ثوابت المملكة المغربية وقرآن برغواطة

18 نوفمبر 2025 19:33

ثوابت المملكة المغربية وقرآن برغواطة

هوية بريس – محمد عوام

في الوقت الذي يخوض فيه وزير التوقيف معاركه البطولية ضد منتقدي ما سمي بخطة تسديد التبليغ، واصفا إياهم بالخوارج والمجرمين، من غير مراعاة لدين أو خلق، اطلع علينا من يروج لقرآن برغواطة، وأنه كان يتلوه المغاربة وأنه يمثل قرآن الأمازيغ. لكن الغريب أن وزير التوقيف أستاذ التاريخ لم تحمله لا غيرته على ثوابت المملكة، التي أنفق من أجلها ملايين الدراهم من أموال الأوقاف، ولا صوفيته التي يتبجح بها، ولا تخصصه في التاريخ أن يفند تلك الادعاءات، ويدحض تلك الشبهات التي لاحت من برنامج المدعو عبد الحق كلاب ومن ضيفه محمد المسيح، وإنما كما عودنا الوزير -ومجالسه العلمية- التزم الصمت عندما تنتهك حرمات الدين، ويطعن في ثوابت المسلمين، مما يجعل الحليم حيران في مدى جدية وزارته في ترسيخ الثوابت، وجدوى الحديث عنها.

وأي مصداقية للحديث عن ثوابت المملكة في ظل وجود تيار ينسفها، ويطعن فيها، ويشكك الناس في دينهم، ويزور تاريخهم؟

وأي مصداقية للمجالس العلمية حين ترى وتسمع بهذه المنكرات الشنيعة تغزوا عقول الشباب، وتسعى إلى تشكيكهم في دينهم وثوابت بلادهم وأمتهم؟ أليس البيان في حق العلماء واجبا ودحض الشبهات والافتراءات حتما لازما؟

وأي مصداقية للدولة المغربية حين تشيح بوجهها عن البرغواطية المتصهينة، التي تدّثر بالبحث العلمي وهي تتقطر سما على ثوابت المملكة؟ أليست هذه انتكاسة لائحة، وسقطة ظاهرة أم أن المشروع الصهيوني المهيمن فوق كل شيء قاهر، وسطوته نافذة زاجر حتى غدا يمثل هُبَل العصر؟

مع الأسف أن كلاب وضيفه المسيح أبانا عن مكنوناتهما، من خلال ما تلفظا به، من ذلك هذا التصريح:

-كلاب: سي محمد نحن كان عندنا قرآن.

-محمد المسيح: نعم نعم وفرطوا فيه يا ريت كن بقا غير نسخة واحدة حتى نعرفوا…

-كلاب: القرن الخامس والقرن العاشر الميلادي كما أسلفت الذكر سي محمد كان عندنا قرآنات

-المسيح: قرآنات بألسنة مختلفة..وهذه الألسنة المختلفة كلها تأخذ من مشكاة واحدة، لكن التحدي يقولك: “فأتوا بمثله، ولو بسورة، وهذا أتى لك بثمانين سورة.

-كلاب: هناك (كاين) كتاب خرج منه كلشي، والقرآن من بين هذه الكتب التي ظهرت في القرن الخامس الميلادي و…

-المسيح: نعم بألسنة مختلفة…”

هذا الكلام لا يمكن أن يصدر من إنسان يؤمن بمصدرية القرآن الكريم أنه وحي من الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، والذي ينص بصريح لفظه الذي لا يقبل أي تأويل أن النبي صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، فقال عز وجل: ﴿مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَد مِّن رِّجَالِكُمۡ وَلَٰكِن رَّسُولَ ٱللَّهِ وَخَاتَمَ ٱلنَّبِيِّـۧنَۗ وَكَانَ ٱللَّهُ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيما [الأحزاب: 40]

وقد جاء في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري وغيره عن أبي حازم قال: “قاعدت أبا هريرة خمس سنين، فسمعته يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي، وإنه ‌لا ‌نبي ‌بعدي، وسيكون خلفاء فيكثرون”. قالوا: فما تأمرنا؟ قال: “فوا ببيعة الأول فالأول، أعطوهم حقهم، فإن الله سائلهم عما استرعاهم”. (رواه البخاري)

وفي مسند الإمام أحمد: “إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرج في غزوة تبوك استخلف عليا على المدينة، فقال علي: يا رسول الله، ما كنت أحب أن تخرج وجها إلا وأنا معك. فقال: ” أو ما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟ غير أنه ‌لا ‌نبي ‌بعدي”.

فمن الإيمان الواجب على كل مسلم حق، أن يؤمن بأن لا قرآن إلا هذا القرآن المنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي نقلته الأمة عبر أجيالها وأحقابها، تواترا قطعيا، لا يرتاب فيه إلا ملحد أو منافق. كما أن من صحيح الإيمان أن يقر المسلم ويعتقد اعتقادا جازما أن لا نبي بعد النبي محمد صلى الله عليه وسلم، هذه عقيدتنا، وهذا ديننا، ومن ابتغى غير ذلك فلن يقبل منه البتة، وأنه مكذب بالقرآن الكريم، كافر بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم.

أما وجود متنبئين ومدعين للنبوة وإن كانوا قلة، فهذا ما يتحدث عنه التاريخ، ونحن لا ننكر وجودهم، كالذين يدعون المهدوية، ولكن هل كل من ادعى النبوة، وأنه يوحى إليه يصدق هكذا، ولو أتى بالغرائب والعجائب، غير محمود السيرة كما هو شأن صالح بن طريف بن شمعون اليهودي زعيم البرغواطيين؟

أنا لا أتعجب ممن ادعى النبوة، من صالح بن طريف وأتباعه الذين صدقوه، بقدر ما أتعجب من كلاب وضيفه المسيح، اللذان يقران بأنه كانت عندنا “قرآنات” بألسنة مختلفة، كلها تأخذ من مشكاة واحدة”. واعجبا لكم تفترون على الله الكذب، وتزورون التاريخ (قرآنات) بهذا الجمع، علما أن المؤرخين يتحدثون عن قرآن برغواطة، الذي يشيد به المسيح وكلاب وهما لم يرياه، فأي علم هذا الذي يسمح لصاحبه أن يتحدث بإعجاب عن شيء مجهول، مع تضخيم وتفخيم لا معنى لهما، ولكن إذا ظهر أن السبب هو امتطاء مذهب المشككة والانحلالية، فلا غرابة أن ينطق كلاب والمسيح بالجهل.

والأغرب من هذا كله حينما يتحدث المسيح عن ثمانين سورة من “قرآن” صالح بن طريف اليهودي الأصل، فيجعل من ذلك تحديا للقرآن الكريم، الذي تحدى المشركين أرباب البيان والفصاحة أن يأتوا بسورة من مثله، وعند المسيح على حد قوله: “هذا أتى لك بثمانين سورة”. نعم المسيح لو كان له مسكة من عقل لما سمح لنفسه أن يطوح بها في هذا الفهم السقيم، والجهل المكعب، ولفهم أن المعنى هو الإتيان بسورة من مثله في تركيبها، وبيانها، وإعجازها، هذا هو المقصود من التحدي، وليس المقصود أن تسمي أسماء معينة فتجعل منها سورا، وتدعي أن هذا هو التحدي المطلوب. علما أن كلاب نفسه المستضيف يقر بركاكة بعض الجمل من “قرآن” برغواطة، مثل ما وقع لمدعي النبوة في القرن الأول مسيلمة الكذاب.

ولا يخفى أن الله تعالى أنزل كتابه القرآن المجيد معجزة خالدة، في بيئة عرفت بالفصاحة والبيان، فتحدى العرب الفصحاء، وفحول الشعراء، وأرباب الخطابة البلغاء أن يأتوا بسورة من مثله، فعجزوا عن ذلك، وكلَّت ألسنتهم أن يجاروه في أسلوبه، أو يحاكوه في بيانه. أما وأن البرغواطيين الجدد هم أنفسهم بينهم وبين اللغة مفاوز، لفهم كلام العلماء فضلا أن يفهموا كلام رب العالمين، فأنى لهم أن يدركوا لغة البيان القرآني.

وهكذا يريد كلاب وضيفه المسيح ومن سار على مهيعهما، واقتفى أثرهما أن يرمزوا “قرآن” برغواطة، الذي اندثر، بل لم يكن له أثر كبير في واقع الناس، ولم يكن يتداول سوى بين أتباع صالح بن طريف اليهودي، ثم ما لبث أن اندثر كما اندثرت دولتهم الضالة، وانمحت من التاريخ. لكن الضيف والمستضيف يريدان أن يجعلا من السراب شيئا مذكورا، ومن الشعوذة علما مرسوما، وأنى لهما ذلك.

هل كان “قرآن” صالح بن طريف اليهودي يتلى في المساجد كما ادعى الضيف والمستضيف؟

أغلب المصادر التاريخية لا تذكر أن “قرآن” صالح كان يتلى في المساجد، وأن عموم الناس أعاروه اهتماما كبيرا، لا نجد ما يثبت ذلك، لكن من غير شك أن مؤلفه مدعي النبوة صالح بن طريف كان يتلو منه شيئا على أتباعه، وهي العبارة التي وردت على لسان ابن خلدون في مصنفه (العبر وديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والبربر ومن عاصرهم من ذوي الشأن الأكبر)، وفي ذلك يقول متحدثا عن صالح بن طريف: ” ثم انسلخ من آيات الله، وانتحل دعوى النبوّة، وشرّع لهم الديانة التي كانوا عليها من بعده، وهي معروفة في كتب المؤرّخين. وادعى أنه نزل عليه قرآن كان يتلو عليهم سورا منه”. وإن كان صاحب (الأنيس المطرب بروض القرطاس في أخبار ملوك المغرب وتاريخ فاس) قد ذكر أن صالح بن طريف قد “وضع لهم قرآنا يقرأونه في صلاتهم، ويتلونه في مساجدهم، وزعم أنه نزل عليه، وأنه وحي من الله تعالى”. (ص166). وهذه الإشارة من ابن أبي زرع غير كافية للتدليل على أن “قرآن” برغواطة كان له من الصيت والانتشار مثل قرآن رب العالمين.

غير أن ابن أبي زرع المتوفى سنة 726ه، لم يفته أن يبين نحلة صالح بن طريف، ويكشف عن معدنه الخبيث، وذلك ما عبر عنه بقوله: “وكان صالح بن طريف الذي ادعى فيهم النبوة، رجلا خبيثا يهودي الأصل، من ولد شمعون بن يعقوب عليه السلام، نشأ ببرباط من بلاد الأندلس، ثم رحل إلى المشرق، فقرأ على عبيد الله المعتزلي القدري، واشتغل بالسحر، فجمع منه فنونا كثيرة،…وشرع لهم الديانات التي أخذوها عنه،…” (الأنيس المطرب ص165) والغريب والعجيب أن يعتبر المدعو المسيح الشعوذة والتنجيم والسحر الذي اشتغل به صالح بن طريف ضربا من المعجزات، فيتهكم ممن رفض ذلك.

وعندي -من خلال ما تيسر لي الاطلاع عليه من المصادر التاريخية- أن صالح بن طريف ظل وفيا ليهوديته، متسترا بالإسلام نفاقا، إلى أن كشف عن نحلته الخبيثة، فشرع لأتباعه من الضلالات والسخف ما لا يستسيغه عقل. من هنا جاز لنا الربط بين من يروم إحياء “قرآن” برغواطة، واعتبار صالح بن طريف “نبيا” مرسلا للأمازيغ وبين الصهيونية الخبيثة اليوم، وإلا لما وقعت الإشادة من صاحب البرنامج وضيفه بقرآن برغواطة، وأنه يأخذ من مشكاة واحدة، على حد هذا التعبير البرغواطي السخيف.

هل البرغواطية دين جديد خالص؟

إن المصادر التاريخية تتحدث عن أن صالح بن طريف وضع دينا جديدا، غير به ما جاء به الإسلام في الصلاة والصوم والزواج وغير ذلك، من ذلك ما ذكره أبو عبيد عبد الله المعروف بالبكري (ت487ه): “وصوم رجب وأكل شهر رمضان وخمس صلوات في اليوم (وخمس صلوات في الليلة) والتضحية في اليوم الحادي عشر من المحرّم، وفي الوضوء غسل السرّة والخاصرتين ثمّ الاستنجاء ثمّ المضمضة وغسل الوجه ومسح العنق والقفا وغسل الذراعين من المنكبين ومسح الرأس ثلاث مرّات ومسح الأذنين كذلك ثمّ غسل الرجلين من الركبتين. وبعض صلواتهم إيماء بلا سجود وبعضها على كيفية صلاة المسلمين. وهم يسجدون ثلاث سجدات متّصلة ويرفعون جباههم وأيديهم عن الأرض مقدار نصف شبر، وإحرامهم أن يضع إحدى يديه على الأخرى ويقول: ابسمن ياكش، تفسيره بسم الله…

ويتزوّج من النساء ما استطاع على مباعلتهنّ والإنفاق عليهنّ بلا حدّ عدد. وأن لا يتزوج من بنات عمّه إلّا ثلاث جدود، ولا يتسرّون ولا ينكحون للمسلمين ولا ينكحون فيهم ويطلقون ويراجعون ما أحبّوا”. (المسالك والممالك للبكري 2/ 824، 825، وانظر الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى 1/152)

وقد “اتخذ أبو غفير (أبو غفير محمد بن معاذ بن اليسع بن صالح بن طريف) من الزوجات أربعا وأربعين، لأنهم يبيحون في ديانتهم الخسيسة أن يتزوج الرجل من النساء ما شاء…” (الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى 1/180).

ويظهر أن البرغواطية تمتاح من النحل الضالة كالبابكية والقرمطية والمزدكية، وهذه فرق معروفة بالإباحية الجنسية، يقول عبد القاهر البغدادي: “وللبابكية في جبلهم ليلة عيد لهم يجتمعون فيها على الخمر والزمر وتختلط فيها رجالهم ونساؤهم، فإذا أُطفئت سُرُجهم ونيرانهم افتض فيها الرجال النساء على تقدير من عز بزَّ”. (الفرق بين الفرق 273، وانظر فضائح الباطنية للتعرف على مخازي هذه النحل الضالة ص12، و15 بتحقيق عبد الرحمن بدوي).

ومهما يكن من أمر فلا جرم أن البرغواطية قد خرجت عن حد الشرع ومراسمه، فأباحت ما حرم الله تعالى، وغيرت دين الله تعالى، تغييرا تاما، فأتت بدين جديد، ابتكره اليهودي صالح بن طريف بن شمعون، فحاربها ملوك العدوتين كما قال الناصري “من الأدارسة والأموية والشيعة” (الاستقصا 2/181) إلى أن جاءت دولة المرابطين فقضت عليهم، واستأصلت شأفتهم على يد الفقيه المجاهد الشهيد عبد الله بن ياسين وأبي بكر بن عمر رحمهما الله.

إن الحديث اليوم عن “قرآن” برغواطة، وأنه كان وكان حديث من نسج خيال البرغواطيين الجدد، الذين يمتحون من الصهينة، فيروجون الانحرافات الفكرية والضلالات العقدية، ويتكلمون عن شيء لم يعد له أي أثر في واقع الناس.

لذلك نقول فلا قرآن إلا قرآن رب العالمين الذي جاء به الصادق الأمين، خاتم الأنبياء والمرسلين، محمد بن عبد الله عليه أزكى الصلوات والتسليم، ومن اعتقد غير هذا، فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه. وهو القرآن الذي جمع الأحكام والحكم، والمعجز ببيانه وتشريعاته وعقائده وأخلاقه، فلا قرآن بعده. يقول الله جل جلاله: ” ﴿فَوَيۡل لِّلَّذِينَ يَكۡتُبُونَ ٱلۡكِتَٰبَ بِأَيۡدِيهِمۡ ثُمَّ يَقُولُونَ هَٰذَا مِنۡ عِندِ ٱللَّهِ لِيَشۡتَرُواْ بِهِۦ ثَمَنا قَلِيلاۖ فَوَيۡل لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتۡ أَيۡدِيهِمۡ وَوَيۡل لَّهُم مِّمَّا يَكۡسِبُونَ [البقرة: 79]  ويقول سبحانه وتعالى: ﴿وَإِنَّ مِنۡهُمۡ لَفَرِيقا يَلۡوُۥنَ أَلۡسِنَتَهُم بِٱلۡكِتَٰبِ لِتَحۡسَبُوهُ مِنَ ٱلۡكِتَٰبِ وَمَا هُوَ مِنَ ٱلۡكِتَٰبِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنۡ عِندِ ٱللَّهِ وَمَا هُوَ مِنۡ عِندِ ٱللَّهِۖ وَيَقُولُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَ وَهُمۡ يَعۡلَمُونَ [آل عمران: 78].

آخر اﻷخبار

التعليق


حالة الطقس
8°
19°
السبت
20°
أحد
20°
الإثنين
19°
الثلاثاء

كاريكاتير

حديث الصورة