية دراسة تأصيلية في المادة 400، مطبعة الأمنية، 2011. والدكتور أحمد الخمليشي في كتابه: من الأحوال الشخصية إلى مدونة الأسرة، مطبعة المعارف الجديدة، 2012، 1/9 ، وما بعدها.
والدكتور محمد الكشبور في الوسيط في شرح مدونة الأسرة، ط2، 2009، 1/69 وما بعدها. والمؤلف نفسه ، الإسلام والنظام العام في القانون المغربي، دراسة على مستوى القواعد الموضوعية وعلى مستوى الإجراءات، ضمن كتاب القانون المغربي قي مطلع القرن الواحد والعشرين.، مجموعة من المؤلفين، ط1ـ المطبعة والوراقة الوطنية، مراكش،2017، ص 37 وما بعدها. والدكتور عبد اللطيف هداية الله، الفقه المالكي والقانون المغربي، ضمن ندوة التراث المالكي في الغرب الإسلامي، كلية آداب جامعة الحسن الثاني، عين الشق، ط المعارف الجديدة، الرباط، 1998، ص 176 وما بعدها.