تهميش التعليم أو الرهان الخاسر
هوية بريس – ابراهيم الناية
قد تتناسل مجموعة من الأسئلة في مجتمعات الجهل والتخلف أو المجتمعات التي تسيطر عليها عقلية التجار الانتفاعيين، الذين يقدسون السلطة والمال، وينظرون إلى المدرسة على أنها مبعث القلق أو منبت الاضطراب المجتمعي، ولذلك يبدو التساؤل في نظرهم عن جدوى التعليم وفائدته ،تساؤلا مشروعا ،سيما أنهم يرون فيه مجالا خصبا للإنفاق دون أية فائدة أو مردودية .
ولكنهم لا يدركون حقيقة سؤال آخر وجيه : أيهما أكثر تكلفة ؟ الجهل أم التعليم؟ بل يغيب عن أذهانهم سؤال آخر له أهميته القصوى : كيف يمكن الحديث عن بناء العقل والذات والتاريخ والحضارة في غياب منظومة تعليمية هادفة؟ ولذلك فهم ومنذ البداية يشككون في دور التعليم ورسالته ،ولا غرابة في ذلك، فالذين زرعهم الاستعمار في مستعمراته السابقة -ولكي تبقى تدور في فلك دول الهيمنة وحاملة لواء التبعية ودون أن تبني ذاتها أو أن تحلم بمستقبل واعد – نجدهم يتساءلون عن جدوى وفاعلية التعليم بل إنهم لا يترددون في نشر الادعاءات المغرضة حول مهمة المعلم أو رجل التربية والتعليم ، وعادة ما يوضع ضمن قائمة الفاشلين الذين لا يقومون بالواجب ، أو ضمن خانة المخربين الذين يثيرون القلاقل والفوضى والفتن. وهكذا يتم النظر إلى المدرسة وفق عقلية تجارية مؤداها : أنها لا تجدي نفعا.
ولكن هناك ملاحظة ينبغي طرحها : وهي أنه لا يدرك حقيقة الجهل إلا من ولج عالم المعرفة وتذوق حلاوة الأفكار والقيم ،وكيف كانت تلك الظلمات تحجب عنه الحقيقة وأنوارها ، ويعلم ذلك جيدا الإنسان الذي حدث الإنقلاب في حياته وانتقل من مطالب الجسد وشيئية الحياة إلى عالم الروح والفكر والثقافة، ولذلك إن التقابل بين الجهل والمعرفة مسألة قائمة منذ الأزل في حياة الناس والسؤال الملح : كيف يمكن أن ننتقل من الجهل إلى المعرفة ؟ وهذه هي المسألة الأساسية التي تعاني منها الشعوب المسلوبة الإرادة والتي تسبح في فلك دول المركز ، سياسةً واقتصاداً وفكراً وسلوكاً وأخلاقاً، فهي لا تطرح مسألة التقابل بالمنطق الذي يتعين أن تطرح به وإنما تسلك طريقاً مغايراً يتجسد في التساؤل عن جدوى التعليم وفائدته والنظر إليه كقطاع استهلاكي مكلف لخزينة الدولة ومرهق لها، وقد لا يتوقف الأمر هنا وإنما يتجاوز ذلك أحياناً إلى التساؤل حول قيمة المعرفة والثقافة إجمالاً.
ولا غرابة أن نجد مثل هذا التوجه الذي يتبنى سياسة التجهيل والتبخيس من شأن التعليم والنظر إليه نظرة هامشية بل من الأفضل التخلص منه ، فهذا التوجه يعود إلى الرؤية الاستعمارية التي ربطت حقيقة الإنسان بالبعد المادي وأبعدت عقلية الإبداع والابتكار من مجال التفكير، ووظفت فكرة الانفتاح والتواصل لتكون البلاد فقط سوقاً لمختلف المنتوجات التي أبدعها عقل الآخر. والشعوب لا ترقى إلا بالاعتماد على ذاتها واستقلال إرادتها والتفكير بعقلها، فالنهضة الاقتصادية لا يمكن أن تتم بدون قاعدة علمية وهذا هو التوجه الذي سلكه الغرب منذ بداية عصر النهضة حيث اعتبر أن السيطرة على العالم لا تتحقق إلا بالعلم والمعرفة، فالشعوب التي اختارت طريقة النهضة اعتبرت التعليم قطاعاً مركزياً يبني ذاتية الأمة وحضارتها ويعطيها العنوان المتميز لكي لا تبقى شعوباً نكرة لا شخصية لها بين الأمم ، فالأحداث الجسام بينت مدى قوة ومناعة الشعوب التي أسست مشروعها وكيانها على العلم والمعرفة وتربية الإنسان ولم تبق تتخبط بين النظريات الاستلابية التي نبتت في واقع اجتماعي له ثوابته وهويته مما يكرس عقلية التبعية والذوبان. إن البلاد التي تريد الخروج من التخلف وإغلاق باب الجهل والفقر والمرض عليها أن تسلك باب العلم والمعرفة من خلال تعليم ناجح وهادف ، ولعل أكبر خطيئة ارتكبتها بعض البلاد هي تهميش التعليم وعدم العناية اللازمة به، فباب الإصلاح أو علاج أي مجال من مجالات المجتمع يمر من المدرسة التي تكون الرجال وتصنع الأجيال وفي تغييبها أو التقليل من شأنها يبقى المشروع المجتمعي برمته في خبر كان ، أو الدوران في الحلقة المفرغة .
ولقد قال أحد مفكري فرنسا يوما : إنني عندما أؤسس مدرسة فإنني أغلق سجنا ،ثم ألم يقول” باسمارك” بعد الحرب السبعينية (لقد غلبنا جارتنا بمعلم المدرسة). والغريب أن هناك من ينتقد المجتمع والسلوكات داخله من انحرافات أخلاقية ومالية ومن غياب العدل والصدق والاستقامة ، ولكنه يغض الطرف عن الباب المؤدي إلى بناء العقل والذات والتاريخ والحضارة. فالناس يريدون التحضر والرقي ولكنهم في الواقع لا يأخذون الأسباب ولا يسلكون الطريق المؤدي إليه، وهو بناء منظومة تعلمية هادفة ، وأحيانا يكتفي الفاشلون باقتناص بعض النماذج الغربية ظنا منهم أنها ستخلصهم من عناء البحث وستجعلهم في مصاف الدول المتقدمة، ولكنهم في الواقع لا يزيدون الأسى إلا أسفا كما يقال.
إن فقدان أي مجتمع للعنوان والهوية الثقافية سيجعل منه متربصا أبد الدهري باحثا عن الحلول ولم يعلم أن الحلول من صناعته هو .
إن جميع الشعوب التي خرجت من التخلف وضعت منذ البداية الخطوات العامة للتطور والنهوض ، انطلاقا من هويتها وأولت عناية فائقة بالتعليم لأنه هو المصنع الذي يتخرج منه أبناء الأمة الذين سيحافظون على استقلال إرادتها وهويتها وعنوانها .
إن الشباب هو الخزان الاستراتيجي الذي تراهن عليه الأمة في بناء مستقبلها فكلما كانت التربية هادفة ومبنية على المبادئ وقيم الاستقامة، كانت نتائجها متميزة، وإذا كانت الأجيال الصاعدة قد تلقت تربية مرتبكة ومشلولة البناء كان مستقبل الأمة مظلما، وكل تفريط في التربية تترتب عنه نتائج باهظة التكاليف.
إن التعليم ينبغي أن يبقى بعيدا عن كل المناكفات والتجاذبات ، ويؤسس على المنهج العلمي وقيم الفضيلة والاستقامة، والشرط الوحيد الذي لا يمكن تخطيه في وضع استراتيجية تعليمية هو ذاتية الأمة وكينونتها .
إن التعليم يقتضي التكاليف في كل شيء ، ولكن تكاليف الجهل أكثر من ذلك بكثير ، لا يعرفها إلا الشعوب التي لا زالت تتخبط في المتهات وتترجى من يقدم لها حلولا لمشاكلها ، كما تفطن لتكاليف الجهل من استطاع مغادرة المنطقة السوداء من كهف أفلاطون ، وأدرك الحقيقة وبقي السجناء الذين ألفوا حياة الجهل ينتظرون الوهم والسراب.
إن الهيمنة الليبرالية الرأسمالية المتوحشة تحول بين الشعوب والتوجهات الرشيدة في بعض الحكومات دون الرفع من مكانة التعليم.. ذلك أن هيمنة الأحزاب المادية الليبرالية واليسارية، وتسلل الأميين وأشباههم من الرأسماليين إلى الحكومات ومراكز النفوذ، يجعل التعليم في ذيل القضايا ذات الأهمية.
هذه المعضلة العويصة أصبت عامة وطامة بسبب العولمة وسيطرة الشركات الكبرى على الدول والحكومات.