حتى لا تضيع من الأجيال بوصلة التصنيف المعيارية
هوية بريس – محمد بوقنطار
من طبائع السياسي التي تنم على ما يخفيه عقله السياسي من خسّة وخديعة ووصولية، وصلادة وجه، طبع الاستصغار والغمط الذي يمارسه بعد الاطمئنان وملامسة الردف جلد كرسي المسؤولية، يمارسه على من مشى في ركبه وصوّت لصالحه، ثم طبع بطر وردّ الحق الذي جعله مادة نضاله وشعار ركزه وعنوان حملته الاستقطابية، وهذا يطّرد في غير استثناء له وزنه العددي حتى يذكر، وقد تبيّن هذا الاطراد بما صدقته التجربة في من جمع جوقته بقال اللبرالي أو قال الاشتراكي أو قال الشيوعي، وفي من جمع مريديه وهالة محبيه حول شعاره المأثور “الإسلام هو الحل” معضدا مقولته ومزكِّيا شعاره بما اسطاع أن يتلصصه في مقام المعرفة المنفكة عن السلوك في غير لازم ولا اقتضاء من ميراث النبوة قرآنا وسنة.
وتبقى مشكلة هؤلاء الذين يتكلمون باسم الدين ويخوضون به معاركهم السياسية، ويزعمون أنهم يسوسون أو سوف يسوسون الناس بالدين، أنّهم في الجملة يجهلون طبيعة هذا الدين أو يتناسون تحت سكرة شهوات الدنيا ولذة المنصب أنه دين ينصح وقد يفضح، وأنه دين لا يقبل المساومة ولا أنصاف الحلول، ولا الإيمان ببعضه وتورية غالبه، وأن وسطيته من السماء في كلّه لا بعضه، وأن النقص منه أو الزيادة فيه بتصرف أرضي هو اعتداء واعتساف لابد أن يذهب جفاء، وهذا التاريخ قد شهد عبر ما راكمه من وقائع وأحداث مآلات ونهايات من كان هذا دأبهم وتلك سيرتهم…
ولربما تذرّع غامط باطر مستعجل بكون المصلحة مقدمة معتبرة، والظروف على الأرض لم تكن مواتية، وسنة التدرج سنة كونية وصبغة جارية، ولا شك أنّها مسوِّغات ما فتئت حادثة في تجدد على بدء متكرر، تقف لها المرة تلو المرة طبيعة هذا الدين عند كماله وتمام نعمته بالمرصاد والمدافعة.
فهذا نبيّنا تأتيه سفارة المفاوضات من قريش، وقد جاءه عتبة بن ربيعة عارضا عليه متاع الدنيا واضعا بين يديه ملكية وامتلاك رموزها الثلاثة (المال والسيادة والملك) فجاء الجواب منتصرا للاستقامة على وفق الأمر، مع أن الظرف كان يواطئ المناسبة إذ تزامن العرض مع إسلام عملاقي الإسلام حمزة بن عبد المطلب والفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنهما.
نعم لقد كان الظرف مواتيا يسمح للنبي عليه الصلاة والسلام بإقامة سلطة دنيوية لها بيت مال وجند وشرطة وسجون ومخافر، فيخضع بها الرقاب والنواصي والأبدان لسلطة لا إله إلا الله محمد رسول الله، وما أسهل الطريق من هنا وما أقصره وأسرعه للعيان من المستعجلين، غير أن الإجابة النبوية لم تخرج عن كنه الدعوة ولم تحد عن سبيلها، آيات بيّنات من سورة “فصلت” كانت كافية لتنسف كل العروض، وتتسفل بها طمرا ووأدا في التراب، بل جعلت السفير المفاوض يضع كفه على الفم الشريف في رغبة جامحة خائفة متوجسة طلبا للكف عن الاسترسال في هذا السيل الصادع بالحق الذي يعلو ولا يُعلا عليه، ثم أرجعته قافلا إلى قومه وعشيرته ناصحا في إخلاص أن اتركوا محمدا وشأنه…
وهكذا أرّخت هذه الإجابة، والدين في غربته الأولى لأوّل انتصار لعقيدة السماء على عقيدة الأرض، ولسمو الروح على ترابية الجسد، بل كانت إجابة حاسمة في بيان قاعدة الاستقامة على وفق الأمر السماوي التوقيفي الوسيلة كما المقصد، ولدحض أي عرض حتى وإن جاء في ثوب الالتماس والاستعطاف الذي وجهته على الاستثناء من صاحب الشوكة إلى ضعيفها، أو من الأعز إلى الأذل حسب التعبير الكنود الجهول.
فلا منطقة أعراف بين الحق والباطل سوى نفاق يُلبس الثاني مسلاخ الأول ليذهب جفاء، وهذا قار ثابت لا يتبدل ولا يتغيّر ولا تؤثر فيه الضغوط ولا دلو المصالح ولا الحسابات الدنيوية الزائل ظلها، ولذلك فإن هذا القرار والثبات لمّا كان في الغربة الأولى فهو أصلح وأفلح في الغربة الثانية، مستوعب صلاحه وفلاحه قضايا الأمة منذ بعثة محمد عليه الصلاة والسلام وإلى يوم الناس هذا.
ولربما بل أكيد قد أزفت ساعة السؤال الجماعي الذي يستفهم عن ماهية ذلك الجوف أو السرداب أو جحر الضب الذي غاب في ظلمته ذلك الوضوح والمصير الشعبي المشترك والورع المادي والنقاء السياسي الذي عاشه هؤلاء المتزمِّلون بدثار الدين، أو المتنكرين وراء أستاره البيضاء النقية وهم يمارسون سيرهم الحثيث نحو الهدف المنشود، ذلك التزمل أو التنكر الذي لا يستطيع الواحد من أولئك إنكار أو جحود حقيقة أنه كان من آثاره المباشرة خلق مصالحة بين الشعب المغربي وصناديق صناعة الاستبداد السياسي، ومن ثم تشكيل الواجهة القانونية للصوصية السياسية والمتاجرة في آمال وأحلام القاعدة الشعبية المنخرطة في عقد الواجب الوطني، وكل هذا في منعطف تاريخي لا تزال الذاكرة الوقّادة تحيّن لحظته الحرجة سيما وأن المحيط العربي الإقليمي كان أو باتت أقدامه الحافية على صفيح ساخن، تغيّرت فيه الأوضاع من دركة السيء إلى مهلكة الأسوأ.
وقد لا يعزب عن هذه الذاكرة بشقيها النخبوي والشعبوي، بل حتى السلطوي التنفيذي حقيقة أن الذين فزعوا إلى هذه الصناديق المحلّية والنيابية والتجارية لم يحركهم وازع استجداء الخبز وضمان لقمة العيش، فلطالما ربط المغربي المسلم رزقه بموعود السماء، وهذه عقيدة راسخة ثابتة في وجدان الأمة، ولم يكن الله سبحانه فيها إلا حفيّا بالطائع منها والعاصي، وإنّما كان الذي حرّكهم في هرولة وسعي هو الدندنة الأخلاقية التي عزف على أوتارها الغليظة إخوان السيد بنكيران، ومن بعده الصامت في غير حكمة الطبيب العثماني عزفا طويل النفس ذا لحن منغوم وسمفونية سياسية تبيّن بعد حين أنّها ورع كلبي، وخمرة حزبية وميسر وصولي إثمهما أكبر من نفعهما، مع واجب توجيه هذه الفارقة بضابط أن الإثم كان من حظ المريد، بينما ركن النفع والريع في حضن المشيخة السياسية وثلة الراكبين معها في مستحلب حكومي غير متجانس ولا متشاكل، قد جمعته خلّة التداعي على قصعة البلاد وجيوب العباد، حيث انتقل كوادر الحزب الإسلامي من ضنك وقدرة أيام النضال والمعارضة إلى لحظة الرفل في ثوب القبض والمعاوضة، وذلك منتهى السير وتم أناخت ركائبه.
وإنه لعين السؤال الذي يستفتي ويستفهم في عجب وحيرة عن علاقة واقع الحزب ومن ثم أصحابه بالمرجعية الإسلامية التي جاء التنصيص عليها بالمنطوق الصريح في ديباجة التأسيس والتي تقر بأن حزب العدالة والتنمية هو حزب سياسي وطني يسعى انطلاقا من المرجعية الإسلامية وفي إطار الملكية الدستورية القائمة على إمارة المؤمنين إلى الإسهام في…
ولنضع خطا عريضا سميكا تحت عبارة “انطلاقا من المرجعية الإسلامية”، ثم نحيل نقط الحذف الثلاث على ما عانته فئات عريضة من المجتمع المغربي من تضييق في استخلاص الواجب وشح وتقتير في نوال الحقوق، بل ما عاناه من يُعدّون من جنس قاعدة الانطلاق من الخطباء والوعاظ والأئمة والمؤذنون والعلماء وجناب التوحيد من عصف وقصف وهدر وتسريح وتحجير وتكميم أفمام، وتشييد لصروح الشرك وعبادة الحفر والمقبورين من ذوي المشاهد والأضرحة والسدنة المتمتعين بالحصانة والمكانة والإشادة، أضف إلى كل هذا الخليط النكد ما تسفل فيه من نقيصة وما تورط وتلبس به بعض رموز هذه الهيكلة الحزبية المفلسة من سقطات أخلاقية، وما جرّ هذا على مرجعية الانطلاق من تداعٍ حائف لألسن حاقدة ناقمة دأبت تصفية حساباتها ومكنون بغضها للدين عبر بوابة المنتسبين إليه.
ولا جرم أنّها تجربة شكّلت شرخا، وجرحا غائرا في وجدان الأمة وصفعة على خدها الأيمن، استوعبت يد الصفع ابتلاء نرجسية الانتساب ودعواه، بل مزّقت ذلك الثوب الذي أحرم فيه أصحاب هذه التجربة وهم في طريقهم إلى عُمرة المناصب، حيث كانت الهجرة بنية دنيا أصابوها وعقبات اقتحموها وعهد من الله خرقوا ميثاقه الغليظ وإلى الله عاقبة الأمور.
ولعل هذا من ذلك… حيث لما تبيّن للكثير من المخلصين للفلسفة الاشتراكية أن تجربة رفاقهم إبان حكومة التناوب بقيادة الرفيق السيد عبد الرحمن اليوسفي قد شذت وجنحت لتتحوّل في عقوق إلى إقطاعية متوحشة ورأسمالية ليبرالية جشعة، بادروا إلى إسالة مدادهم وترادفت منهم المقالات والتحذيرات تبرئة لروح ما يؤمنون به من فكر وفلسفة اشتراكية، وبيانا للشذوذ الذي صار بين الفكرة وتجربتها السياسية على الأرض…
ولا شك أن هذا ما يجب أن يقوم به أيّ غيور مدافع مدقق راصد لحقيقة النسبة إلى هذا الدين من عدمها، وكل منتسب من موقعه ودرجته في الغيرة على حمى الدين وعراه، ومكانته في العلم والمعرفة وهذا أضعف الإيمان وذلك الرباط وذلك الرباط، حتى لا تحسب على الدين تجربة سياسية هو بريء منها براءة الذئب من دم ابن يعقوب، فربما طال الأمد فقرأت الأجيال من تاريخ أسلافها أن حكومة إسلامية مكّن الله لها في الأرض فلا صلاة أقامت ولا زكاة آتت ولا معروف ناصرت ولا منكر خاصمت، ولا توحيد عظمت، ولا حياء من الله لبست ولا رب حمدت ولا شعب شكرت، ومن لم يشكر الناس لم يشكر الله.