جوهر كتاب “الإظهار”: الصوفية في مواجهة الاستعمار
هوية بريس – محمد زاوي
1-سياق الكتاب وموضوع محمد المكي الناصري
أنهى محمد المكي الناصري كتابة كتابه “إظهار الحقيقة وعلاج الخليقة” في 16 شتنبر 1922، وهذا تاريخ له عدة دلالات نذكر منها:
– ظهور بعض البوادر لفشل المقاومة القبلية:
وذلكبعد: التراجع الميداني الذي تلا هزيمة أحمد الهيبة بن الشيخ ماء العينين وجيشه في معركة “سيدي بوعثمان”إلى أن تم تسميمه عام 1919، استسلام القبائل الزيانية باستشهاد قائدهم موحا أو حمو الزياني عام 1921، استسلام المقاومة الشمالية (تحالف بين قبائل “الريف” و”جبالة”) بقيادة زعيمها محمد بن عبد الكريم الخطابي عام 1926 (وهو ما ظهرت بوادره بمجرد أن انتصر الخطابي في معركة “أنوال”، حيث تشكل التحالف الفرنسي الاسباني دفعا لتوسع حركته)… ولم يتأخر استسلام غير هذه المقاومات القبلية إلا مقاومة قبائل آيت عطا بقيادة عسو أوبسلام (لما بعد معركة “بوكافر”، عام 1933).[2]
لقد كان الاستعمار عبارة عن جهاز دولة كولونيالية تخفي خلفها مصالح الرأسمالية الاحتكارية الفرنسية، فكانت المقاومة القبلية عاجزة عن الانتصار على هذا النمط الجديد من التحدي الاقتصادي والعسكري والسياسي والثقافي. ومنذ البداية،دافعت هذه المقامة عن أرضها في وجه الجنرالات الإقطاعيين، لتجد نفسها عاجزة أمام حداثة السلاح وحداثة التخطيط الحربي.
– حاجة المجتمع المغربي لحركة وطنية حديثة تواجه الاستعمار:
انهزام المقاومة القبلية جعل المغاربة في حاجة إلى تحديث سياسي وثقافي (إيديولوجي)، وهو ما لم يكن زعماء المقاومة القبلية قادرين عليه. إنه استعمار حديث، ولن يواجه إلى بمقاومة حديثة. استعمار حول الفلاحين قسرا إلى عمال، فاحتاجت المقاومة الحديثة إلى تنظيم العمال وتأطيرهم. استعمار تخلقت داخله بورجوازية مغربية، فاحتاجت هذه الأخيرة إلى من ينطق بلسانها ويدافع عن مصالحها المعرقَلة من قبل الرأسمال الفرنسي. استعمال قلص من مصالح النخب المخزنية والأرستقراطية، فاحتاجت هذه لتجديد آلياتها والاتحاد مع من هو أرقى منها في سبيل تحريرها واسترجاع مصالحها.
– حركة النخبة المدينية من أجل التحرير:
لقد بدأت هذهالحركة انطلاقا من بعض المؤسسات العلمية الكبرى، مثل جامعة “القرويين” بفاس وجامعة “ابن يوسف” بمراكش. وقد كانت بمثابة استجابة لمجتمع مغربي يطلب التحرر والاستقلال والخروج من ضيق الاستعمار، وكذا بمثابة استجابة لقيادة الدولة المغربية التي كانت في حاجة ملحة إلى استعادة سلطتها.[3]
يقول علال الفاسي بخصوص هذه الحركة:”غير أن هذا نفسه (ترحيب المولى سليمان بالثورة الوهابية، دعوة الشيخ عبد الله السنوسي، اتصال محمد عبده ببعض النخب المغربية، رجوع المصلح الكبير أبي شعيب الدكالي وتأييد المولى عبد الحفيظ لدعوته) لم يكن إلا مقدمة أولى للحركة السلفية التي دعا إليها وبثها وخرج رجالها أستاذنا العلامة المصلح السيد محمد بن العربي العلوي حفظه الله، فقد كان لهذا الرجل من الجرأة والإقدام والثبات ما جعله يلاقي في دعوته نجاحا كبيرا وإقبالا عظيما”.[4]
ويقول بخصوصها عبد الصمد بلكبير: “في الجامعتين اليوسفية والقرويين، وفي الكثير من المساجد، من قبل خريجيهما، ستتأسس نوى معارضة ومقاومة ذات طبيعة فكرية-ثقافية ثم سياسية: إصلاحية/ سلمية/ مدينية أساسا ومدنية/ تجمع الطلاب إلى أساتذتهم/ وتلتحق بها العديد من الطرق والزوايا والحرف والمهن الصناعية والتجارية، مرتبطة بتجربة المشرق العربي والإسلامي، وحركاته الدينية الإصلاحية والوطنية، ومستفيدة من دروسها وعبرها ومكامن نجاحاتها وأسباب إخفاقاتها. إنها ما سمي لاحقا بالحركة السلفية. وما كانت كذلك إلا اسما أو شكلا، وإلا فهي حركة تجديدية تنويرية ونهضوية، عملت على إصلاح العقيدة دينا وتدينا، وإصلاح سلوكات المجتمع ومعاملاتها، ومحاربة البدع والشعوذات والخرافات والإسرائيليات… وكان ذلك شرطا لانتقالها لاحقا وسريعا إلى حركة وطنية اجتماعية وسياسية نقابية وحزبية وشعبية، لا تقتصر على نخبة الجامعتين، بل تمتد إلى المجتمع الأهلي، وتقود نضالاته المختلفة من أجل تحقيق “دفتر المطالب المستعجلة” ثم من أجل الحرية والتحرير والاستقلال”.[5]
لقد تصدر محمد المكي الناصري الكتابة في هذا السياق حيث: عجزت المقاومة القبلية المسلحة واستسلمت في مواجهة حداثة جهاز الدولة الكولونيالي، وأخذ المجتمع المغربي يطلب “قدرة وطنية” يلتحم حولها لتحقيق استقلاله وتحرره، وشرعت نخب المؤسسات التعليمية التقليدية في تجديد مضمونها وخطابها وآلياتها ممهدة بذلك الطريق لحركة وطنية تتكثف فيها مصالح كل الفئات والطبقات المغربية.
2-مضمون الكتاب ومعركة محمد المكي الناصري الأولى
أولا: البدعة في شرط الاستعمار
كتاب “إظهار الحقيقة وعلاج الخليقة” هو أول رصاصة وضعها محمد المكي الناصري في بندقيته في سبيل التحرير والاستقلال وطرد المستعمر من أرض الوطن، مهما ظهر بعدها عن كل ذلك في ظاهرها. المقصود بالنقد هو كل تيار بدعي لم يسلم من عيبين: مخالفة الشرع، والتولي يوم الزحف. لقد خالف المبتدعة الشرع، فانتكسوا وتكاسلوا وهادنوا الاستعمار مستأنسين لاستغلاله، فما وجدوا من محمد المكي الناصري إلا أن فضحهم دينا ودنيا. لم تكن دنيا الناصري لتستقيم بغير دين المغاربة، ولم يكن هذا الأخير ليستقيم إلا في دنيا المغاربة وبحل مشاكلهم وفي صلب إشكاليات نخبهم الوطنية. لا بد إذن من مواجهة البدع ودحرها، فذلك مدخل من مداخل إحياء الهمم وإصلاح الشأنين الثقافي والسياسي في مغرب الاستعمار، وبالتالي “تحصيل القدرة الوطنية الحديثة” لمواجهة الاستعمار وتقليص نفوذه الثقافي على واجهتين: إعادة إنتاج التقليد الإقطاعي، تفكيك القيم المغربية بقيم أخرى دخيلة. ستتقدم الحركة الوطنية سياسيا بتقدمها الثقافي، وهذا ما كان محمد المكي الناصري من المشاركين فيه.
ثانيا: تجليات البدعة وتخلف الأمة
المحدثات في نظر -محمد المكي الناصري-قسمان: محدثات وافقت الشرع، ومحدثات خالفته. ولذم التي خالفته وحمل الناس على إنكارها، يستدعي محمد المكي الناصري ما تيسر له من آي القرآن وأقوال الرسول وأبيات الشعر، ثم يصرح: “فالاتباع أصل الفضائل كلها، وأس الكمالات بأسرها، والابتداع رأس الفضائح والمصائب، والسبب في اضمحلال الأمم وانحطاطها وما يصب من اللعنات عليها ويحل بها كل لحظة من القوارع والنوائب”.[6]
ولما كان الابتداع رأس الفضائح والمصائب كلها، كان تأخر الأمة واستضعافها ناتجين عن ابتداعها وإحداثها ما يخالف شرع الله. يقول محمد المكي الناصري: “فاستبدلوا بالشريعة مذاهب وتقاليد هم بها عاملون، (…) وغرتهم الحياة الدنيا فطغوا بالميزان، وغرهم بالله الغرور، فانحرفوا عن صراط القرآن، وطلبوا العزة بالكلم الخبيث، فكانت عزتهم ذلا، وكثرتهم قلا، ومكروا السيئات، فقادوا العلماء والفقهاء بسلاسل سياسة السلاطين والأمراء، وأوهموا الوازرين والخطائين، بأن سيحمل أثقالهم عنهم نفر من الميتين، (…) ففسدت بذلك الأعمال والنيات، واتكل الأحياء على شفاعة الأموات، وتبع ذلك تفرق الكلمة بالباطل، وعدم الاجتماع على نصرة الحق، فخلا الجو للأمراء الظالمين، والرؤساء الغارين، وفسد بذلك على الأمة أمر الدنيا والدين”.[7]
لقد تعددت مظاهر البدع زمن الاستعمار العسكري في المغرب، ويذكر منها محمد المكي الناصري ما يلي:
– اتخاذ القبور حرمات ومعابد: والأموات لا قدرة لهم على نصرة الأحياء.
– ابتداع أحكام في الدين: عدم الرضا بالشرع المبين.
– جعل دين الله لهوا ولعبا: إشارة إلى الشطح والرقص الصوفيين.
– الإطراء المنهي عنه لرسول الله.
– الاستغاثة بغير الله (الشيوخ).
– انتشار ظاهرة المجاذيب…[8]
في كل مظهر من هذه المظاهر شيء مما يضعف الحركة الوطنية ويعرقل أوراشها، وذلك ما يغفله كثير من الذين يقرؤون متن الناصري، وخاصة فيما كتِب منه في شرط الاستعمار القديم (=العسكري). فابتداع الأحكام في الدين يحرم الأمة مما يوحدها ويجمع شملها ويحرضها على مواجهة المستعمِر، وجعل الدين لهوا ولعبا يخرج الدين من تاريخ المقاومة إلى تاريخ “القابلية للاستعمار”[9]، والإطراء المنهي عنه للرسول وغيره يورث تقديس شيوخ الطرق والمجاذيب بالرغم من عمالة وخيانة بعضهم، والاستعانة بغير الله يفكك الوحدة العقدية المغربية ويهدد الثقافة الوطنية، وانتشار ظاهرة المجاذيب ينتج عنه الالتفات عن “الأخذ بالأسباب” والاتكالية والتقاعس عن أداء الواجب الوطني المعقول والمطلوب. فيما يقال حقيقتان: حقيقة في لفظه، وحقيقة في واقعه. ومن اهتم بالأولى دون الثانية، سيظلم محمد المكي الناصري في كثير من حقه. وذلك مدخل من مداخل الاستعمار الجديد، حيث يعمل هذا الأخير على إسقاط الرموز الوطنية وتزهيد العامة فيها، ضربا للذاكرة الجماعية وإنهاء لكل قدوة تذكر بالقيم الوطنية وأمجاد السابقين.
رابعا: تعويض الخاصة عن عجزها
ليس العامة وحدهم هم الذين ابتدعوا وتركوا مشاكلهم الحقيقية إلى العزلة واقتفاء أثر المجاذيب والتعويض عن العجز بالدجل والخرافة والشعوذة، بل إن الابتداع أصبح ديدن كثير ممن يدعون الخصوصية. يقول محمد المكي الناصري: “وليس العجب من انتشار ذلك بين العامة الذين هم كالأنعام، في كل الأمم والأقوام، بل العجب دخوله على كثير ممن يدعون أنهم من الخواص والعلماء وانتصارهم لأهله، كأنه من عزيز الكمالات في الدين الإسلامي”.[10]
لقد وجد العلماء نفسهم في ورطة نظرية وإيديولوجية لم يجدوا لها مخرجا متاحا، فابتكروا لها مخرجا بدعيا لا يصب في مصلحة المغاربة بمختلف فئاتهم وطبقاتهم. لقد أدى ذلك إلى: احتجاب نور الشريعة، شيوع البدع والمحدثات، استكانة النفوس للبدع علماء وعامة، قعود العلماء عن بيان الحقيقة، ظن المسلمين أنهم على حق…[11]هي إذن عدة نتائج أدت إليها عملية التعويض اللاواعي الذي سقط العديد ممن ينسبون أنفسهم إلى الخاصة، فحل اللاعقل محل العقل، وحلت العزلة محل المعركة، وحلت “القابلية الاستعمار” محل المقاومة، واستحال الزعيم المقدام شيخا يرقص في حضرة الشيطان.
خامسا: الدين وأدواره التاريخية
يراهن محمد المكي الناصري على الدين في معركته ضد الاستعمار، ولذلك وجدناه يحرص على حمايته من المتلاعبين والمبتدعين. لقد تعرض الإسلام لعدة محاولات تحريفية، فأبى الله إلا أن يحفظه مصداقا لقوله: “إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له حافظون”. يقول الناصري: “وهذه الأمراض والأعراض كافية لأن تفقد الدين حياته الأدبية (لا قدر الله)، ولولا أن أصول الدين محفوظة من التغيير والتبديل لم تصل إليها يد عابث لما بلغنا شيئ من حقائق الدين، ولاندثر كما اندثر غيره من الأديان التي نالت أصولها يد المتلاعبين –والأمر لله ما شاء فعل”.[12]
لقد حفظ الله الدين في أصوله، ولكن الفرق العديدة ابتدعت فيه، فنالها ما نالها من التخلف والخسران المبين، بسبب انحرافها وابتداعها لا بسبب الدين الذي لم تعمل به كما يجب في حقيقته الشرعية وشرطها التاريخي. هذا ما يؤكده المكي الناصري عندما يصرح بالآتي:
– الدين الحنيف هو الذي أخرج العرب من همجيتهم.
– تخلف المسلمين ناتج عن الابتداع في الدين.
– الحل هو إصلاح النفس ودعوة الأقربين وكل من هو تحت سلطة الداعي إلى ترك البدع.
– من الواجب فضح البدع وبيان الحق في كل المحافل واللقاءات من غير خوف.[13]
الابتداع هو سبب تخلف العرب بعدما أنقذهم الإسلام مما كانوا فيه من تخلف واستضعاف، وهو أيضا سبب الاستغلال والاستضعاف الذي كان يعانيه المغاربة زمن الاستعمار العسكري. هكذا ينقل الناصري مفهوم البدعة من سياق إلى سياق، والقصد هو أن يخرج المغاربة مما هم فيه من واقع الاستعمار.
سادسا: التصوف في الحقيقة الشرعية والشرط التاريخي
أهل البدع ليسوا هم المتصوفة أصحاب الطرق السنية، فالطريق منزهة عن البدع،و”لو قدرها الناس حق قدرها لأجلوها ونزهوها عن البدع والأهواء، فإنها أكبر داع في الأمة لاجتماع العصبية وتأليف القلوب وتوحيد الكلمة، ويؤدى بها ما لا يؤدى بالسوط، لأن السوط يحرك الأجسام، والطريق تحرك القلوب، وفرق عظيم بين من يعمل في الظاهر، وبين من يعمل في الظاهر والباطن”.[14] لا يقبل محمد المكي الناصري التصوف إلا إذا كان سنيا، والمقصود بسنية التصوف: موافقته الشريعة، وقدرته على توحيد الكلمة وتوجيه الجموع في صالح المستعمَرين والمستضعَفين.
وعلى هذا الأساس، كلن “لقب (التصوف) مخصوص(ا) بالموصوفين باتباع السنة ومباينة البدعة”، وذلك حتى لا تتحول الطريق إلى شريعة جديدة. “اتباع السنة ومباينة البدعة” هو طريق كل أولئك الذين واجهوا المبتدعة (القابلين للخيانة) من داخل نفس المرجعية (التصوف)، بغرض حماية الثقافة الجامعة وعقائد البسطاء من العامة ومصالح الدولة، فكان كلامهم حجة على غيرهم ممن يدعون الطريق خارج “حقيقة الريعة وشرط التاريخ”.
أبو القاسم الجنيد، الحسن بن علي الجوزجاني، أبو عثمان المغربي التونسي، سهل بن عبد الله التستري، أبو القاسم النصرآبادي، أبو الحسن الوراق، أبو القاسم السندوسي، أبو حمزة البغدادي، أبو النجيب السهروردي، أبو زيد البسطامي، أبو بكر الطمستاني، أبو حفص الحداد، رويم البغدادي، أبو يعقوب النهرجوري، أبو الحسين النووي، أحمد بن أبي الحواري، أبو سليمان الداراني، أبو العباس بن عطاء، محمد بن الفضل البلخي، عبد القادر الجيلاني، ابن المنير، أبو العباس أحمد الرفاعي، عبد العزيز الدباغ، أبو علي الروزبادي… يقتبس المكي الناصري أقوال كل هؤلاء ليحتج بها على كل مبتدع مدعٍ للتصوف، إذ التصوف غير ما يدّعون، ورموزه المشهورة تقول غير ما يقولون من البدع والضلالات والمقولات الرجعية.[15]
لا يتوصل للحقيقة إلا عن طريق التزام الشريعة، هذا ما يقول به كل الأعلام المذكورين أعلاه. ولذلك يقول المكي الناصري: “وبالجملة، فطريق القوم المسلوك مبني على ملازمة الكتاب والسنة، وترك البدع والأهواء، ومعاداة مرتكبيها، وتربية الإرادة، وحسن النية، والإخلاص في العمل، وحب التهجد، وملازمة الذكر، والصمت عن الغلو، والزهد فيما في أيدي الناس، والإرشاد إلى الطريق المستقيم. وغايته منها الوصول إلى تجريد التوحيد وكمال المعرفة بالله تعالى”.[16]
هكذا يكون التصوف سديدا يلعب أدواره المطلوبة في نفوس الأفراد وواقع المجتمعات، فيتهيأ الأفراد من خلاله لإصلاح مجتمعاتهم، ويكونون في المعارك أكثر من غيرهم قوة، لا يضرهم من ذمهم، ولا يغرهم من مدحهم، ولا تنال منهم شهوات المأكل والملبس والمسكن والكلام وغيرها إلا بقدر ما هو ضروري ومشروع، ولا يستدرجهم العدو بشهوتي البطن والفرج، ويصبرون على الابتلاء في الحقّ، ويستوي عندهم ما يسر وما يضر في كلّ الله، ولا يسرعون في الغضب، وتستمر بقولهم وفعلهم الحكمة، ويلتمسون الأعذار للضعفاء، ولا يفرطون في حق الله ومن ظُلِم…
لا بد أن نعالج الناس مما هم فيه إذن، ولا بد أن نطهر التصوف مما يحول دون أدائه أدواره التاريخية. فما هي وصفة العلاج الكفيلة بذلك؟ وكيف نحافظ على التصوف لما نحن في حاجة إليه؟ شرطنا غير الشرط الذي عاش فيه المكي الناصري، فالاستعمار الجديد غير الاستعمار العسكري. ولكن، فلننظر فيما اقترحه “الشيخ المكي” من علاج لشرطه علنا نظفر بما قد يضيء طريقنا بعدما أضاء طريق الحركة الوطنية.
يقترح صاحب “الإظهار” علاجا يتجلى فيما يلي:
– العلاج بالشريعة والطريقة السنية.
– علاج الشباب والناشئة أولى من علاج من شاب على البدعة.
– العلاج بتهذيب الأخلاق.
يقول المكي: “وبهذا تخالط بشاشة الدين الإسلامي القلوب، وتحل الحقائق محل الخرافات، وتقوم المحاسن مقام المساوئ، وتنطبع صور الأخلاق الجميلة في مرآة أفكار الناشئة الصقيلة، فنصون عندئذ هيكل جامعتنا من التداعي والانهدام، ونسير في طريق السعادة فلا نلبث أن نحل ربوعها”.[17]
لا يعادي الناصري الصوفية لأنها صوفية، ولكنه يدعو أصحابها ليكونوا سنيين. لا يستنفد جهده في النقد وحده، ولكنه يدعو العلماء والحكام إلى تأطير وتربية وتعليم الشباب والناشئة قبل غيرهم. يؤكد على أهمية “تصوف الأخلاق”[18]، وهو الأحق بأن يهتم به الباحثون في موضوع “التصوف ورموزه” أكثر من أي شيء آخر[19].
3-المستفاد من الكتاب في شرط الاستعمار الجديد
المستفاد من كتاب “إظهار الحقيقة وعلاج الخليقة” كثير، نذكر منه:
– الاقتداء بنخبنا ورموزنا الوطنية في وطنيتهم الصادقة وكتابتهم لمجتمعهم وداخل شرطهم التاريخي لا خارجه.
– ترك مواجهة المذهب أو الفرقة أو الطريقة أو الفلسفة إلى تحريرها لصالحنا وخدمة لقضايانا الوطنية. الأمر الذي يعتبر الكل معنيا به: الإسلاميون والسلفيون في علاقتهم بالحداثة ومناهج التفسير المعاصرة، والعلمانيون في علاقتهم بالدين والإيديولوجيات الدينية وتدين المغاربة، وإدارة الدولة في نظرتها إلى مناضلي المجتمع، والمعارضة الشعبية في نظرتها لبعض الأطراف في إدارة الدولة…
– الوقوف على الأدوار التاريخية التي يمكن أن يلعبها الدين في مواجهة التحديات والمشاكل التي تعاني منها الأمة، وكما اعتمده محمد المكي الناصري في مواجهة القابلية والاستسلام والتمكين للاستعمار العسكري، يمكنا اعتماده بقوة ونجاعة في مواجهة مظاهر الاستعمار الجديد.
– كتاب محمد المكي الناصري فرصة لإعادة إحياء علاقة الحركة والوطنية (السلفية الوطنية) وامتداداتها في المجتمع ب “تصوف الأخلاق”. فالتصوف ليس شرا كله، بل هو الخير كله إذا وافق الشرع ولم يعتزل التاريخ. إنه جزء من التاريخ المغربي، وغض الطرف عنه يحرم الباحث والمناضل من الإحاطة بهذا التاريخ. ولا سداد لحركة من لا تاريخ له، ولا نجاعة في النظرية والممارسة لمن جهل تاريخه أو أساء قراءته….
أ1-محمد المكي الناصري، إظهار الحقيقة وعلاج الخليقة، دراسة وإعداد: إدريس كرم، تخريج وتحقيق: محمد برعيشالصفريوي، منشورات السبيل، الطبعة الأولى، 2010.
2-حاج جيلاني سكينة وخرطمان يمينة، مذكرة مقدمة لنيل شهادة الماستر في التاريخ، تحت إشراف: د. حواس محمد، جامعة الجيلاني بونعامة (الجزائر)، شعبة التاريخ، التخصص: الظاهرة الاستعمارية في الوطن العربي، الموضوع: المقاومة المغربية المسلحة ضد الحماية المزدوجة الفرنسية-الاسبانية (1907-1934)، السنة الجامعية 2017-2018، الفصلان: الثاني والثالث.
3-محمد زاوي، الاستعمار الجديد: جذوره التاريخية وتجلياته المعاصرة، إصدارات مركز بلعربي العلوي للدراسات التاريخية، الطبعة الأولى، 2019، ص 180.
4-علال الفاسي، الحركات الاستقلالية في المغرب العربي، دار الطباعة المغربية، 1984، ص 133.
5-عبد الصمد بلكبير، مقالة بعنوان: “حول جامعة ابن يوسف”، المقالة في الأصل مقدمة لكتاب في نفس الموضوع من تأليف حسن جلاب، 2019.
6-محمد المكي الناصري، نفس المرجع السابق، ص 168.
10-محمد المكي الناصري، نفس المرجع السابق، ص 181.
18-لعلال الفاسي ثلاث محاضرات بهذا العنوان، ذكرها أحمد التوفيق (وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية المغربي)، ولم نحصل عليها بعد.
19-كالكرامات والولايات ومعتقدات الحضرة والمكاشفة والمشاهدة والفناء، بالرغم من أنها تحتاج إلى حكم في الشرع، كما تحتاج إلى تفسير في النفس والتاريخ.