حتى لا تَزِلَّ أقدامُ العلم حيث يُرجى ثبوتُها

هوية بريس – د.ميمون نكاز
حتى لا يفتح الباب للاستبداد والعدوان على المصالح العليا للأمة، في ظروف “طغيان” الحاكم أو “ضعفه” خاصة، أوجب الوحي الشريف “الشورى”، بحسبانها ركنا في عقد الولاية وعهد البيعة، فهي “لازمة” “ملزِمة”، والقائلون بأنها “مُعلِمَة” وأنها من “فضائل الحكم” لا من “أركانه وقواعده” إنما يمهدون بقولهم ذاك الطريق السيار لاغتصابها و”الزهد في إرادة الأمة”…
كانت “عصمة” النبي صلى الله عليه وسلم كافيةً في “طمأنة الأمة” من الجنوح إلى الافتئات على حقوقها ومصالحها، قاضيةً بعدم الحاجة إلى “الشورى” في حضرتها ، لكنا نقرأ في الوحي الشريف قول الله تعالى: ﴿فَبِمَا رَحۡمَة مِّنَ ٱللَّهِ لِنتَ لَهُمۡۖ وَلَوۡ كُنتَ فَظًّا غَلِیظَ ٱلۡقَلۡبِ لَٱنفَضُّوا۟ مِنۡ حَوۡلِكَۖ فَٱعۡفُ عَنۡهُمۡ وَٱسۡتَغۡفِرۡ لَهُمۡ وَشَاوِرۡهُمۡ فِی ٱلۡأَمۡرِۖ فَإِذَا عَزَمۡتَ فَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ یُحِبُّ ٱلۡمُتَوَكِّلِینَ} [ آل عمران159]…
يقول صاحب المحرر الوجيز، ابن عطية المالكي الصرف القح مقررا هذا الأمر: (والشُورى مِن قَواعِدِ الشَرِيعَةِ وعَزائِمِ الأحْكامِ، ومَن لا يَسْتَشِيرُ أهْلَ العِلْمِ والدِينِ فَعَزْلُهُ واجِبٌ، هَذا ما لا خِلافَ فِيهِ)، وانظر إلى قوله: (هذا ما لا خلاف فيه)… ويقول العلامة الطاهر بن عاشور في تحريره وتنويره في معرض تفسيره للآية الشريفة: (وقَدْ دَلَّتِ الآيَةُ عَلى أنَّ الشُّورى مَأْمُورٌ بِها الرَّسُولُ ﷺ فِيما عَبَّرَ عَنْهُ بِـ(الأمْرِ) وهو مُهِمّاتُ الأُمَّةِ ومَصالِحُها في الحَرْبِ وغَيْرِهِ)، ثم قال بعد ذلك: (واخْتَلَفَ العُلَماءُ في مَدْلُولِ قَوْلِهِ وشاوِرْهم هَلْ هو لِلْوُجُوبِ أوْ لِلنَّدْبِ، وهَلْ هو خاصٌّ بِالرَّسُولِ -عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ-، أوْ عامٌّ لَهُ ولِوُلاةِ أُمُورِ الأُمَّةِ كُلِّهِمْ، فَذَهَبَ المالِكِيَّةُ إلى الوُجُوبِ والعُمُومِ…) حيث نقل عن ابْنِ خُوَيْزِ مَندادُ قَوْلَه: (واجِبٌ عَلى الوُلاةِ المُشاوَرَةُ، فَيُشاوِرُونَ العُلَماءَ فِيما يُشْكِلُ مِن أُمُورِ الدِّينِ، ويُشاوِرُونَ وُجُوهَ الجَيْشِ فِيما يَتَعَلَّقُ بِالحَرْبِ، ويُشاوِرُونَ وُجُوهَ النّاسِ فِيما يَتَعَلَّقُ بِمَصالِحِهِمْ، ويُشاوِرُونَ وُجُوهَ الكُتّابِ والعُمّالِ والوُزَراءِ فِيما يَتَعَلَّقُ بِمَصالِحِ البِلادِ وعِمارَتِها)، كما أورد قول ابن العربي المعافري المالكي: (والشُّورى مِسْبارُ العَقْلِ وسَبَبُ الصَّوابِ)، ثم علق صاحب التحرير على قوله بقوله: (يُشِيرُ إلى أنَّنا مَأْمُورُونَ بِتَحَرِّي الصَّوابِ في مَصالِحِ الأُمَّةِ، وما يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الواجِبُ فَهو واجِبٌ)، ثم ذكر قولَ ابن عطية الذي سقناه، وعلق عليه قائلا:(واعْتَرَضَ عَلَيْهِ ابْنُ عَرَفَةَ قَوْلَهُ: فَعَزْلُهُ واجِبٌ، ولَمْ يَعْتَرِضْ كَوْنَها واجِبَةً، إلّا أنَّ ابْنَ عَطِيَّةَ ذَكَرَ ذَلِكَ جازِمًا بِهِ وابْنُ عَرَفَةَ اعْتَرَضَهُ بِالقِياسِ عَلى قَوْلِ عُلَماءِ الكَلامِ بِعَدَمِ عَزْلِ الأمِيرِ إذا ظَهَرَ فِسْقُهُ، يَعْنِي ولا يَزِيدُ تَرْكُ الشُّورى عَلى كَوْنِهِ تَرْكُ واجِبٍ فَهو فِسْقٌ)، لكن ابن عاشور علق على كلام ابن عرفة منتصرا لقول ابن عطية فقال: (مَن حَفِظَ حُجَّةٌ عَلى مَن لَمْ يَحْفَظْ، وإنَّ القِياسَ فِيهِ فارِقٌ مُعْتَبَرٌ فَإنَّ الفِسْقَ مَضَرَّتُهُ قاصِرَةٌ عَلى النَّفْسِ وتَرْكُ التَّشاوُرِ تَعْرِيضٌ بِمَصالِحِ المُسْلِمِينَ لِلْخَطَرِ والفَواتِ، ومَحْمَلُ الأمْرِ عِنْدَ المالِكِيَّةِ لِلْوُجُوبِ والأصْلُ عِنْدَهم عَدَمُ الخُصُوصِيَّةِ في التَّشْرِيعِ إلّا لِدَلِيلٍ)… هذه بعض لآلىء القول المالكي في إلزامية الشورى ووجوبها…
أقول: من بينات ذلك أن النبي الكريم صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر وفي زحمة النازلة والحدث قال لأصحابه: (أشيروا علي أيها الناس) ،ذلك لأن المعركة معركة وجود، حيث كانت بيقين نازلة مصيرية بالنسبة للمسلمين كافة، فاقتضى الأمر إشراك الناس في “قرار الوجود” واحترام إرادتهم فيه…
أذكر هذا في سياق الحديث عن الوفاء بالعهود والعقود، لعمري {إِنَّ فِی ذَ ٰلِكَ لَذِكۡرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُۥ قَلۡبٌ أَوۡ أَلۡقَى ٱلسَّمۡعَ وَهُوَ شَهِید} [ق37]…
أرجو ألا يُخسِرَ مالكية اليوم هذا الميزان أثناء الحديث في هذا الشأن العظيم، وألا يُطْغُوا إِحْدى كَفَّتَيْ عقدِ الولاية بين الحاكم والمحكوم على الأخرى، فتزل أقدامُ العلمِ والفقهِ حيث يُطلَبُ ثبوتُها ويُرْجَى ثباتُها من حملة العلم وورثة النبوة…



