جوليان أسانج… موت الصّحافة أم موت الدّيموقراطيّة في الغرب؟
هوية بريس – عادل بنحمزة
“هذا ليس تمريناً، إنها حالة طارئة، حياة ابني، الصحافي جوليان أسانج، في خطر وشيك وخطير، وأشكركم جميعاً على سماعكم دعوة أمّ تطلب منكم المساعدة لإنقاذه”. كان هذا مطلع النداء المؤثر والحزين لوالدة الصحافي جوليان أسانج الذي ملأ الدنيا وشغل الناس، عندما قاد رئاسة تحرير موقع “ويكيليكس” وكشف فيه بمهنية عالية كثيراً من الأسرار التي دارت حوادثها في كواليس السلطة في عدد من دول العالم، اتضحت معها خبايا كثيرة في السياسة الدولية وفي العمل الدبلوماسي، وكشفت ما وراء العديد من المواقف والحوادث. كانت الإدارة الأميركية أبرز من تم كشف ازدواجية مواقفها، بين التصريحات العلنية وما كان يكتبه سفراؤها عن الدول التي يعملون فيها.
نداء والدة أسانج الذي وجهته في الثالث من مثل هذا الشهر قبل أربع سنوات (تشرين الثاني/نوفمبر 2018)، تجاهلته وسائل الإعلام الغربية “الديموقراطية جداً”، وشكل موقعا “Le Grand soir” و”les Crises” الاستثناء، فبفضلهما تمكن جزء من المدافعين عن الصحافة الحرة وحقوق الإنسان من الوقوف على حقيقة تواطؤ الإعلام الغربي في القتل المعنوي والمادي لأسانج المطلوب لأميركا بتهم قد تؤدي للحكم عليه بالمؤبد. ولتجنب هذا المصير ظل لاجئاً لسنوات في سفارة جمهورية الإكوادور في العاصمة البريطانية لندن من 19 حزيران (يونيو) 2012 إلى 11 نيسان (أبريل) 2019، في ظروف قاسية روتها والدته في شريط صوتي على موقع “يوتيوب” محروماً من الشمس ومن التطبيب، بسبب عزم بريطانيا على تسليمه لواشنطن فور خروجه من السفارة، وقد تعرضت جمهورية الإكوادور لضغوط أميركية متزايدة لتسليمه لها، وهو ما نجحت فيه في الأخير، إذ تم تسليمه للشرطة البريطانية؛ ما يعني حجم الضغط والمعاناة النفسية التي تعرض لها أسانج يومياً ولسنوات، وسط تجاهل إعلامي غربي فاضح وقاس ومخجل لشخصه ولقضيته.
تقول والدته إنه “رغم أن جوليان صحافي مرموق، محبوب ومحترم بسبب شجاعته في إدانة وكشف جرائم خطيرة ومستويات عليا من الفساد، وذلك خدمة للمصلحة العامة، فهو حالياً في عزلة تامة وحيداً ومريضاً ويعاني في صمت، قُطعت عنه الاتصالات وتعرض للتعذيب في قلب لندن… السجن الحديث للسجناء السياسيين لم يعد برج لندن بل سفارة الإكوادور”.
في قضية جوليان أسانج شهدنا كيف انهزمت الديموقراطية الغربية أمام الحقيقة، فبينما اتخذ الإعلام الغربي مواقف واضحة في قضايا تهم التضييق على الصحافيين في الصين والشرق الأوسط وشمال أفريقيا وغيرها من المناطق حول العالم، فإنه في المقابل ساهم في قتل أسانج بمعاول التجاهل وتركه وحيداً يواجه مصيراً لا يختلف كثيراً عن مصير العديد من الصحافيين من خارج المنظومة الحضارية والثقافية الغربية، سوى بما توفره “الحضارة” من أساليب قتل أقل بداوة لكن في النهاية النتيجة واحدة، هي إسكات الأصوات المزعجة التي تغرد خارج السرب إلى الأبد.
في كتاب “كيف تموت الديموقراطيات”، يقول كل من دانييل زيبالت وستيفن ليفيتسكي، إن التجربة التاريخية أثبتت أنه في معظم الحالات فإن “الديموقراطيات تموت ببطء لا يكاد يلاحظه أحد”، إذ إنها “تفسد بسبب القادة الذين يسيئون استغلالها”، حيث تتعرض الديموقراطية إلى الهدم التدريجي بشكل ربما لا تتوقع آثاره المدمرة. في العديد من الدول الغربية يتحقق هذا التصور بوضوح، ولعل وجود شخص مثل دونالد ترامب في موقع الرئاسة الأميركية سابقاً وحده يقدم دليلاً على كيفية موت الديموقراطيات، لذلك لم يكن مثلاً من الممكن انتظار موقف جدي أميركي مناصر لحرية الرأي، بينما تطالب الإدارة الأميركية بجوليان أسانج، بل أكثر من ذلك، فالتجربة التاريخية تعلمنا أنه يجب ألا ننخدع كثيراً بتوزيع الأدوار في الإدارة الأميركية ولا حتى بدموع جزء من الصحافة الغربية التي تغاضت طويلاً عن أعمال إجرامية وإبادات جماعية في أنحاء متفرقة من العالم.
الصحافة الحرة تواجه مصيرها وحيدة أمام تضخم السلطوية وزحفها على الديموقراطيات الغربية، ولو مواجهة ناعمة، وجوليان أسانج وحده دليل على ذلك.
في شهر تموز (يوليو) الماضي (2022) وافقت وزيرة الداخلية البريطانية السابقة بريتي باتيل على تسليم ناشر “ويكيليكس” جوليان أسانج إلى الولايات المتحدة، حيث قد يواجه حكماً بالسجن لمدة 175 عاماً. علق موقع “ويكيليكس” على ذلك بوصفه أنه “يوم مظلم للصحافة وللديموقراطية البريطانية”. القرار البريطاني استُؤنف لتنطلق معركة قانونية جديدة، لن تفعل شيئاً أكثر من الاستمرار في إسقاط أقنعة الغرب المنتفخة بالمبادئ والقيم التي يتم تصريفها بانتقائية فجة…