جرائم فرنسا بالمغرب.. أيام فاس الدامية (أبريل 1912)
هوية بريس – ذ. إدريس كرم
لم يكن الوزير المفوض الفرنسي بالمغرب رونيو يتصور مقدار الغضب الذي سيخلفه إطلاق الشهب الصناعية من فوق سطح القنصلية الفرنسية بفاس مساء 16 أبريل لدى ساكنة المدينة، مثلما لم يظن الضابط -الذي أخبر طابور قشلة الشراردة صباح 17 أبريل بأنهم لم يعودوا تابعين للسلطان-، أنه سيكون الشرارة التي أطلقت غضب الجنود المغاربة، فكان ذلك سببا في الثورة التي اشتهرت بأيام فاس الدامية 17-18-19 أبريل 1912 وما بعدها.
إن الإبتهاج الذي كان يشعر به الوزير الفرنسي المفوض بفاس بعد توقيع عقد الحماية في 30 مارس 1912، لم يكن يشاركه فيه لا سكان فاس، ولا سكان المغرب الذين كانوا في مجابهات مختلفة مع القوات الفزنسية الغازية.
وفي ذلك يقول الطبيب الفرنسي “فريدريك وايسْجيربير” معلقا على توقيع الحماية: (عمّ المدينة القلق والرعب بمجرد ما شاع الخبر الذي كان يراد أن يبقى سريا لغاية 17 أبريل، زمن مغادرة السلطان للعاصمة، متنازلا عن العرش، وهو الذي نودي به سلطانا للجهاد، فهل باع أمير المؤمنين قسما من دار الإسلام للنصارى؟).
لقد كانت فاس محتلة منذ وصول القوات الفرنسية إلى أسوارها يوم الأحد 22 ماي 1911 لفك الحصار المضروب عن السلطان من قبل القبائل التي كانت تطالب بعزل بعض معاونيه ممن ثبت فسادهم وتعاونهم مع الفرنسيين، بيد أن توقيع الحماية كان له وقع مغاير زاده التنفيذ العملي لقيام الفرنسيين بالشروع في إدارة البلد بإطلاق الشهب وإصدار الضباط المدرب لعساكر السلطان المرابطة بقصبة اشراردة صباح يوم 17 أبريل 1912 أمرا يوميا، يقول: بأنه ابتداء من يومه ستصدر الأوامر بالغة الفرنسية، وسيقتطع ثلثي الراتب من أجل التغذية التي يمنع أن تبقى جماعية، بل تصير فردية، مع إجبارية حمل حقيبة الظهر (البردعة) لكل جندي، ومن أراد التشكي فعليه بقائد المركز أو الجنرال وليس السلطان، لأن السلطان تنازل عنهم، وسيغادر إلى الرباط متنازلا عن العرش، ومنعهم من زيارة أمهاتهم، فقابله الجنود بالصفير والصياح وهرعوا لخيولهم وأسلحتهم وساروا في كوكبات نحو قصر السلطان لإستجلاء الوضع، ففهم ممثلوهم من مقابلته وأعوانه بأن الأمر قد خرج من يده.
عاد الجنود الغاضبون إلى ثكنة الشراردة فوجدوا مدربيهم الفرنسيين قد استعدوا لمواجهتهم، فتم تبادل النيران مع البعض، بينما البعض الآخر توجه نحو التجمعات والمنشآت التي بها جنود فرنسيون منادين في طريقهم “أن الفرنسيين احتلوا البلاد وعزلوا السلطان”؛ فتكاثرت الجموع وتحركت القوات الفرنسية المرابطة خارج الأسوار للإنتشار في المدينة، غير أن الثوار سارعوا لإغلاق أبوابها في وجوههم.
وفي انتظار وصول القوات القادمة من مكناس والمراكز المجاورة، قام الفرنسيون الذين كانوا متواجدين داخل المدينة عسكريين ومدنيين بحمل السلاح وإطلاق النار على المتظاهرين، مما زاد في وتيرة التوتر ومنسوب العداء للفرنسيين، الذين كانوا وحدهم المستهدفين من قبل الثوار دون باقي الأجانب بدليل أن القتلى كلهم كانوا من الضباط وحاملي السلاح.
وعندما وصل الجنرال اموانيي يوم السبت 19 أبريل، مع قوات النجدة هاله الأمر وأمر بنصب المدافع في ظهر المهراز لتدمير “المدينة المجرمة” -كما سماها-، كما أمر بتدمير ثكنة تامدرت حيث يتواجد بعض العسكر الثائر وسواها بالأرض، وضرب باب افتوح ومقام مولاي علي بوغالب وجهة الطالعة وصومعة المدرسة العنانية، وشرع في هدم الدور على رؤوس ساكنيها الذين غادروها هائمين تحت طلقات الرشاشات.
وشرح سبب إرهاب النساء بتلك الطريقة الفظيعة لمعاقتبهن على الزغاريت التي كن يرفعنها عند مرور الثوار من أمامهن لتحميسهن أيام 17 و18 أبريل، مما يدل على ميلهن القلبي لما هو واقع.
كما خاطب اموانيي أعيان فاس الذين وجههم له القنصل كيار بعدما جاؤوا عنده ليعزوه في القتلى يوم الأحد، فاستقبلهم يوم الثلاثاء بعدما تركهم ينتظرون وقوفا حوالي نصف ساعة، ولما خرج إليهم وجلس وهم وقوف، خاطبهم قائلا: “قدمت فاس أربع مرات في إحدى عشر شهرا فلم تأتوني حتى رأيتم القنابل تصب عليكم”، فأجابوه: بأن ذلك من واجب المخزن لو أمرنا بالقدوم عندك لقدمنا، فقال لهم: “اعلموا أهل المدينة أنه لو حصل أدنى شيء لدككتها دكا، وإني أنتظر الجواب من فرنسا في العقاب المناسب للمدينة عما سلف”.
وكان قد بدأ يوم الإثنين 21 أبريل بإعدام من ألقي عليه القبض من الساكنة والجنود المخزنيين الثوار، وهكذا تم قتل 326 بالمستشفى العسكري المسمى بالمارستان، وصورة القتل أن يقف الجميع صفا طويلا ثم يحفر الأول حفرة ويطلق عليه النار، فيقبره الثاني الذي يحفر بدوره حفرة لنفسه، ويطلق عليه النار فيدفنه الثالث، وهكذا إلى الأخير.
ويوم الأربعاء 23 أبريل قتل 13 آخرين، ويوم الجمعة 25 أبريل قتل 9 بعدما ضربوا بالسياط.
كما علق يوم الجمعة منشور موقع من قبل اموانيي يعلم أن المدينة تحت الحكم العرفي، وأنه يسمح للشرطة بتفتيش المنازل ومنع الإجتماعات وحمل السلاح، بعدما تم جمعه يوم الأربعاء
وقد وجه اموانيي كتابا للقايد بن البغدادي جاء فيه “بأننا جعلنا ذعيرة على أهل فاس قدرها 200 ألف ريال لما ارتكبوه من قتل ونهب مفروضة على حوماتها كل حسب رواجه، وليكن ذلك عاجلا”، كما تم القبض على نساء الأعيان للتحقيق معهم وتم حشرهن في مقر الحاكم العسكري مع أخلاط الناس الموقوفين والمسلسلين والمقيدين حيث يبقى الجميع وقوفا من كثرة الإزدحام تحت الشمس بلا طعام ولا ماء ولا نظافة.
أما أهل فاس الجديد، وعقبة بونافع، فقد جمعوا في قشلة وأغلق عليهم الباب رجالا ونساء، متروكين في مواجهة الموت، ولم يوجه للسجن إلا من كان له اعتبار أو معروف، وقد تم فتح محكمة بدار فرجي قضاتها ومحاموها فرنسيون وكانت أحكامها كلها بالإعدام.
يوم الخميس 49 شخص قتلوا في بسيط فاس قرب القنطرة الطويلة رميا بالرصاص، وقد تقدم منهم ضابط فرنسي بعد القتل حيث أفرغ في رأس كل قتيل طلقة قائلا هذا: (فبور).
ويوم الجمعة يوم وصول ليوطي لفاس حكمت على 36 قتلوا بدار الدبيبغ، كما حكمت على 43 آخرين بنفس الحكم، وتم الهجوم على طلبة مدرسة باب عجيسة فقتلوهم وعددهم 22 طالبا بتهمة أنهم من أبناء القبائل الجبلية، وتم قتل 7 آخرين بباب الفتوح، و15 آخرين بدون محاكمة.
كما حشر الناس لاستقبال ليوطي، الذي كان محددا له في الساعة الواحدة حتى لا تقام صلاة الجمعة لكنه لم يدخل إلا في الساعة الخامسة!!
وبعدما استقر في إقامته استدعى قنصل انجلترا، وقال له بأنه تحقق من سوء تصرف العسكر الفرنسي في الأحكام القاسية التي ارتكبها وسوء الإدارة، وخاصة ما قام به الحاكم العسكري “لاموط”، حيث اشتط في فرض غرامة ثقيلة على لحياينة بلغت ثلاثين ألف ريال تؤدى في أربع وعشرين ساعة، تضاعف عند عدم الأداء حالا، فأمر برفع الأحكام العرفية، وإلغاء الذعيرة على أهل فاس، والسماح لحماية الأنجليز بحمل السلاح، ووجه الدعوة للعلماء والقضاة، وشافههم بذلك، ووعدهم بأن فرنسا ستعرف لهم فضلهم وترفع أجرهم.
لقد كانت هذه الأيام الدامية التي خلفت حوالي 600 قتيل من المغاربة، من الأسباب التي جعلت ليوطي يحول العاصمة للرباط، ويطلق سياسة التهدئة بدل الغزو، مدعيا أنه ممثل السلطان، وأن فرنسا جاءت لتحديث البلاد، لكن بطبيعة الحال لصالحها مما جعل جرائمها تتكرر باستمرار.