“تنوير” الذين لا يفهمون الدين ولا التاريخ..
هوية بريس- محمد زاوي
يحتاج التنوير مستويات عالية من الفهم، لا مساحات شاسعة من الحلم! الذين يحلمون أكثر من إلزام عقولهم بمنهج سديد في التفكير لا بضاعة لهم يوزعونها على الناس، ولا سلعة عندهم للبيع. إنهم في حاجة إلى التنوير قبل غيرهم، فعقولهم خاوية من النظر ملأتها الطوبى والمثُل.
يجترون نوعا من الفكر طوته أوروبا نفسها، يتعلقون ب”عصر العقل” الأوروبي (القرن 18 م) وقد أصبح “عصرا للاعقل” في الغرب نفسه، يصيحون مع كانط “من أجل التنوير” وقد تساقطت أوراق كانط على يد هيجل وغيره من المفكرين الألمان؛ “تنويرهم” قديم، بل دخيل ولا ينفع أصحابه، فكيف بمن نُقل إليهم؟!
عدتهم: مثاليات عصر الأنوار الأوروبي، بعض مبادئ الثورة البورجوازية الأمريكية (1765)، أقوال رموز التصوف، قراءات تاريخية عامة للنص الديني، بعض مهارات التفكيك السيكولوجي للسلوك الديني، إلخ؛ هذه وغيرها هي مكونات عدتهم لممارسة “حرفة التنوير”!
فقد أصبح “التنوير” بين أيديهم حرفة، يمارسونها خارج المختبرات لا داخلها، يحيونها باللغو لا بالتفسير العلمي؛ يكثرون الحديث عن تقدم العلوم الغربية، وقد خاب سعيهم في طلب علم واحد، أبرزها علم التاريخ وقواعده.
لو عرفوا التاريخ وقواعده (“علم العلوم”) لأحسنوا فهم “التنوير”، ولكان تصورهم لتنوير بلدانهم من صميم ذلك الفهم، أي من صميم شروط هذه البلدان، وهي بلدان من الجنوب تعيش تحت وطأة “التبادل اللامتكافئ” اقتصاديا والاختراق الثقافي والابتزاز السياسي والحقوقي.
ولما كان فهمهم للتاريخ دون مستوى الوعي السديد بقواعده وما يفسر أحداثه، فقد ارتموا في أحضان استراتيجية لا يعونها، ليبرالية في موجتها الأخيرة والأكثر فظاعة وبشاعة، فأخذوا يتكلموان عن إنسان لا تاريخي نظريا، تاريخي في أجندة الغرب الذي أحسن صناعته كمستهلك بلا ذوق، فاقد لذاكرته الوطنية، متمرد على فطرته الإنسانية، قابل للاستعمار!
ولا نريد هنا ذكر الأسماء، فالعبرة ليست بها، بل بظاهرة تنخر مجتمعاتنا وتستغفل عقول شباب أصابت السيولة معياره الهوياتي، بل والنقدي، في ظل تعدد مصادر المعرفة وإيديولوجيات التأطير.
والحال هذه، فقد أصبح الإبهار أساس عملية “التنوير”، وليس العلم والمعرفة. وأصبح دعاة “التنوير” “وعاظا” يدعون الناس ل”ما بعد الحداثة”. أما الحداثة فيجهلون تفسيرها التاريخي، فيعجزون عن استيعاب جوهرها الاجتماعي وحقيقتها الملموسة، فكيف سيبشرون بها إذن؟!
يتطلب الحديث في الدين مؤهلين لا غنى عنهما: العلم بمضمون الدين، والعلم بتاريخه. أما التاريخ فقد بينا افتقار دعاة “التنوير” لصنعته وقواعده، ومنه افتقارهم لتاريخ الدين والشروط الاجتماعية التي ظهر فيها. وأما مضمون الدين فبضاعتهم فيه أقل من القليل، أحكام هنا وهناك، وشبه قديمة يعاد تدويرها في قوالب جديدة. لا يعرفون من علوم الشريعة إلا “ما يجب نقده” أو حالات شاذة واستثنائية تستحضر لمناظرة ما أجمع عليه الجمهور.
يتخصصون في نوادر الفقه والتعليق على بعض أحكامه، لا في الأصول والصناعة الفقهية؛ يتخصصون في التنقيب عن عسير الأحاديث فهما، لا في علوم المصطلح والرجال والجرح والتعديل؛ في المتشابه يتبعونه ابتغاء تأويله وفي أسباب النزول، لا في علوم القرآن والقراءات والتفسير؛ في إظهار الخلاف بين البصرة والكوفة في النحو، لا في النحو والصرف والأدب (البلاغة) ككل؛ في الجذور الاجتماعية لخلاف الفرق العقدية، لا في علوم الكلام والتوحيد والعقائد… بذلك يتصورون جزءا من الظاهرة لا كلها، ويملؤون عجزهم عن استيعاب علوم الشريعة بتأويلاتهم الخاصة.
لا يجدون للتاريخ تفسيرا، ولا يفهمون الدين لا بتاريخه ولا في بنيته الخاصة؛ فكيف “التنوير”؟!