حتى لا نتحول إلى مجتمعات استهلاكية
هوية بريس – إحسان الفقيه
هناك مقولة دارجة في الولايات المتحدة الأمريكية مفادها: «فلتتبضّع حتى تسقط ميتًا من الإنهاك»، وهي عبارة تحمل في طيّاتها مفهومًا مفاده أن مصدر السعادة هو الاستهلاك والمزيد من الاستهلاك.
المجتمع الأمريكي.. والنزعة الاستهلاكية
تمثل المقولة السابقة حقيقة المجتمع الأمريكي الاستهلاكي، الذي هو أبرز إفرازات الرأسمالية الليبرالية التي تقودها الولايات المتحدة وتعمل على فرض نموذجها بتحرير السوق.
لا شك أن الاستهلاك فطرة بشرية، والإنسان يتجه دائماً لإشباع حاجاته ورغباته، ولا علاقة لهذه النزعة بأي نظريات اقتصادية؛ لأن وجودها سابق على هذه النظريات، لكن الطامة الكبرى أن يغدو الاستهلاك معيارًا لجودة الحياة.
وأصبحت نظرة المواطن الأمريكي للحياة أنها مزيد من الإنتاج لمزيد من الاستهلاك بعيدًا عن القيم الإنسانية، وعلى الرغم من أنه يجد في ذلك الحرية المحضة، لكنه يبقى أسيرًا لنموذج مهيمن، لا يستطيع الفكاك منه ولو أراد ذلك، لأنه يظل مُلاحقًا من الحتميات الاجتماعية، وطغيان الخطاب الإعلامي الذي يربط استغلال الدوافع البشرية بمخاطبة الغرائز.
لقد نجح النظام الرأسمالي الليبرالي في الولايات المتحدة في إشباع النزعة الاستهلاكية للمجتمع؛ لأنه حقق وفرة كبيرة في الإنتاج، إلا أنه جاء عليه وقت يعاني من زيادة معدلات الاستهلاك بصورة لا تتناسب مع الموارد الطبيعية ودرجة الإنتاج، ومن ثم قادته النزعة الإمبريالية لتحويل العالم إلى رافد يمده بالمواد الخام وتحويله في نفس الوقت إلى سوق لسلعه، وليس أدل على ذلك من غزو العراق، الذي أغرت موارده وثرواته الإدارة الأمريكية، فانتهبتها تحت مظلة مواجهة الإرهاب.
إنما نسوق نموذج المجتمع الأمريكي في النزعة الاستهلاكية؛ لأنه النتاج الأبرز للفكر الرأسمالي الليبرالي، الذي يمثل النموذج الأرقى والأبقى، والمحطة الأخيرة لتطور الفكر البشري وفقاً لمزاعم نظرية نهاية التاريخ.
سمات المجتمعات الاستهلاكية
أبرز سمات المجتمع الاستهلاكي هي الهيمنة التامة التي تمارسها المؤسسات الرأسمالية على السلطة، وسيطرتها على الإنتاج والتوزيع، واستحواذها على صياغة رغبات الجماهير، ومن خلال آلتها الإعلامية، تسوق الناس سوقًا إلى أنماط الاستهلاك، وإبقائها دائماً في حالة شرهٍ استهلاكي.
وفي المجتمع الاستهلاكي يتمحور الإنسان حول ذاته، فيكون تركيزه منصبًا على السلع، ويتعامل في الحياة على أنه منتج ومستهلك دون النظر إلى أي غاية أخرى، إذ يمثل الاستهلاك لديه عين السعادة، ويرى أنه يحقق ذاته من خلال قدراته الشرائية وإشباع رغباته، فيصبح بحسب تعبير د. عبدالوهاب المسيري: «أحادي البُعد تماماً «مُتَسلِّعًا مُتَشَيِّئًا» مُرتبطاً تماماً بسوق السلع، حدوده لا تتجاوز عالم السوق والسلع»(1).
في المجتمعات الاستهلاكية، يرى المستهلك أن الهدف النهائي من الوجود هو مجرد الاستهلاك ومزيد من الاستهلاك.
الأصل في الاستهلاك أنه يكون بدافع تحقيق المنفعة والمصلحة، كما يقول الاقتصادي الأمريكي ومؤرخ الفكر الاقتصادي روبرت ل. هايلبرونر: «يحدث هذا أولاً لأنَّ المصلحة الذاتية تقوم بدور القوة المحركة التي توجّه الناس إلى عمل ما يريده المجتمع وعلى استعداد أنْ يدفع ثمنه»(2)، ثم يورد مقولة الفيلسوف وعالم الاقتصاد الإسكتلندي آدم سميث: «لسنا نتوقع عشاءنا من كرم الجزار أو الخباز، ولكنا نتوقعه من رعايتهم مصلحتهم الذاتية»(3).
لكنه في ظل وجود المجتمع الاستهلاكي، تحول دافع الاستهلاك من المنفعة إلى اللذة، وأصبح الاستهلاك لا الإنتاج هو الهدف للأفراد وذلك بعد تحكم الرأسمالية في الإنتاج، فلم تعد المنفعة والمصلحة هي الدافع، لأن ذلك يمثل كارثة للرأسمالية التي ستفقد الأرباح وتفقد تراكم رأس المال.
وفي المجتمعات الاستهلاكية، ينصب الاهتمام على الاستهلاك وحده على حساب نتائجه ومآلاته، فالاستهلاك في تلك المجتمعات يطغى مثلًا على رعاية البيئة، «فالنظام الرأسمالي قصر اهتمامه على ظاهرة الاستهلاك دون النظر إلى ظاهرة المخلفات؛ مما أدّى إلى ظهور مشكلة تلوُّث البيئة وتنامي هذه المشكلة بدرجة كبيرة، مما سبَّب آثاراً بالغة الخطورة»(4)، «ومن مظاهر ذلك في الولايات المتحدة أنَّ الشخص الواحد هناك يخلّف أكثر من خمسة أرطال من الفضلات الصلبة يومياً؛ أي ما يعادل طناً مترياً في العام»(5).
عدوى الاستهلاك
في ظل العولمة ومساعي تعميم النموذج الغربي والترويج الإعلامي للرؤية الاستهلاكية، وتعزيز فكرة أن النظام الجديد يقوم على تبادل المصالح، تسللت النزعة الاستهلاكية إلى الشعوب العربية والإسلامية نتيجة الأمركة البديلة عن الاستعمار.
لا بد أن نواجه أنفسنا بهذه الحقيقة، فالسلوك الاستهلاكي للشعوب العربية تعاظم بشكل مروّع، ووصل في بعض البيئات العربية إلى أن يكون الاستهلاك والشراء كسرًا للملل وفرارًا من الفراغ فضلاً عن تحقيق اللذة، ويأخذ في كثير من الأحيان شكلًا تنافسيًا لإظهار التنعم والثراء، ويؤجج من ذلك الإعلانات والدعايات الضاغطة.
خطورة النزعة الاستهلاكية
المشكلة الكبرى في استبطان الجماهير العربية والإسلامية لهذه الرؤية الاستهلاكية، أن هذه المجتمعات غير منتجة غالباً، لم تقطع بعد خطوات إلى حقبة صناعية، وليست كالدول المتقدمة ذات الوفرة الإنتاجية، إضافة إلى اندفاعها بنزعات إمبريالية للسيطرة على ثروات الشعوب لتغطية الاستهلاك.
بناء على ذلك، ونحن إزاء مجتمعات تستهلك ولا تنتج، فإن الاعتماد على السلع والمنتجات الغربية يزداد ويتفاقم، ويعزز من واقع الاستعباد الغربي للأمة العربية والإسلامية.
كما يؤدي الإغراق في هذه الأنماط الاستهلاكية إلى تعطل القدرات ووأد الطاقات وضعف الإنتاجية.
هذا الترف يؤدي إلى عادات استهلاكية تأكل في بنيان المجتمع، وكما قال ابن خلدون عن آثار هذا الترف: فتكثر عوائدهم، ويتجاوزون ضرورات العيش وخشونته إلى نوافله ورقته وزينته، ويذهبون إلى اتباع من قبلهم في عوائدهم وأحوالهم، وينزعون مع ذلك إلى رقة الأحوال في المطاعم والملابس والفرش، ويتفاخرون في ذلك ويفاخرون فيه غيرهم من الأمم»(6).
ومن أشد أضرار خضوعنا لتلك العدوى الاستهلاكية، حدوث الشقاق الاجتماعي بين أصحاب الترف والأنماط الاستهلاكية المجنونة، والبسطاء محدودي الدخل الذين يشاهدون هذه السلوكيات الشرائية ولا يملكون سوى أن يحلموا بها لا أكثر، فيصطدمون بعقبة تحقيق مثل هذه الأحلام الجامحة، فالثري بإمكانه أن «يحقق كل رغباته فيشتري الشاليه في أفخر السواحل، ويشتري عربة من أحدث طراز، وفيلا في أرقى الأحياء، ويرتدي هو وزوجته ثياب أحدث الموضات، أما محدودو الدخل فهم يحلمون، بعضهم يستمر في الحلم، وبعضهم يصاب بالإحباط فيتحول إلى إرهابي»(7).
نحو ثقافة راشدة للإنفاق
ينبغي أن نحمي مجتمعاتنا من الاستجابة لهذه العدوى الاستهلاكية، عن طريق تغيير ثقافة الإنفاق، وأول ذلك إدراك أننا سوف نحاسب على أوجه إنفاق الأموال كما سنحاسب على مصادرها، فالقرآن قد حذر من الإسراف، وحرّم إضاعة الأموال، ولا تكون النفقة إلا لمنفعة، كما قال ابن تيمية: «بَذْلَ الْمَالِ لَا يَجُوزُ إلَّا لِمَنْفَعَةِ فِي الدِّينِ أَوْ الدُّنْيَا، وَهَذَا أَصْلٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ وَمَنْ خَرَجَ عَنْ ذَلِكَ كَانَ سَفِيهًا»(8).
هذا، وإن المسؤولية الشرعية والاجتماعية تقتضيان أن يوجه أهل الثراء إنفاقهم فيما ينفع الناس ومصالحهم العامة، فهو أولى من الإنفاق فيما لا طائل منه، والتوسط والاعتدال هو سمة الصالحين والعقلاء.
_________________________
(1) العلمانية والحداثة والعولمة، حوارات مع د.عبدالوهاب المسيري، تحرير سوزان حرفي، ص38.
(2) قادة الفكر الاقتصادي، روبرت هايلبرونر، ص60.
(3) المرجع السابق.
(4) الآثار الاقتصادية والمالية لتلوث البيئة ووسائل الحماية منها، محمد صالح الشيخ، ص35، نقلًا عن: الاستهلاك الاقتصادي في القرآن الكريم، عبدالواحد عثمان مصطفى، ص31.
(5) المرجع السابق.
(6) تاريخ ابن خلدون (1/209).
(7) العلمانية والحداثة والعولمة، بتصرف يسير، ص317.
(8) مجموع فتاوى ابن تيمية (31/32).