جاك بيرك والقضايا العربية في ذكرى وفاة “جاك بيرك”
هوية بريس – ذ. رضا الطويل
في يوم من أيام الصيف، وفي مثل هذا اليوم 27 من شهر يونيو سنة 1995، وبعد حياة حافلة بالدراسة والإنتاج أغمض جفنيه ليغادر الحياة الدنيا، وليُعلَن رحيل واحد من كبار المستشرقين المنصفين، إنه المستشرق الفرنسي جاك بيرك، أمضى الذي ولد بقرية فرندة بوهران الجزائرية سنة 1910، والتي أمضى بين ربوعها سني طفولته، قبل أن ينتقل إلى الجزائر العاصمة.
انتقل الشاب الفرنسي الجزائري إلى فرنسا في سن العشرين أي سنة 1930، وذلك لمتابعة دراسته بجامعة السوربون، حيث تخصص في علم الاجتماع، وقد صادف ذلك احتفالات بالذكرى المئوية لضم/استعمار الجزائر وتنظيم المعرض الكولونيالي، فاعتبرها “صفعة” له نظرا لما يؤمن به، إذ رغم أن هذا الشاب “جاك” ابن لمراقب مدني في الإدارة الفرنسية، إلا أنه، وفي سن صغيرة، بدأ يلمس معارضته للسياسات الاستعمارية على حد تعبيره.
ثم بعد مضي سنتين، آثر أن يترك دراسته؛ الأمر الذي أثار خيبة والديه، فقد فضل أن يعوض فترة الدراسة بالخدمة العسكرية بالمغرب في 1934، إلا أنه لم يكن ليعلم حينذاك، أن القدر يخبئ له أن يعيش هناك زهاء 20 عاما.
اجتاز بيرك مباراة المراقبة المدنية بعد ذلك، فعُين مراقبا على ثلاث قرى قبل أن يستقر به المقام بفاس سنة 1937. ولعل هذه الفترة كان لها بالغ الأثر في الاحتكاك بأهل المغرب، فكان ذلك منطلق ابتعاده عن منطق الإدارة الاستعمارية الذي رأى أنه يجانب كثيرا وعود التحديث.
معارضته لسياسة بلاده في المغرب، ستجعل الإدارة الفرنسية تُبعده، دائما كمراقب مدني، إلى جبال الأطلس. لكنه هناك انتهز الفرصة ليدرس، كما تعلم الأمازيغية أيضا، ثم أجرى واحدة من أهم دراسته، تلك التي تضمنها كتابه “البنى الاجتماعية في الأطلس الكبير”
هذه الدراسة الأنثروبولوجية سيجريها “بيرك” على قبيلة سكساوة (نواحي امنتانوت) لاعتبارات عدة، أبرزها أن المنطقة لم تعرف أي تدخل للسلطات الاستعمارية حتى سنة 1927، ومن ثمة، لم تكن بنيتها وعلاقات أفرادها قد تغيرت، مثلما حدث مع مناطق أخرى فقدت استقلاليتها وخضعت لمطالب الإقامة العامة، بفعل العلاقات التي كانت تربط بين القواد والإدارة الاستعمارية.
بعد أن غادر المغرب سنة 1953 أياما قليلة قبل نفي الملك محمد الخامس، عاد إلى باريس وناقش بحثه عن قبيلة “سكساوة” كأطروحة دكتوراه، فذاع صيته في الأوساط الأكاديمية والثقافية، ثم كلفته منظمة اليونيسكو بالذهاب إلى مصر قصد إجراء بحوث ميدانية.
لم يلبث في مصر كثيرا حتى عاد إلى فرنسا مرة أخرى، سنة 1955، حيث التحق بمؤسسة “كوليج دو فرانس”، التي عمل فيها مدرسا وكانت حينذاك تضم عمالقة أساتذة الفلسفة والأدب في فرنسا، أمثال كلود ليفي ستراوس، وميشال فوكو، وفرانسوا جاكوب. سنة بعد ذلك، سيترك بيرك عمله مرة أخرى، وسيرحل إلى لبنان للإشراف على معهد هناك.
وفي سنة 1956 عاد إلى باريس إذ انتخب أستاذاً في الكوليج دي فرانس لكرسي التاريخ الاجتماعي للإسلام المعاصر ومديراً للأبحاث في المدرسة التطبيقية للدراسات العليا. وفي عام 1980 تقاعد من التدريس الجامعي واستقر في منزله الريفي في سان جوليان اون بورن، بالقرب من بوردو، متفرغاً للتأليف والترجمة، لا يغادرها إلا لإلقاء المحاضرات والاشتراك في المؤتمرات؛ وفي هذه القرية وافته المنية في 27 يونيو1995م.
إنتاجاته العلمية
وقد تعدد نتاجه العلمي بين التأليف والترجمة، ومن مؤلفاته: “الشرق ثانياً”، و”الإسلام أمام التحدي”، و”تحرير العالم”، و”المغرب بين حربين”، و”مصر: الإمبريالية والثورة”، و”المغرب التاريخ والمجتمع”، و”من الفرات إلى الأطلس”، و”الإسلام في زمن العالم”. ويضاف إلى رصيده هذا “عربيات” و”مذكرات بين الضفتين” اللتان روى فيهما مقتطفات من سيرته الذاتية. ويعتبر عمله le coran essai de traductionمحاولة لترجمة معاني القرآن (1991) الذي أمضى أكثر من عشر سنوات حتى أنجزه من بين أهم أبحاثه العلمية على رغم ما أُثير حوله من ردود فعل في الأوساط العربية والأوروبية.
يقول عن نفسه: “لست مؤرخا ولا رحالة أو حتى مستعربا، أنا أرفض كل هذه التوصيفات. كل ما هنالك، أني وقعت يوما في حب منطقة وشعوبها وتاريخها، ورحت أحاول دراستها، دون أي رغبة في أن أكون مستشرقا بالمعنى المهني للكلمة”.
ويستطرد، مؤكدا، “إنني بالأحرى، مناضل في سبيل تقريب الضفتين حول الحوض المتوسط، وأهدف إلى تعريف قرائي، الفرنسيين منهم خاصة، عما هي حقيقة الإسلام بعيدا عن أي أفكار جاهزة أو كليشيهات”.
أهم أفكاره
دعا إلى استعادة الأندلس، أرض التسامح وتعايش الأديان، إذ كان يلخص فلسفته على الوجه التالي: “إنني أدعو الأندلسيين إلى إنارة تلك الشعلة التي نحملها في أعماقنا، المتكونة من خرائب مجزأة وآمال ملحة”. وسعى إلى تحقيق مشروعه الثقافي، المتمثل في إقامة أندلس جديدة، أو مجموعة أندلسيات جديدة، حيثما تلتقي الحضارتان، الأوروبية “المسيحية” والإسلام أي التقاء الضفتين. وهذه التعددية هي من أساسات العالم، كما دعا إلى إعادة تأصيل القرآن باعتباره قادراً على تقديم الحلول للمشاكل التي يطرحها العالم المعاصر. بقيت دعوته حلماً من أحلام البشرية وخاصة في الفترة التي تلت رحيله.
اعتبر الإسلام هوية للعرب، والاستشراق حوار بين ثقافتين، الأوروبية المسيحية والعربية الإسلامية، لذلك أصّر على التعامل مع الواقع الحيّ، لا مع النصوص الميتة. وأدخل العديد من المصطلحات للثقافة العربية، كالثابت والمتحول والإسلام المتوسطي، والأصالة والمعاصرة وغيرها. وأولى عناية خاصة بالقرآن الكريم والمعلقات العشر، باعتبارهما -حسب رأيه- العمود الفقري للحضارة العربية الإسلامية.
شهد جاك بيرك بعقلانية الإسلام وسماحته وفرادته وصلاحيته الذاتية للتقدم والتجدد ودخول العصر دون الحاجة إلى استلهام نماذج التقدم من موائد الآخرين! وإذا كان جاك بيرك قد انتقد الجهلة والمغرضين، الذين يسيئون الظن بالإسلام ويعادون هذا الدين الحنيف بدلا من أن يتفهموه ويصادقوه.. فلقد أدان الموقف الغربي المعادي للإسلام فقال: (إن الإسلام، الذي هو آخر الديانات السماوية الثلاث والذي يدين به أزيد من مليار نسمة في العالم، والذي هو قريب من الغرب جغرافياً وتاريخياً، وحتى من ناحية القيم والمفاهيم.. قد ظل ويظل حتى هذه الساعة، بالنسبة للغرب: ابن العم المجهول، والأخ المرفوض..).
نظرة العلامة أبي بكر القادري لجاك بيرك
يرى الأستاذ القدير أبو بكر القادري في كتابه المجتمع الإسلامي في مواجهة التحديات الحضارية الحديثة والذي قام بنشره سنة 1998م أن الأستاذ جاك بيرك “كتب بروح فياضة مومنة، ولسانِ صادقٍ مخلص نصوح، وصوَّر بريشة فنان بارع مقتدر الحالةَ التي يعيشها العرب في تناقضاتها وأنانيتها وخلافاتها وتخلفها، وتحكماتها القهرية؛ إن الرجل يتألم بالغَ الألم، لحالة الانحطاط والانحدار التي بلغ إليها العالم العربي، والانتكاسات تلو الانتكاسات التي حلت به والتخليات تلو التخليات التي أصبح يتقبلها ويألفها أمام القهر والاستبداد والاستعباد” الصفحة 113.
فحسب الأستاذ القادري “لقد أدرك جاك بيرك” المآسي التي يعيشها العرب، وتعمق في دراسة أسبابها وعواملها، ولاحظ بمرارة أن العرب تخلوا عن حقيقتهم، عن معنوياتهم، عن وجودهم، وتعلقوا بقشور، وشعارات، زائفة براقة، لا تسمن ولا تغني من جوع، وظنوا أن هذه الشعارات الخادعة ستغطي تناقضاتهم وتخلياتهم وتطاحناتهم، وستكسبهم مواقع جديدة في هذا العالم الجديد، الذي لا يحترم إلا العاملين الجادين، البانين المجدين” نفس الصفحة.
ويضيف الأستاذ القادري قائلا: “إن الأستاذ جاك بيرك حاول تشخيص الداء في التصرفات الطائشة التي ظهرت في العالم العربي بعد نكبة 1948م التي فقدت معها المجتمعات العربية ما كانت تنعم به من حرية وكرامة، أخذتهما أخذا من براثين استعمار بغيض، فجاء مَن نزعهما منها بدعوى التقدمية والعبثية والاشتراكية، أو ما شئت من الشعارات والمغالطات التي لم تلاق منها الشعوب العربية، إلا الحزازات، والانقسامات والهزائم المتوالية” الصفحة 114.
لقد تميز بيرك عن بقية الباحثين الغربيين الذين اهتموا بدراسة الإسلام المصدري والإسلام التاريخي بالمقاربة الموضوعية، وإن وقع أحياناً، في بعض الاجتهادات غير الدقيقة كما يرى منتقدوه، لكنه يبقى مؤرخاً إنسانوياً انشغل دائماً في قول الحقيقة ولو على حساب انتمائه الغربي الفرنسي، الأمر الذي عاش معه عدة مضايقات.
تبارك الله على خويا رضا، أضأت لنا جوانب من شخصية جاك بيرك