“تمغربيت” المفترى عليها
هوية بريس – د.فؤاد بوعلي
منذ مدة لم يعد مصطلح “تمغربيت”، أو الهوية المغربية بمعناها الضيق، يأخذ مفهوم الخصوصية المغربية بحمولتها الثقافية والاجتماعية، بل غدا مع كثرة التداول الإعلامي والسياسي “أداة تفسيرية” لمعالجة الكثير من القضايا والمواضيع المطروحة في النقاش العمومي والمنافحة عن الاختيارات المستجدة في السياسة والدين والفكر. فباسم “تمغريبت” غدا للمغاربة فهمهم الخاص للدين وتداولهم لشعائره، وباسمها فسرت الدعوة إلى التلهيج، وباسمها غدا المحتلون شتاتا مغربيا، وباسمها غدا التاريخ مركبا أسطوريا يمكن تغيير بوصلته، وباسمها أصبح المستعمر صديقا والأخ عدوا…. فهل نحن أمام اكتشاف للذات أم الأمر يتعلق بصناعة جديدة لها؟
يبدو أن النقاش الهوياتي في تمثله الجماعي كان على الدوام نقاشا مأزوما مرتبطا بالإشكالات الاجتماعية وحالات الارتباك القصوى التي تعيشها المجتمعات. حيث اهتم الغرب بالسؤال الهوياتي حين بروز الإشكالات الاجتماعية والاقتصادية نتيجة لفشل سياسات الاندماج الوطنية. ففي علم الاجتماع الفرنسي نلتقط ظهوره المكثف في منعطف سبعينات وثمانينات القرن الماضي، حين أصبحت مشكلات الاندماج الاجتماعي والمهني لدى الشباب وزيادة البطالة والفقر مسائل اجتماعية وسياسية هامة. وغدت الأزمة الاقتصادية أزمة أنتروبولوجية حسب هالبيرن. كما انتشر مفهوم الهوية بشكل كبير في الولايات المتحدة الأمريكية في الستينات أثناء تصاعد أهمية الأقليات. فكلما تصاعدت حالات القلق في الواقع بدأ البحث في مقومات الانتماء وعلل الوجود الحالي من خلال استحداث جماعات “افتراضية” استنادا إلى آليات واقعية. وافتراضيتها تنطلق من عنصرين مركبين: الأول أنها تشكل لنفسها مخيالا جماعيا تناقش به العالم والذات، وثانيهما أنها قسرية وليست اختيارية بل هي صناعة جماعية تدرج فيها الذوات وتُنَمَط. فهل المَغْرَبة تعبير عن واقع حقيقي أم هي صناعة لمخيال جماعي؟. في حديثه عن أشكال التحيز يشير الدكتور عبد الوهاب المسيري إلى التحيز للذات حين يجعل الإنسان نفسه المرجعية الوحيدة المقبولة. وفي التمثل الجماعي تغدو الذات المؤطرة بمفاهيم الوطن والجغرافيا والإيديولوجيا نموذجا للاحتماء من الآخر سواء في صورته الجهنمية بتعبير سارتر أو في صورته التواصلية بتعبير ميرلوبونتي. وفي الحالتين فالذي يحدد الآخر هو طبيعة الذات وقناعاتها.
فلا أحد يمكنه التشكيك في وجود مشترك جمعي مغربي رسمت معالمه الجغرافيا بتضاريسها، والتاريخ بأحداثه وأخطاره وتشكلاته، والوجدان الشعبي بما يحيل عليه من مقومات ثقافية واجتماعية. ولم يغب هذا الفهم عن بناة الدولة الوطنية. فالهم الجوهري الذي شغل علال الفاسي والسوسي والوزاني وكنون كان تأسيس الخصوصية المغربية في ظل المشترك الإسلامي والإنساني. لذلك كان السؤال الذي حاولوا الإجابة عنه طيلة مسيرة التأسيس والإصلاح هو: كيف نفكر بالمجتمع المغربي وفيه ؟. والوعي بهذه الخصوصية انطلق في الخطاب الوطني من وعي نقيض للطرح الاستعماري القائم على النظرة الازدرائية للإنسان المغربي والشك في قدراته الذهنية والتدبيرية للشأن الوطني . لذا فرضت ظروف الحماية على المنظر الوطني الاحتماء بالعديد من مقومات الذات التي تمكن من الانتصار في معركة التحرير وتجاوز الحديث عن العجز الذاتي للمغاربة عن تسيير الوطن. ومن ثم بدأ الحديث عن: النموذج النفسي المغربي المرتبط بطبيعة الأرض وهندسة الجغرافيا، والروح القيادية من خلال “قبول المبدأ دون السلطة”، والإنسية المغربية بتمثلاتها الذهنية. لكن هذه القناعة بالتميز لم تدفع بمنظري الحركة الوطنية إلى البحث عن التوظيف السياسوي والمؤدلج للهوية الوطنية بل كان حديثها عن الشخصية المغربية جزءا من نضالها لبناء الوطن وليس لهدم ثوابته. فالاعتزاز بالنبوغ المغربي وقدرة الذات الوطنية على التميز لم يكن وسيلة لقطع الأواصر مع العمق الهوياتي العربي والإسلامي، ولا للتخلي عن مبادئ الانتماء العقدية المشتركة، ولا لمحاولة صناعة هويات بديلة.
لذا فالاستخدام الحالي المفرط والمغالي للخصوصية المغربية “تمغريبت” يخفي الكثير من محاولات التوظيف البعيدة عن حقيقة المفهوم وكيفية بنائه في الفضاء المغربي. ورحم الله الجابري حين قال: “فالوطنية في المغرب لم تكن في يوم من الأيام تعرف “آخر” لها سوى الاستعمار والتخلف. وعندما “زال” الاستعمار أصبحت تعني، ويجب أن تعني في الدرجة الأولى، العمل للخروج من التخلف، أي من أجل “التنمية””.