حاجتنا إلى الربيع النبوي
سفيان أبو زيد
في تطابق لفظي حالي معنوي منَّ الله على هذا العالم في شهر كان يمر كغيره من الشهور دون تغيير أو تغير أو التفات أو توقف ليليه ما بعده من الشهور…
لكنه في تلك السنة طابق حاله زمانه فصار الربيع ربيعا ووافق اللفظ معناه…
فجاء محملا ببشائر وبشريات وآمال وأمنيات، ومعالم ومحكمات:
فهرع المظلوم إليه فيه راجيا خلاصه مما مورس عليه خلال قرون من الزمن دون حسيب ولا رقيب، حتى صار الظلم أصلا والعدل مكرمة وتفضلا… هرع إليه وهو يتراأى (حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا)
ولوَّح له الرق الذي انتهك في أبجديات إنسانيته وكرامته، في عالم اتخذ الاسترقاق مزية وعلامة عز وفخر، ووسيلة للاكتساب والاتجار… لوح له وهو يتأمل (ولقد كرمنا بني آدم)
ونادت به المرأة التي عانت من ممارسات، رأت فيها عارا وشنارا فهمّت إلى وأدها والتي أفلت من الوأد جعلت من كيانها الانساني مكب شهوة ، وآلة خدمة ، أو متاعا تتوارثه العصبات، أو سبيا تباع وتشترى… نادت وعينها على (النساء شقائق الرجال)
وأشار إليه الطين الذي خلق منه هذا الإنسان ليكون عبدا لخالق الأكوان، فاتخذه وسيلة لصناعة أكبر فرية، وأعظم جرم وهو صناعة الأصنام وصرف العبادة والقربة لها…
ورأى فيه العقل فجر حريته التي كبلت بقيود القمع ومصادرة الرأي (ما أريكم إلا ما أرى) والخرافات التي تأنف الدواب وذوات الأربع عن تصديقها، والشبهات التي سولت للعقل اقتحام وتحمل ما ليس له، والتفاهات التي أغفلته عن المهمات والحقائق… فامتلأ أملا وهو يرى (واتقوا الله ويعلمكم الله)
ورأى فيه الجسد رجاء قيامه بواجبه العبودي الذي خلق من أجله وبدوره في إعمار هذا الكون بالخير والسير في مناكب هذه الأرض لاكتساب الحلال النافع، بعد أن تاه في غيابات الشر والهدم، والانتهاك، والحرص على المصلحة الخاصة الفردية الشخصية، حتى غدا بؤرة شر تلعنه السماوات والأرض وما فيهما…
ورأت فيه الروح أمل انعتاق من ركام الشهوات التي أغرقتها وخنقتها ولم تترك لها منفدا لتغذيتها وتنميتها حتى كادت تهلك وهي المخلوق الغريب عن هذه الأرض الذي به تدب حياة الجسد والعقل…
وبالفعل صدق أملهم ، وتحقق رجاؤهم، وظهرت حكمة الله تعالى وعدله، وأنيرت للعقل طريقه، وصحح للجسد مسلكه، وعادت للروح حيويته، قرونا من الزمن رأى فيها الكون إنسانا فريدا من نوعه، صالحا في ذاته مصلحا لغيره، معطاء للخير مناعا للشر، أينما حل وارتحل حل الخير والسلام معه، لأنه عاش وتربى ونما ترعرع في مروج ذلك الربيع…
ولكن سرعان ما بدأ اخضرار ذلك الربيع يصفر ونداه يجف، ونوره يخفت شيئا فشيئا، حتى عاد للظلم وهجه، ولكنه سمي بغير اسمه، فسمي حق نقض دولي ، وسمي الاحتلال حماية وانتدابا واستيطانا، وسمي الانقلاب ثورة…
وعادت للاسترقاق سطوته، فسميت العبودية وظيفة، وسميت الهيمنة اتفاقا، وسميت الإمعية موضة، وسمي الاستبداد ولاية للأمر، وسميت الثورة الشعبية انقلابا…
و عاد لانتهاك حقوق المرأة مظاهره، فسمي استغلال أنوثة المرأة عرض أزياء، وغدت الدعارة تجارة، وصارت أعضاء المرأة وجمالها وسيلة لجلب الزبائن حتى في إعلانات عود الثقاب، واستدرجت المرأة خلف سراب الحرية حتى وقعت في فخ سوق النخاسة والابتذال والوأد والترجل الذي أنتشلها منه الربيع النبوي فصارت تتمناه وتناديه وإن لم تصرح بذلك بعد طول إرهاق وعناء مفتعل ومدبر لانتفاع ذكورية متوارية خلف وسوسة الحرية الجسدية…
وانحرف العقل عن الاهتداء بنور الوحي، وإغراقه في المسير خلف المادة متناسيا كل القيم والأخلاق وحقائق المصالح والمفاسد، فصار الربا فائدة، والدمار والتدمير مكافحة للارهاب، وتشتيت الأشلاء وسيلة لتجريب الأسلحة، والخمر شرابا روحيا، والتفاهة فنا، والمقدس مهانا والمهين مقدسا…
وانحرف الجسد، فصار اللكم والضرب رياضة ومتعة، وتعذيب الجسد عبادة وقربة، استغلال الجسد حرية وحضارة، وحماية الجسد تخلفا وظلامية، والعفة محرمةً، والابتذال واجبا، وصار الاستهلاك شعارا، فطغت المادية والمادة على كل الأصعدة حتى صارت مقاسا ومقياسا…
وطمست الروح وجُمِّدت حتى تَحاتِّتْ وتكسرت بين صدمات المادة والشهوة والغاية المسوَّغة بأي وسيلة، فصارت الأمانة بلاهة، والمكر شطارة، والكذب تسويقا، والتدين دروشة أو إرهابا، والدين وسيلة، والحب جنسا، والنفاق موضة، والتطبيل اعتدالا، والانبطاح وسطية، والتطرف سنة ومنهاجا…
وصار الربيع النبوي بدعة جملة وتفصيلا، أو ربيعا سطحيا لا تربطنا به سوى مظاهر فولكلورية وأخرى سياسية وأخرى بعيدة عن كل أساساته ومعانيه سرعان ما ينتهي كل ذلك بانتهاء يومه فيعود الكل إلى ما كان عليه، منقطعا عن كل مقاصده فالربيع ربيع ولكن بلا الاخضرار أوالحيوية أوالنماء والإثمار…
فيا ليت الربيع يعود يوما**فالارض بدونه ضياع شتيت