جمالية الاعتذار
رشيد وجري
هوية بريس – الخميس 10 دجنبر 2015
هل لديك الجرأة الكافية لتقل لمن أخطأت في حقهم “معذرة” كيفما كانوا؟؟
من منا ما أساء قط ومن منا له الحسنى فقط، من منا لم يسر عليه قول الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم: “كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون”. من منا قد عُصم من الخطأ وعُفيَ من الزلل ولم يحتاج يوما إلى الاعتذار من أحد؟… من منا ليس من طينة الإنسان الذي جُبِل على الخطأ ليريه الله سبحانه وتعالى ضعفه وقصره، ويتجلى له سبحانه بمنه وعفوه وكرمه؟…
كل منا ذو خطأ غير أننا نختلف في التعامل مع هذا الخطأ، وفي التعامل مع من أخطأنا في حقهم، فالعاقل كثيرا ما يعتذر ممن أساء لهم تقصيرا أو تحقيرا أو تبريرا أو تعبيرا أو…، والغافل اللاهي العاجز قد يؤجل الاعتذار إلى أجل غير مسمى فاتحا باب الأماني والأمل وقد يدركه الموت وينتهي الأجل دون المبادرة بهذا العمل، لكن المتجبر المتعجرف الجبار المتكبر فإنه لا يعرف للاعتذار طريق ولا لجمالياته بريق…
ثقافة الاعتذار ثقافة سامية وراقية لكنها للأسف الشديد غائبة عندنا وبيننا إلا في حالات نادرة… الاعتذار أسلوب حسن في التعامل يفيض جمالا وروعة ونبلا، ورغم ذلك فهي عند بعضنا أو جلنا تقليل من شأن المعتذر وتنقيص من قيمته والحقيقة أن العكس هو الصحيح… يقول الشاعر:
عجبتُ لحرّ يستحي باعتذاره***وأولى به أن يستحي بذنوبه
(الشاعر القروي).
وجمال الاعتذار لا يحسه إلا من يتمتع بجمال الداخل والباطن، جمال الروح والفؤاد، جمال الحس والمشاعر، أما من لم يعرف للإنسان إنسانيته ولم يحس بآدميته، فمحال أن يعتذر أو يحاول ذلك لأنه بكل بساطة لا يحس بجمالية ذلك ولا بدفئه…
إن الذين أفسدوا ولطخوا الحياة العامة، السياسية منها والاجتماعية والاقتصادية وغيرها، بزلاتهم وخطاياهم يغنون ويرقصون على دماء الضحايا، ويطربون ويتلذذون بمآسي الناس ومعاناتهم، فكيف ننتظر منهم أن يجيدوا فن الاعتذار وطلب التجاوز، وكيف يرون جماله وروعته، وهم يفتقدون إلى جمال الباطن والعمق؟؟ كيف ننتظر منهم أن يتعاملوا بقبول الاخرين وخفض الجناح له، وهم لم يروا أو لا يريدون رؤية جبال من الانتهاكات والمعضلات الذين كانوا هم من ورائها أو سببا فيها؟؟؟
إن للاعتذار جمال وبهاء قد تراه المجتمعات المتخلفة والظالمة ولا تمارسه، يحتقر القوي فيها الضعيف، يسخر منه، إن لم نقل يسحقه ويهضم حقوقه عيانا، والاعتذار أيضا لا يمارس من لدن سلطات لا تعرف إلا لغة القمع والحيف، لغة الرعب والخوف، تفرض جبروتها على مجتمعات معينة فتسحقها، وتأكل حقوقها، وتتفنّن في شرذمتها وبعثرتها في هذا العالم المترامي الأطراف…
ومما لا شك فيه أن دور الأسرة والمدرسة وكل مؤسسات التنشئة الاجتماعية في غاية الأهمية لزرع قيم وثقافة الاعتذار الجميلة الرقية والتي من شأنها أن تحسن من العلاقات وتمتن أواصر المحبة والتقدير بين أفراد المجتمع…
رائع لو استطاع الأب أو الأم أن تدرك ويدرك أن اعتذاره لأبنائه أو بناته لا يهز مكانته ولا يخدش قدره بل يعمق جذور الحب والاحترام بينه وبين من اعتذر له ولو كان دونه… جميل جدا أن يعتذر الأستاذ لتلاميذه وتلميذاته إن صدر منه ما يلزم ذلك وهذا لا ينقص من قدره بل من شأنه أن يجعل العلاقة بين الأستاذ وطلابه مبنية على الصدق في الاحترام وجميل المشاعر والسمو في التعامل… وعظيم وراق أن يعتذر السياسي ممن صوتوا عليه “فَسَوَّتهم”، ومنحوه شرف تمثيلهم “ومثَّلَ عليهم أو مثل بهم” ومكانة النيابة عنهم، لكنه أخطأ في حقهم ولم يوفي بما قطعه على نفسه من وعد ولم يحقق ما سطره في برنامج تعاقده معهم، والاعتذار بصدق ولباقة خير ألف مرة من التمادي في الكذب والتضليل والاستغراق في المراوغة والتجهيل…
ومن جماليات الاعتذار أنه:
- يقدر ويحترم من قُدم له الاعتذار، وأن المعتذر له ليس دون الآخرين إن أُخطئ في حقه ولو كان صغيرا.
- أن يحسن العلاقة بين المخطئ المعتذر والمعتذر له.
- أن الاعتذار يجعل العلاقات مبنية على الاحترام والتقدير الحقيقيين دون نفاق أو تصنع.
- أن الاعتذار خلق الأقوياء الذين يقدرون قيمة الإنسان ويحفظون كرامته…
- أن الاعتذار اعتراف بالآخر وهو أجمل ألف مرة من التمادي في الظلم والاحتقار والتبخيس…
إن الأجيال القادمة بحاجة ماسة إلى بناء تربوي رصين ومن نوع جديد منفتح، يستحضر جمال القيم النبيلة من قبيل قيمة الاعتذار والتسامح وقبول الآخر والاعتراف به وبكيانه… وهي سلوك النبلاء، ودرب العقلاء، كما أنها حصن حصين للابتعاد عن الخطأ والتمادي في الزلل، وسد منيع لتجاوز سوء الأدب، وتأتي يقيمة الاعتذار كذلك من أجل الاهتمام بمشاعر الآخرين احترما وإكراما .
كم ستكون الحياة أجمل بجماليات قيم الاعتذار إذا تفشت بيننا، وكم ستكون العلاقات أكمل وأمثل تحت ظلال وفي رحاب أخلاق الاعتذار، وكم سيكون العالم أرقى وأنقى وأبقى مستضيئا بأنوار الاعتذار وجمالياته الرقراقة… فاعتذر من الابن والبنت الصغيرة ومن الخادم والتلميذ وممن هو دونك قوة وجاها -حسب تقديرك – فلا تكتفي بالاعتذار من رئيسك أو من هو فوقك، فنحن في أمس الحاجة إلى الاعتذار بناء على تقدير الآخر وليس الخوف منه، تقديره كإنسان وليس كمنصب أو مكانة في المجتمع…
وفي الختام لا يفوتني أن أقول لكل من أخطأت في حقه… أخي الكريم وأختي الكريمة… أنا آسف جدا جدا… معذرة على كل ما صدر مني في حقكم يوما ما… ودامت علاقاتنا مبنية على الصدق والاحترام والارتقاء.