تكلفة عدم الإصلاح
هوية بريس – إبراهيم أقنسوس
يتحدث الكثير من المسؤولين، والمعنيين بتدبير الشأن العام، عن تكلفة الإصلاح، ويلوحون دائما، بما تتطلبه عملية الإصلاح من إمكانيات وحاجيات وموارد، ولكنهم لا يتحدثون في المقابل، عن تكلفة الفساد، وعما يتطلبه عدم الإصلاح، من إمكانيات مادية وبشرية، وما يخلفه استمرار الفساد من خراب للعمران، ما يؤدي في النهاية، إلى إشاعة وعي مغلوط، مفاده، أن الإبقاء على الفساد، أهون وأقل تكلفة، من الإنخراط الفعلي والجدي في الإصلاح ؛ فليس في الإمكان أبدع مما كان ؛ وهذه إحدى الصيغ البلاغية النمطية البئيسة، لتبرير التخلف، وإدامة أوجه الفساد، أومداراتها بين الحين والآخر، ببعض ما يسمى إصلاحا .
لست أدري إن كان المعنيون المباشرون، بتدبير الشأن العام في بلادنا، يستحضرون، وبصدق ومسؤولية، تكلفة عدم الإصلاح، والمتطلبات الآنية والمستقبلية لترسيم الفساد، وإدامته والتطبيع معه، وغض الطرف عن آثاره، ومخاطره التي يصعب حصرها، على كافة المستويات ؛ ولنا أن نتأمل تكلفة عدم الإصلاح، أو فشله، في المجالات التالية مثلا :
_ عدم الإصلاح، أو فشله، في قطاع التربية والتعليم : يعني ترسيم الأمية، وإشاعة الجهل، وانتشار القبح، وسوء التربية، وتبخيس المعرفة، وضمور الأفق العلمي، وغياب النقاش الثقافي الجاد والمعمق، وتحويل السياسة إلى أسواق موسمية، ومراتع لتبادل السباب والصياح، وسواد التفاهة، وانتشار الضحالة، باسم الفن والإبداع، وغيرها من المسميات، التي لم يعد لها معنى، وفي النهاية، موت العقل، ما يؤدي مباشرة، وبشكل متسارع، إلى كوارث فكرية واجتماعية لا حصر لها، يأتي على رأسها ؛ العنف بكل أنواعه، الرمزية والفكرية والمادية ؛ الأنانية المرضية، الفردية والمجتمعية ؛ وبالجملة، غياب السلوك المدني ؛ ولنا أن نتصور مقدار ما تتطلبه هذه الآفات، وتداعياتها السلوكية، من إمكانيات ومجهودات، وموارد مالية وبشرية ؛ لنا أن نتصور ما تتطلبه محاصرة جحافل المتسكعين والبطالين، والمجرمين والمخربين والجهلة، بكل ألوانهم وأصنافهم ؛ فإصلاح التعليم يعني ببساطة، إصلاح العقل والسلوك معا، وتأهيل المواطنات والمواطنين، وإكسابهم مستوى مقدر من السلوك المدني .
_ عدم إصلاح الإدارة، يعني تعطيل مصالح المواطنات والمواطنين، ويعني إغراق المرافق الإدارية في دوامة من السلوكات البيروقراطية، المشبوهة والغامضة، وتحويلها إلى مراتع للريع والزبونية، وتحصيل المصالح والصفقات المغرضة، عبر أشكال من الرشاوى، والعطايا الظاهرة والخفية، ما يؤدي إلى هجرة المستثمرين المحليين، وإعراض المستثمرين الأجانب، نتيجة فقدان عنصر الثقة، ما يعني في النهاية، إرباك المصالح العليا للبلاد، وتراجع سمعتها في المحافل الدولية، وفي التقارير التي تشرف عليها وتعدها، المنظمات المدنية والحقوقية ؛ ولنا أن نتصور بعد كل هذا، مقدار الثمن الذي تؤديه البلاد كلها، نتيجة عدم إصلاح الإدارة، وعدم الرغبة في ذلك .
إنه لا مقارنة بين تكلفة الإصلاح، وتكلفة الإبقاء على الفساد ؛ فإذا كان للإصلاح متطلبات وحاجيات، محددة في الزمان والمكان والقيمة، فإن متطلبات عدم الإصلاح ونتائجه ومآلاته ، لا يمكن التحكم فيها، ولا التكهن بمساراتها ومخاطرها، لأنها تعني إفساد الحياة كلها، وتحويلها إلى ألوان من الفوضى والتيه والضياع، من هنا يحسن بالذين يتحدثون عن صعوبات الإصلاح وتكلفته، أن يستحضروا مخاطر عدم الإصلاح وتكاليفه وآثاره، حيث لا مجال لأية موازنة، أو مقارنة .