تمخض الجبل فولد ديناصورا
هوية بريس – محمد كرم
شكلت و مازالت تشكل التعديلات المقترحة المرتبطة بمشروع مدونة الأسرة الجديدة موضوع الساعة بكامل التراب الوطني، و كان من الطبيعي أن أتابع كغيري من المغاربة ما طرأ من مستجدات مع وضع سطر تحت المثير منها و مع التركيز بشكل خاص على تعليقات القراء و المعارف و التي امتزج فيها الاندهاش بالاستنكار مع تسجيل بعض الأصوات النشاز التي “نوهت بالمبيت في السجن”، و هو تعبير مغربي غني عن التوضيح.
لقد سبق لي أن صرحت في مقال نشر قبل أشهر بأن المصلحة الفضلى لأي مجتمع تقتضي من المشرع تيسير الزواج دون تعسير الطلاق. للأسف الشديد، ما نلاحظه اليوم هو تكريس الرغبة في وأد شيء فرضته الطبيعة و الغريزة إسمه الزواج و منع شيء أحله الخالق رغم مساوئه إسمه الطلاق. و في الحقيقة فإن هذه الرغبة تم التعبير عنها بالأحرف الأولى و بشكل معتدل إلى حد ما في العام 2004، و على الرغم من أن اجتهادات ذلك الزمن لم تفرز إلا الكوارث على كافة الأصعدة ها نحن اليوم أمام حلقة جديدة من مسلسل لن يختلف إطلاقا عن مسلسل إصلاح التعليم لا في رداءته و لا في نتائجه المنتظرة.
و سبق لي أيضا في أكثر من مناسبة أن صرحت بأن تصنيف المجتمع بشكل واضح و باعتماد مصطلحات و عبارات لا تقبل أكثر من تأويل واحد أمر لا مفر منه. فإما أن نكون مسلمين محافظين بمدونة أسرة تعكس هويتنا أو نكون علمانيين حداثيين.بمدونة مدنية تعكس قدرة نخبتنا على الإبداع التشريعي. المزج بين المرجعية الدينية و المرجعية اللائيكية طريق سيار يقود بالضرورة إلى التيه الحضاري مع ما يرافقه من تناقضات و اختلالات و اضطرابات اجتماعية و نفسية.
أنا لست مؤهلا للخوض في التفاصيل التقنية ـ الفقهية منها و القانونية ـ لكني أعتبر نفسي مؤهلا بحكم سني و تجربتي في الحياة لتصور ما سيحدث لو كتب لعدد من التعديلات المطروحة على طاولة النقاش أن تحظى بالتصديق النهائي. أستطيع مثلا أن أتصور ما سيقع إثر إقدام زوجتي على تطليق نفسها لا لشيء إلا لأنها لا تطيق زيارات أختي الصغرى المتكررة، و ما قد يحدث لوالدتي بعد وفاتي و استفراد زوجتي ببيت الزوجية خاصة عندما تكون علاقتهما موسومة بالتوتر، و ما ستكون عليه حالتي النفسية بعد زواج طليقتي من جديد مع احتفاظها بحضانة أطفالنا، و ما ستكون عليه حالتي المعنوية عندما يسمح القانون لطليقتي باستصدار جواز سفر لإحدى بناتي و تمكينها من التوجه إلى أية وجهة و لأي سبب، و ما سيكون عليه رد فعلي عندما أكتشف بعد سنوات أو شهور فقط من زواجي بأن “رفيقة دربي” إنما تتعمد استفزازي فقط بنية دفعي إلى تطليقها حتى يتحول نصف ممتلكاتي إلى ملكيتها، و ما ستؤول إليه حياتي بعد الطلاق عندما لن يسمح لي وضعي المادي الجديد بالانخراط في حياة زوجية جديدة أو ـ على الأقل ـ بمواجهة تكاليف نبيذي و مخدراتي !! … و أستطيع أيضا أن أتصور ما سيشعر به ـ بل و ما سوف يقوم به أيضا ـ زوج يفيض فحولة لكنه ممنوع من التعدد.
و بالنظر إلى طبيعة المستجدات، أعتقد بأن المشرع سيتعب كثيرا في الإحاطة بكل الحالات الممكنة و في تحديد الشروط الكفيلة بتأطيرها … و طبعا كلما ازداد كم الاجتهاد ازداد هامش الخطأ و توسع وعاء الثغرات و أصبحت الحاجة ماسة إلى إصلاح جديد بعد عشر سنوات أو عشرين سنة. كل المؤشرات توحي بأن العزوف عن الزواج هو قدر الجيل الحالي من العزاب و المطلقين و الأرامل (من الجنس الخشن بطبيعة الحال)، بل لا أستبعد أن يتم إغراق محاكم المملكة في الأيام القادمة بطلبات الطلاق و ذلك قبل أن تصبح الصيغة الجديدة للمدونة سارية المفعول. بل أنا على يقين بأن هناك جحافل من الأزواج الساخطين على أوضاعهم و هؤلاء ينتظرون فقط الوقت الملائم لطلب الانفصال … و هل هناك وقت أكثر ملاءمة من هذا ؟ … و كان الله في عون السواد الأعظم من القضاة و المحامين و العدول الذين سيكون عليهم التعايش مع الإحراج و هم يقومون بتطبيق المستجدات على مضض.
منطق الأشياء يقول بأننا لا نستبدل فريقا فائزا بآخر، إلا أنه يبدو أن حكماء العصر لم يسمعوا أبدا بهذه القاعدة الذهبية و شرعوا من تلقاء أنفسهم في الدوس على منظومة فقهية متكاملة تأكدت صلاحيتها لقرون طويلة متذرعين في ذلك بتغير أحوال العالم و بضرورة الارتقاء بوضع المرأة، بل و بضرورة إحلالها محل الرجل في قيادة سفينة الحياة الزوجية بعدما اتضح لهم ـ على ما يبدو ـ بأن الأخير غير مؤهل لهذه المهمة.
نعم، لقد تغير الزمن و حلت الدراجات و السيارات و الشاحنات و الحافلات مكان الحمير و البغال و الجياد و الإبل، و انتهى دور المرسول و جاء عصر الهاتف، و اختفت الأسرة الموسعة و حلت محلها الأسرة النووية … و … و … و لكن شرع الله يظل صالحا لكل زمان و مكان، والقيم و المشاعر و القدرة الدائمة على التمييز بين الحلال و الحرام و بين ما هو مقبول و ما هو مرفوض اجتماعيا تظل ضمن الثوابت التي لا يطالها التبديل إلا في صفوف من يرغبون في التشبه بالوطاويط أو بالنمل الطائر. لقد أصبح واضحا أن ما نشهد ه اليوم هو فقط حلقة من مسلسل طويل الغاية من وراء تأليفه و إخراجه التغيير الجذري للمجتمع و ليس فقط تجاوز المعضلات القائمة. هناك توجه صارخ نحو إعادة تشكيل أدوار المرأة و إعادة النظر في مسؤوليات الرجل و بالتالي الانسلاخ الكلي عن هويتنا الحضارية الموروثة مع الاحتفاظ فقط بالطرب الأندلسي و الكسكس ، و هذا لعمري ورش كله ألغام و ليست هناك شركة تأمين عالمية واحدة لها القدرة المادية و الجرأة المعنوية لتأمينه ضد المخاطر.
و الآن و قد أصبح الزواج في حكم المستحيل ماذا أعد يا ترى أصحاب الحل و العقد للعازبات و العزاب كبديل ؟ هل سنكون شهودا قريبا على تشريع العلاقات الرضائية أم على الترخيص لدور الدعارة أم عليهما معا ؟ أليس من شروط تحقيق الانسجام التشريعي أن يقابل أي تعسير للحلال تيسير للحرام بشكل مواز ؟ و لماذا صرفت الملايير على الإحصاء العام الأخير للسكان و السكنى ؟ ألم يكن ذلك أساسا بهدف معرفة منحى الخصوبة بالبلاد لاتخاذ ما يلزم من إجراءات للحيلولة دون ولوج المجتمع مرحلة الشيخوخة مع ما يتبع ذلك حتما من أمراض اجتماعية و اختلالات اقتصادية ؟
إن نخبة المجتمع الحقيقية و الأصيلة و خاصة بغرفتي البرلمان حيث سيتم حسم الموضوع بشكل نهائي مدعوة اليوم و أكثر من أي وقت مضى إلى رص الصفوف و استحضار المصالح العليا للبلاد و العباد و نبذ الانتماءات الحزبية و لو مؤقتا حتى يتسنى لها التصدي لما يحاك من مخططات علمانية جهنمية ستأتي على الأخضر و اليابس و سيكتوي بنارها الجميع . هذا هو الامتحان الكبير الذي ينتظر ممثلي الأمة في القادم من الأيام حتى و إن كنت أعلم بأن مطلبي هذا مطلب سوريالي بالنظر إلى ما تقتضيه “أخلاقيات” الأحزاب من طاعة و تبعية و انضباط…. أما إذا فسد الملح فبماذا سنملح؟