جعل الحق الوضّاح فوق أباطيل “الصباح”
رد على مقال لجريدة الصباح في شيخ الإسلام ابن تيمية وموقف العلماء من الفلسفة (ج1)
هوية بريس – ذ. طارق الحمودي
نشرت صحيفة “الصباح” المغربية في عدد الخميس 15 دجنبر مقالا من مقالات “محاكم التفتيش العلمانية” تنتقد فيه استعمال نص لابن تيمية رحمه الله في كتاب “المنار في التربية الإسلامية للسنة الأولى ثانوي” -ضمن مقرر حصة الأسبوع السابع عشر- منقولا من كتابه “درء تعارض العقل والنقل”، واستشهدتْ بمن سمته عبد الله الجباري، ووصفته بأنه خريج دار الحديث الحسنية، والذي استنكر وصفَ ابن تيمية بشيخ الإسلام وإهمالَ تحلية ابن رشد وابن طفيل بلقبين يحليهما هما أيضا عدلا وإنصافا.
كما استنكر نص فتوى لابن الصلاح في الطعن فيها والتحذير منها، وادعى أن واضعي المقرر وظفوا النصين للطعن في الفلسفة والانتصار للدين عليها، ودفع التلميذ لنبذها مقدما دينه عليها موهمين التعارض بينهما.
كان صاحب المقال -عزيز المجدوب الذي سبق له إجراء حوار مع الملحد سيد القمني المصري- قد فرش لنقل هذا الاستنكار بدعوى كون ابن تيمية عراب الوهابية وملهمها، مدعيا أن المقرر تضمن هجوما خطيرا على الفلسفة على طريقة كهنوت رهبان الكنيسة العلمانية.
أبدأ بمقدمة جيدة وضعها مؤلفو “المنار” متعلقة بالأسئلة ذات الصبغة الفلسفية مثل “من أنا؟ من خلقني؟ ومن خلق الكون؟ ما المطلوب مني؟ ما مصيري؟…”، قالوا فيها:
“يوجد أمام الإنسان مرجعان ممكنان لأخذ الإجابة.. أولها الإسلام، ونقصد به هنا الرسالات التي أنزلها الله إلى البشر… ثانيهما هو إنتاج الفكر الإنساني المخالف لما جاء به الإسلام، وهذا الإنتاج له أشكال وأسماء منها الفلسفة، وهو يجيب عن نفس الأسئلة الوجودية التي تعالج العقيدة الإسلامية، لكن بالاعتماد على إعمال العقل بعيدا عن النصوص الشرعية، مما يقوده إلى افتراضات وتأملات تختلف باختلاف أصحابها زمانا ومكانا“.
وكان مما قالوه في أواخر المقرر للحصة: “لذلك كانت مواقف كثير من علماء المسلمين عنيفة تجاه الفلسفة، ومنها ما صدر عن ابن الصلاح الشهرزوري المتوفى سنة 643 هـ حين سئل عمن يشتغل بالمنطق والفلسفة فأجاب: “الفلسفة أس السفه والانحلال، ومادة الحيرة والضلال، ومثار الزيغ والزندقة، ومن تفلسف عميت بصيرته عن محاسن الشريعة المؤيدة بالحجج الظاهرة والبراهين الباهرة، ومن تلبس بها تعليما وتعلما قارنه الخذلان والحرمان واستحوذ عليه الشيطان“.
لا ينقضي عجبي من مثل هذه الخربشات الصباحية، وسأجعل محاولة بياني الحق في القضية في موضعين -ممارسة للحق في النقد-:
الموضع الأول متعلق بموقف الصحيفة والخريج من ابن تيمية.
لم يكن شيخ الإسلام ابن تيمية محل طعن عند العلماء المغاربة والمصلحين الوطنيين الكبار، بل كان كغيره من علماء الأمة المعروفين المقدرين، يؤخذ من كلامه ويرد عليه، ولم تكن تهمته بتوفير أرضية للفكر المتطرف قد اخترعها أعداؤه بعد، فهي تهمة من إبداع اللاعقل العقلماني المعاصر، ولذلك فلا قيمة لها.
فوصفه بـ”شيخ الإسلام” لغة مجلة دعوة الحق التي تصدرها وزارة الأوقاف المغربية… وكان ممن يصفه بذلك وبما يقاربه بل أعلى منه كبار رواد الحركة الوطنية المغربية، الذين رأوا في استحضاره عونا على مواجهة الغزو الفكري في معركة التحرير الوطنية من أمثال العلامة الوزير محمد الفاسي رحمه الله الذي وصفه بالإمام، كما في العدد الثامن من السنة الثانية من المجلة 1378هـ-1959م، وقال فيه علال الفاسي: “المصلح الأكبر شيخ الإسلام” كما في العدد 10 من السنة الأولى من مجلة دعوة الحق، 1377هـ-1958م.
من الأمور اللافتة للانتباه أن يكون العلامة المنوني رحمه الله قد جعل للحديث عن تأثر بعض المغاربة بأفكاره في العهد المريني حيزا من كتابه “ورقات في حضارة المرينيين”، فقد جعل هذا المبحث في سياق الحديث عن “مقاومة أهل المغرب للبدع”، وكان العلامة المنوني منصفا وعادلا وهو يستعرض بعض الآخذين عن ابن تيمية من المغاربة تعلما وإجازة، ولم يجد حرجا في وصفه بـ”الإمام ابن تيمية” ص404.
ولست أدري كيف تكون حال أصحاب جريدة “الصباح” والخريج وهم يقرؤون مثل هذه التزكيات بأقلام كبار العلماء والمفكرين المغاربة مثل علال الفاسي ومحمد الفاسي والمنوني رحمهم الله، هل سينتفون شعورهم لتصير مثل وجوههم؟
ليس هذا هو معتمدي الأصل في بيان حقيقة موقف علماء المغرب الكبار من ابن تيمية، فثم شهادة مفصلة، راقية وعالية، كتبها عالم ومفكر وسياسي وتربوي مغربي كبير في كتاب من أجلِّ كتب المسلمين، وليس قصدي إلا العلامة والوزير الحجوي في كتابه التحفة “الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي”، فلم يكن غريبا أن يخص الحجوي رحمه الله ابن تيمية بالمدارسة، وقد ترجم له ترجمة ينبغي أن تكون نموذجا علميا يقاس وقدوة لكل من يكتب عن ابن تيمية، منتصرا لقول له أو منتقد له، وهذا نص شهادته فيه:
“تقي الدين شيخ الإسلام… كان ابن تيمية من أمهر أهل وقته في علوم الدين، وأعرف الناس بالقرآن العظيم، وأحفظهم للسنة، وأتقنهم للتفسير، ومعرفة ناسخه ومنسوخه، وتنزيل أحكامه عارفا بالرجال، بصيرا بالأسانيد لا يكاد يشذ عنه الحديث من أحاديث الرسول إلا وعرف مخرجه ورجال سنده، وما هي رتبته قوة وضعفا من أئمة هذا الشأن، متبحر في الأصول والفنون الموصلة لذلك، وبالجملة كان فحلا في العلوم الإسلامية، شديد الرد على الفرق الضالة، وعلى البدع الحادثة في الإسلام، وعلى العلماء المتساهلين وذلك ما أوجب تألبهم عليه.
وله تواليف تدل على فضل واسع ومادة وافرة… في نحو خمسمائة مجلد في الدين وأصوله وفروعه، يطول سرد أسمائها، وفتاواه في الفنون تبلغ ثلاثمائة مجلد، وكان قوالا للحق، لا تأخذه في الله لومة لائم، ما كان ليتلاعب بالدين، ولا يطلق لسانه بما اتفق، بل يحتج بالقرآن، والحديث والقياس، ويبرهن ويناظر أسوة من تقدمه، تعتريه حدة في البحث زرعت له عداوة في النفوس، ولولا ذلك، لكان كلمة إجماع، قاله الشوكاني… وقد ظهرت فضائله بظهور تآليفه، وتبين بها توهين كثير مما نسب إليه، وأنه ما كان إلا لحدة لسانه في الرد على خصومه…. على أنه كغيره من المجتهدين عرضة للصواب والخطأ، والمجتهد مأجور في خطئه كصوابه، على أن خطأه مغمور في بحار علومه كما قال الذهبي وغيره، والله يغفر له“.
بعد أن ينتف أصحاب الصباح ومعهم الخريج شعورهم بسبب شهادة العلامة المنوني وعلال وغيرهما.. لست أدري ما يفعلون بعد قراءة هذه الشهادة… ولعل اللطم على وجوههم سيكون كافيا.
هل كان ابن تيمية عراب الوهابية..؟
هكذا وصفته جريدة التفتيش العلمانية، وأنا أنقل هنا موافقة الحجوي لهذا، لكنها كانت في سياق المدح خلاف سياقهم الظالم والغبي، فإنه قال: “وأفكاره في فهم حقيقة الدين الإسلامي وتجريده عن زوائد الابتداع، وإخلاص الدعوة للتوحيد الحق، وترك المغالات في تعظيم المخلوق كي لا يلحق بالخالق هي الأصل في مذهب الوهابية، فتواليفه ومباديه هي الأصول التي يرجعون إليها، ومجمل مذهبهم توحيد خالص، والعمل بالكتاب، والسنة الصحيحة أو الحسنة، وترك تقاليد الأوهام، واستقلال الفكر في فهم الشريعة من كتاب وسنة وقياس، واتباع السلف، ونبذ المحدثات، على هذا تدور سائر كتبه، وهذا ما كان عليه السلف الصالح رضي الله عنهم، فهو من المجددين، وبسبب محنته تعلق الناس بأفكاره، وبحثوا عنها، وطبعوا كتبه، وبعثوها من خمولها، وتمذهبوا بمباديه، فصار زعيم حزب عظيم في الإسلام، وعم ذكره الآفاق نظير ما وقع للإمام أحمد بن حنبل، ومالك وغيرهما رحمهم الله“.
فانظروا رعاكم الله إلى الفرق الكبير بين شهادات العدول من علماء المغرب، وبين شهادات أهل الزور وعرابي الشرور. في صحف التدليس والتلبيس. وقبل الخروج من هذا، يحسن إيراد الجواب عن هذا السؤال: لماذا يعاديه أهل الباطل والعلمانيون وجريدة الصباح وهذا الخريج؟
والجواب عن هذا على لسان العلامة الحجوي أيضا، وهو مضمن في النص الأول الذي نقلته عنه فإنه قال: “كان فحلا في العلوم الإسلامية، شديد الرد على الفرق الضالة، وعلى البدع الحادثة في الإسلام، وعلى العلماء المتساهلين… وذلك ما أوجب تألبهم عليه“.
فسبب عدائهم له إذن -على قول العلامة الحجوي رحمه الله- هو كونهم من الفرق الضالة من أهل البدع الحادثة والتساهل في دين الله تعالى، وما شهد العلامة الحجوي إلا بما علم.
وأما سبب عدم تحلية مؤلفي المنار لابن رشد وابن طفيل… فلأنهم لم يجدوا لهم تحلية معروفة عند العلماء… فوقفوا عند ما يعرفون، فهل كان أصحاب المقال يردونهم أن يخترعوا لهم ألقاب من عندهم؟!
لم يكن مؤلفو المنار في التربية الإسلامية غافلين عن مكانة ابن تيمية، واختيارهم نصا من كتاب درء تعرض العقل والنقل اختيار موفق، وهم لم يخرجوا في ممارستهم التربوية عما كان عليه علماء المغرب الكبار، ولا يضرهم بعد ذلك خربشات الصغار على جبال التراث الإسلامي.
سأجعل الجزء الثاني من هذا النقد إن شاء الله تعالى عن العلاقة بين الإسلام والفلسفة، وعن موقف علماء المالكية والأشعرية من الفلسفة، خاصة المغاربة منهم، حتى تتبين التدليسات القباح لجريدة “الصباح”.