توازن التدين
هوية بريس – سفيان أبو زيد
التدين هو ممارسة الدين، وهذه الممارسة لاشك أن لها قواعد وضوابط ومعالم، ومن أهم معالمها التوازن…والتوازن هو جعل كفتي الميزان في وزن واحد حتى لا تميل الكفة الثقيلة على حساب الكفة الأخرى…
والمقصود بتوازن التدين هو نقل معاني الدين من النظرية إلى الواقع على الصورة والشكل الذي شرعه الله وأراده وقصده دون إفراط أو تفريط…
ولذلك التوازن مظاهر:
التوازن في الاعتقاد
التوازن في الحكم
التوازن في التطبيق
التوازن في الاعتقاد
من مر على رياض العقيدة الإسلامية وجدها تتكون من أصول وأركان لا يثبت صرح الإيمان إلا بها، وهي أركان الإيمان الستة الواردة في حديث جبريل الشهير، تلك الأركان التي تتمحور على الإيمان بالله الذي نتوسل إليه بالإيمان بالملائكة كوسيلة بلاغية أولى، ثم الإيمان بالكتب كوسيلة منهجية علمية ثانية، ثم الإيمان بالرسل كوسيلة تعليمية تطبيقية ثالثة، ثم الإيمان باليوم الآخر حيث يصبح الغيب شهادة والمتوقع واقعا، فتظهر الحقائق وتبرز السرائر، ثم الإيمان بالقدر خيره وشره كوسيلة لتثبيت وترسيخ معاني الإيمان بالله واختبار رصيد تلك المعاني…
إذن فأركان الإيمان نفسها على مراتب ولا يمكن أن نقدم مرتبة على مرتبة في الاعتقاد واليقين…
وبعد مرتبة الأصول نجد فروعا دون الأصول مرتبة وقوة وثبوتا تحتمل ما لا تحتمله الأصول من التأويل والتفسير والاختلاف، كاختلافهم في بعض الصفات هل نثبتها لغة ومعنى أو نؤول معناها أو نفوض الجميع على اختلاف عميق معتبر بين علماء التفسير والعقيدة…
فالتوازن في الاعتقاد يضع كل حكم محله ولا يمكن أن نقدم ما هو داخل هذه الخانة على الذي في خانة الأصول، كما أنه لا يمكن أن نرفق ما في هذه الخانة بالذي في خانة الأصول، وكذلك لا ينبغي أن نرتب على ما في هذه الخانة وجودا وعدما على ما يترتب على مكونات خانة الأصول وجودا وعدما…
والتوازن في الاعتقاد يشمل التفريق بين ما حكم عليه بالركنية في الاحكام الفقهية وبين ما حكم عليه بالوجوب والفرضية وبين ما حكم عليه بالسنية وبين ما حكم عليه بالإباحة، وفي المقابل ينبغي التمييز بين الموبق والكبيرة والحرام الذاتي والمحرم لغيره وبين المكروه وخلاف الاولى…
فكل حكم له درجته في الاعتقاد تجعل له أثرا في التطبيق وجودا وعدما…
التوازن في الحكم
هذا التوازن في الاعتقاد يترتب عليه توازن آخر من الأهمية بمكان، وهو التوازن في الحكم، إذ لا يصح شرعا أن نحكم على ما تضافرت النصوص بالأمر به أمرا صحيحا صريحا لا صارف له، بالندب أو السنية، ولا يمكن شرعا أن نحكم على ما تواتر النهي عنه نهيا صحيحا صريحا خاليا عن الصارف أو المعارض بالكراهة أو خلاف الاولى…
ودون هذه المرتبة الصحيحة الصريحة هناك متواتر غير صريح أو ظني صحيح غير صريح أو صريح غير صحيح، الصحة على مراتب والظنية على مراتب والصراحة على مراتب، فمن الحيف والظلم أن نجعل تلك المراتب مرتبة واحدة أو نقدم المنخفض على المرتفع….
التوازن في التطبيق
هذا التوازن في الحكم يأخذنا إلى توازن آخر مهم وهو التوازن في التطبيق، وهذا يظهر في منهجية تعاملنا مع تلك الأركان والمراتب، فالحرص على إقامة الركن وبيانه وتفعيله واستمراره والمؤاخذة على تركه ومراقبة تطبيقه يكون أكبر وأشد من إقامة سنة وبيانها وتفعيلها واستمرارها والمؤاخذة على تركها أو التهاون في فعلها ومراقبة تطبيقها…
كما أن الحرص على مكافحة الموبق أو الكبيرة أو المحرم على تفاوت بين هذه، وبيان ذلك وتفعيله واستمرار مكافحته والمؤاخذة على فعله أو التهاون في تركه ومراقبة أعراضه يكون أكبر من مكافحة مكروه أو خلاف للأولى…
وهذا التوازن يشمل التطبيق الفردي والتطبيق الجماعي والمجتمعي والأممي، وأي خلل في ذلك التطبيق يدل على خلل في التدين، ففرد يحرص على إرخاء اللحية ولسانه مسلط تبديعا وتكفيرا وتفسيقا، عنده خلل في تدينه، وفرد يرفع درجة الحاكم أو ولي الأمر إلى درجة المقدس الذي لا يسأل عما يفعل وإن ظلم أو سلب أو سفك، عنده خلل في تدينه، وفرد يقدم ولاء الحزب أو التنظيم على أمر الله الصحيح الصريح عنده خلل في تدينه، وفرد يقيس نصف ساقه بالميليمتر ويقيس تصرفاته بالأمتار والكيلومترات عنده خلل في تدينه، وفرد يقدس شيخه ويقدم طريقته على أمر الشرع الصحيح الصريح عنده خلل في تدينه…
ومجتمع يقيم الدنيا ولا يقعدها من أجل تضخيم سنة حتى يقتحم بها حدود المحرم، عنده خلل في تدينه، ومجتمع يهتم بالتحسينيات على حساب كثير من الضرورات والحاجيات عنده خلل في تدينه، ومجتمع يشنع على الواقع في المكروه وحدود المحرم مستباحة عنده خلل في تدينه…
وأمة تستباح الدماء والأعراض فيها وتحتل أجزاء من أراضيها، ويعلوها الاستبداد والظلم، ويتلاعب بها رؤوس الفساد هنا وهناك، وتغوص في مجاهل التجهيل والفقر والتخلف، ومع ذلك تهتم بتنظيم تظاهرات كمالية وتعيش أحلام الانتصار من خلال مسابقات ومهرجانات تمتص ما تبقى من حقوقها و كرامتها وقيمها، هذه أمة عندها اختلالات في تدينها…
هذه بعض معالم ومظاهر ذلك التوازن الذي واجب على الأمة الحفاظ عليه، ويتحتم الواجب على من تولوا أمرها، وتزيد تلك الحتمية على أهل الرأي والنظر فيها من العلماء والمفكرين من شتى التخصصات والعلوم، إذ ثمرة العلم الاعتدال والتوازن…
ذلك التوازن هو المتمثل في توازن السفينة التي صورها لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاتخذ بعضهم أسفل السفينة مسكنا واتخذ البعض الآخر أعلى السفينة مأوى، فوجد أهل الطابق السفلي حرجا في الصعود إلى الطابق العلوي واستقاء الماء وإزعاج أهله – وهذا لون من ألوان التدين – فرأوا أن يخرقوا ثقبا سفليا – وهذا فيه خلل في التدين إذ قدموا مراعاة الازعاج على مفسدة الإهلاك دون تشاور مع الآخر في الجدوى – وهنا تأتي مهمة ومسؤولية حراس ذلك التوازن وتبدا من واو الجماعة وتتأكد على أهل المسؤولية والاختصاص فإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا، وإن تركوهم هلكوا وهلكوا جميعا…
والله أعلم.