“حان وقت الفطام”
هوية بريس – وصال ثقة
وردتني هذه الاستشارة، فاستأذنت صاحبها في نشر الرد على العام تعميما للفائدة.
“نفع الله بك: قرأت كثيرا في أجوبتك ما أسميته: ‘حان وقت الفطام’.
فما الخط الفاصل بين استشارة الأبوين، والأخذ برأيهما وقت تحمل المسئولية، وأخذ القرار بعيدا عنهما؟”.
فكان ردي:
إن الذي عليه ديننا حينما شرع الطاعات للمخلوقات، أنه شرعها ليس لكبت الحريات، وتقزيم الأدوار، وفرض التبعية المطلقة، وإنما لأجل تنظيم الحياة حولنا، وإحقاق الحقوق من غير بخس ولا تجبر ولا خنوع. وأي تصرف خاطئ مبني على الفهم الخاطئ لمناطات الأحكام وتأويلها؛ إنما يؤدي إلى تعطيل المراد من التشريع، فينتشر بذلك الفساد، وتتبعثر الأواصر، وتعم الفوضى، وتهدر الحقوق، فيُتهم الشرع زورا وبهتانا. ومما لا يخرج من هذا الاعتبار؛ كل طاعة جاء التشديد على وجوبها، سواء تعلق الأمر بطاعة الزوجة لزوجها، أو الأبناء لوالديهم، أو غيرها من وجوه الطاعات التي حث عليها المشرع.
كانت هذه مقدمة مفادها أن الطاعات المأمور بها شرعا؛ ليست طاعات مطلقة، وإلا اشتبك معناها بمعنى العبادة والتي لا تكون إلا لله، وإنما طاعات قيدها الشرع بالمعروف. وعليه، فإن الحد الفاصل بين ما يجب طاعة الوالدين فيه، وما لا يجب؛ يتحدد في أمور أولها – وهو أمر بدهي- ألا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وهذه نفهمها جميعا ونؤمن بها، وألا يكون فيما يأمر به الوالدان تضييعا لحق، أو تفويتا لمصلحة، أو تعسفا، أو إضرارا ماديا أو معنويا. ولعل الصورة التي تحضرني الآن وأنا أرد، صورة الشاب الذي يختار الزواج من شابة وفق تصوراته ومعاييره في الاختيار، وأهدافه من الزواج، والتي قد تصادم طموحات الوالدين، فيحاولان فرض رأيهما عليه، وابتزازه بالطاعة والعقوق، فيقف الشاب حيران بين الخوف من العقوق، والخوف من تفويت فرصة الزواج ممن اختارها. وهو نفس ما قد يقع للفتاة حينما تمنع من الزواج ممن قبلت به، أو يحاول الوالدان أن يفرضا عليها من لا تريده، ويبتزانها أيضا بالطاعة والعقوق. ولعل معرفة الحكم الشرعي في ذلك سيخرجهما من هذه الورطة؛ إذا علما أنهما غير ملزمين بطاعة الوالدين لا في قبول من لا يريدانه، ولا في الرضوخ لما يرفضونه. فعن بُرَيْدَةَ بن الحصيب قال: جَاءَتْ فَتَاةٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ: إِنَّ أَبِي زَوَّجَنِي ابْنَ أَخِيهِ لِيَرْفَعَ بِي خَسِيسَتَهُ . فَجَعَلَ الْأَمْرَ إِلَيْهَا . فَقَالَتْ: قَدْ أَجَزْتُ مَا صَنَعَ أَبِي، وَلَكِنْ أَرَدْتُ أَنْ تَعْلَمَ النِّسَاءُ أَنْ لَيْسَ إِلَى الْآبَاءِ مِنْ الْأَمْرِ شَيْءٌ”.
وقال ابن تيمية رحمه الله: لَيْسَ لِأَحَدِ الْأَبَوَيْنِ أَنْ يُلْزِمَ الْوَلَدَ بِنِكَاحِ مَنْ لَا يُرِيدُ وَأَنَّهُ إذَا امْتَنَعَ لَا يَكُونُ عَاقًّا، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لِأَحَدِ أَنْ يُلْزِمَهُ بِأَكْلِ مَا يَنْفِرُ عَنْهُ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى أَكْلِ مَا تَشْتَهِيهِ نَفْسُهُ كَانَ النِّكَاحُ كَذَلِكَ وَأَوْلَى، فَإِنَّ أَكْلَ الْمَكْرُوهِ مَرَارَةً سَاعَةً وَعِشْرَةَ الْمَكْرُوهِ مِنْ الزَّوْجَيْنِ عَلَى طُولٍ يُؤْذِي صَاحِبَهُ كَذَلِكَ وَلَا يُمْكِنُ فِرَاقُهُ. اهـ
وعليه، فإن الخط الفاصل في القبول، أو رفض ما يريد الوالدان فرضه على أبنائهما؛ يتحدد بالمصلحة وظهورها، مع الأخذ بعين الاعتبار عدم التطاول على الوالدين، أو التنقيص منهما ومن خبرتهما، فهذا مما يدخل في الإساءة والعقوق، وإنما المطلوب؛ الموازنة بين تحقيق المصلحة المرجوة، وفي نفس الوقت الأخذ بخاطر الوالدين بالشكل الذي يرضيهما، أو على الأقل لا يخلق قطيعة. دون التغافل عما لهما من تجربة في الحياة والتي قد يستأنس بها، ويستفاد منها في الاختيار واتخاذ القرار، خاصة حينما يتقرر عند الشاب أو الشابة ما لوالديهما من حنكة وحكمة ورجاحة عقل.