تونس… الحاجة لتوافق وطني
هوية بريس – عادل بنحمزة
سيظل شهر يناير شهراً مرتبطاً بانتفاضة الشعب التونسي التي كانت مقدمة لما سُمّي بالربيع العربي، انتفاضة حملت كثيراً من الآمال وعرفت كثيراً من الآلام، إنها اليوم تواجه من جهة سؤال الجدوى من الديموقراطية والحريات، ومن جهة أخرى عجز المؤسسات الناتجة من الثورة على تلبية الطلب الاجتماعي المتزايد، والذي كان في الحقيقة دافعاً للانتفاضة الشعبية في 14 كانون الثاني 2011، بالإضافة إلى ذلك، واجهت تونس خلال 11 سنة تحديات أمنية يفرضها انهيار ليبيا والغموض الذي يلف الوضع في الجزائر.
النموذج التونسي على عهد التجمع كان يمارس إغراءً حقيقياً على عدد من الأنظمة في المنطقة، ولعل نجاح بنعلي في كسب الدعم الأوروبي وتسويق “إنجازات ” اقتصادية، ساهم في عزل أي خطاب معارض، كما أن حزب التجمع نجح إلى حد كبير في تحجيم المعارضة داخلياً، بالنظر إلى قوته التنظيمية والتأطيرية، أما الأحزاب التي كانت تشارك التجمع في اللعبة السياسية؛ وواصلت بسذاجة تصديقها لوعود بنعلي بعد عزل بورقيبة، فقد ظلت تنتظر حصول التغيير بانتظارية قاتلة.
تونس اليوم في مفترق الطرق، خاصة بعد القرارات التي اتخذها الرئيس قيس السعيد في 25 يوليو 2021، وهي قرارات تتسع يومياً دائرة رفضها، سواء على المستوى الداخلي أو الخارجي، ذلك أن البلاد أصبحت أمام تعطيل شبه كلي للمؤسسات والدستور. النموذج التونسي على عهد التجمع كان يمارس إغراءً حقيقياً على عدد من الأنظمة في المنطقة، ولعل نجاح بنعلي في كسب الدعم الأوروبي وتسويق “إنجازات” اقتصادية، ساهم في عزل أي خطاب معارض، كما أن حزب التجمع نجح إلى حد كبير في تحجيم المعارضة داخلياً بالنظر إلى قوته التنظيمية والتأطيرية، أما الأحزاب التي كانت تشارك التجمع في اللعبة السياسية؛ وواصلت بسذاجة تصديقها لوعود بنعلي بعد عزل بورقيبة، فقد ظلت تنتظر حصول التغيير بانتظارية قاتلة، لكن ما الذي جعل التجربة التونسية بعد ما سُمّي بالربيع العربي، تبدو أكثرها قدرة على النجاح، ذلك لأنها رغم إسقاط بنعلي حافظت على استقرار مؤسسات الدولة والحد الأدنى من السلم والأمن، كما أنها الدولة الوحيدة من دول “الربيع” التي أجرت انتخابات لم يطعن فيها أحد بالتزوير – بالطبع نتحدث عن الطعن السياسي – وهي الدولة التي عاد فيها جزء من القيادات التجمعية الدستورية عبر صناديق الانتخابات في إعادة للسيناريو الذي عرفته أوكرانيا بعد الثورة البرتقالية، وذلك رغم الحديث المتكرر عن قانون العزل السياسي، وهي الدولة التي انتخبت ثلاثة رؤساء للدولة بعد بنعلي، يعود الفضل في ذلك كله، لوجود تقاليد دولة تعود إلى فترة الراحل الحبيب بورقيبة، الذي رغم كل الملاحظات التي يمكن أن تقدم حول فترة حكمه ومنهجه في قيادة السلطة، فإنه لا يمكن إنكار الجهود التي قادها، سواء في النهوض بالمرأة أو في تحضر المجتمع التونسي ونشر التعليم، كما أن النظام في تونس لم يرتكز في أي لحظة من اللحظات على المؤسسة العسكرية، رغم أن ذلك كان موضة سنوات الستينات والسبعينات من القرن الماضي، ما أهّل المؤسسة العسكرية لأن تلعب دوراً مهماً في الحفاظ على استقرار تونس ووحدتها، ذلك أنها لم تتورط في تجربة الحكم الشمولي لزين العابدين بنعلي، ولأنها كانت على المسافة نفسها من جميع الأطراف السياسية، هذه الصورة المثالية عن تونس تغيرت منذ قرارات 25 تموز/يوليوز الماضي، ولا أحد يستطيع توقع مصير البلاد في الأيام المقبلة، خاصة بعد عودة ممارسات تحد من الحقوق والحريات.
الصعوبات التي تعيشها تونس اليوم تعتبر طبيعية وعادية، لكنها تفرض تحديات كبيرة، وتحمل مخاطر جدية، يمكن أن تعصف بكل المكتسبات التي تحققت إلى اليوم، بحيث إن الوضعية الحالية تعكس وضعية أي بلد يعرف ثورة وسعياً للبناء الديموقراطي، على أنقاض بنية غارقة في الفساد، هنا يبرز التحدي الأكبر؛ سواء على مستوى الدولة أو الشعب، وهو تحدي بناء التوازن بين الطلب الاجتماعي والسعي لتلبيته ومحاربة الفساد، وبين عدم رمي الصبي مع ماء الغسيل… أي عدم إشاعة اليأس في جدوى البناء الديموقراطي على خلفية عجز الدولة عن تلبية كل الطلب الاجتماعي أو الحد الكلي من الفساد، مع الاعتراف بأن التحوّل الديموقراطي ليس له طابع خطى، بل يواجه تحديات باستمرار يجب كسبها بروح جماعية تحافظ على مقدرات البلاد واستقرارها.
الوضعية الحالية لا يمكن تجاوزها سوى بالمزيد من الثقة بين كل الأطراف، والتي من واجبها عدم الاستثمار في كل ما يهدد السلم الاجتماعي، والترفع عن التوظيف السهل للغضب الشعبي من أجل تحقيق مكاسب سياسية أو انتخابية، يعلم الجميع أنها بلا قيمة، إذا لم يستمر جو التوافق الوطني للتغلب على التحديات الاقتصادية الجدية، والتي تعتبر المحرك الأساسي للسخط الشعبي على الطبقة السياسية ما بعد نظام بنعلي.
يجدر بنا التذكير أن انتفاضة ما سُمّي بالربيع العربي بقيت معزولة عن أي دعم دولي جدي.. هنا يجب التذكير بالاحتضان الأوروبي لكل من اليونان وإسبانيا والبرتغال وبلدان المعسكر الشرقي سابقاً مثل بولونيا، بلغاريا، تشيك، سلوفاكيا، رومانيا… بحيث إن تجارب الانتقال الديموقراطي في الغرب، لم تنجح بالصدفة، ولكن لأنها وجدت بنيات اقتصادية قوية احتضنتها، واستطاعت بذلك أن تخلق أجواءً سهّلت عملية الانتقال.
تونس بحاجة إلى التفاتة دولية لأجل إنجاح تجربة ما زالت تقاوم إلى اليوم، لكنها بحاجة أكثر إلى وحدة وطنية وترك خطاب التخوين والحسم في طبيعة النظام السياسي، دون ذلك فإن البلاد قد تنزلق إلى المجهول.