حدود كُلّاب في التاريخ.. انتقائية في قراءة الشواهد وأخرى في تفسيرها

حدود كُلّاب في التاريخ.. انتقائية في قراءة الشواهد وأخرى في تفسيرها
هوية بريس – محمد زاوي
يزعم د. عبد الخالق كلاب أن “المجتمع الكوري” كما يسميه كان موحّدا للإله الواحد، وأن الأكباش التي نقشوها على الصخور تدل على قرابين كانوا يقدمونها لإلههم.. “ففي معظم الحالات تكون هذه الحيوانات تتبع رجلا على هيئة المصلي، فيكون لذلك يدير لها ظهره، فهذا يحملنا على الاعتقاد بأن فعل الصلاة يكون موجها إلى كيان آخر، وأن الكبش المغطاة رأسه بغطاء باذخ، والمحلى أحيانا بعقد مجدول، لا يزيد عن قربان يقدم إلى الآلهة” ، حسب رأي غابرييل كامبس (عبد الخالق كلاب، أوثان السلفية التاريخية، ص 51)..
يتبنى كلاب رأي كامبس على النقيض مما رآه آخرون اعتبروا النقوش الصخرية دالة على عبادة الأمازيغ للكبش قبل دخول الإسلام أرضَ المغرب.. وإذا كان كلاب يصف هذا الرأي بالاستعجال في الاستنتاج، فلا ندري كيف يستعجل هو استنتاجا آخر؟! وبأي منطق يدل تأخر الحيوان في النقوش الصخرية على منزلته القربانية؟! وبأي مبرر يستنتج كامبس ومعه د. كلاب وضعية الصلاة من وضعيةٍ ما على النقوش؟! ألا يمكن أن يدل تأخر الكبش أو الحيوان على وجود سابق على الإنسان أو على أصالة تمنحه صفة العلو؟! وبأي معيار يعمِل كلاب الانتقائية في نقوش تعددت أوضاعها بين تقدم للإنسان وتسفل له؟! وبأي منطق يتأول إله الأمازيغ في نقوشهم بناء على تصوره هو للألوهية؟!
كلها أسئلة يقفز عليها د. كلاب محكوما بـ”أدلوجته المورية”، ومن أبرز ما يثبت ذلك إغفاله لمسألتين بالغتي الأهمية، وهما:
-المسألة الأولى: هناك تعدد في التوحيد ذاته، ليس لدى الأمازيغ فحسب، بل عند كثير من قبائل ما قبل الدول وما قبل توحيد الدين.. فالعرب في شبه الجزيرة العربية أنفسهم كانت لهم “فلسفة” واحدة في التوحيد تعددت تجلياتها ومظاهرها وقرابينها وطقوسها وأساليبها في الزلفى؛ فلما جاءت عقيدة التوحيد المحمدية نفت كل تلك المظاهر، وركزت “الفلسفة” الإعتقادية للعرب في عقيدة واحدة تجريدية وتوحيدية، أكثر تجريدا مما كان منتشرا قبله، وأكثر توحيدا منه.. وكذلك التوحيد الذي وفد من المشرق على المغرب، فقد دمج كل البوادر السابقة عليها وأعطاها أفقا عقديا جديدا، وهو هو معنا اعتقاد المغاربة بعقيدة الإسلام التوحيدية.
-المسألة الثانية: بين ثنايا التوحيد العقدي توحيد سياسي، وهذا ما حصل بتوحيد عقيدة المغاربة؛ وهو كافٍ لإثبات عجز أنماط التوحيد السابقة على الإسلام عن توحيد كافة الأمازيغ في دولة واحدة، فلو جاز ذلك احصل.. تستمد عقيدة الإسلام نجاعتها في التاريخ المغربي من أنها تجاوزت واقع “التعدد في التوحيد”، إذا نحن قبلنا جدلا رأي كلاب وأستاذه كامبس.. لقد تجاوزته بتوحيد تعدد التوحيد، كما تجاوزته بتوحيد تعدد الوثنيات.. فالمغرب وأنثروبولوجيته الدينية أكبر من العينات التي اشتغل عليها كامبس فاستنتج منها ما استنتج، وهذه انتقائية أخرى في عينات المكان والزمن تنضاف إلى انتقائية أخرى في النقوش (تحدثنا عنها أعلاه)..
أما في نقده لرأي المؤرخ عبد الله البكري الأندلسي بخصوص “احتفالات بيلماون”، فقد سمح كلاب لنفسه أن يفسر موقفه بإدخال عناصر افتراضية، أي مجرد فرضيات، اعتبرها “أمورا حوّرت رواية البكري” حتما.. وكل ما في أمر البكري أنه كان حبيس رواية أندلسية لم تهتدِ إلى معرفة “ظاهرة غريبة عن البيئة الأندلسية” معرفة حقيقية، وأنه “لم يكن موضوعيا على الإطلاق” وإنما كان رهينا لخلافه المذهبي والعقدي مع “الروافض البجلية الذين كانوا يقطنون الجبل الذي كانت تقام فيه الاحتفالات” فكفرهم وأخرجهم من الملة (نفس المرجع، ص 53)..
وهنا أيضا يغفل د. كلاب أمرين مهمين: أولهما استرجاع المعتقد القديم في الاحتفال بعدما امتنع في الشعائر الجديدة (الإسلامية)، وهو تخفيف من حدة التخلي، كما هو تأقلم بحث متدرج عن التأقلم مع المعتقد الجديد باستثمار المساحات الضيقة بين الطقس والمعتقد، والتي كانت سائدة قبل أن يعزز التقسيم الإسلامي المعروف بين عقيدة وشعيرة وشريعة.. وثاني هذين الأمرين، أن البكري يحاكم طقوس البجليين ومن جاورهم من ساكني الجبال إلى الدين العام، أي إلى الدين بما هو سياسة عام ونظام عام، بما هو دين دولة يرى طقوس “بيلماون” خروجها عنها.. ليس اليوم حيث اتخذت هذه الطقوس طابعا كرنفاليا احتفاليا فحسب، بل آنذاك حيث كانت اليد العقدية للدولة ما زالت غضة طرية، ترتجف من عودة القديم..



