حديث في اللغة الفرنسية الجميلة!
هوية بريس – طارق الحمودي
يقول الله تعالى في سورة الروم: (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ).
تعد الدراسات اللغوية واللسانية من الدراسات النشطة من قرون خلت، وقد تراكم عند أصحابها كم كبير من المعلومات على جهة التكامل والتصحيح، وآلت إلى الكشف عن مبادئ نظريات علمية متعلقة بالأصول والامتدادات، وهي مدارسات لطيفة تستحق المتابعة، معينة على معرفة الأصول المشتركة لإعداد تجميع حلقات التاريخ الإنساني، فليس من المستغرب أن يكون النظر في التاريخ اللغوي واللساني لشعوب العالم من الآيات الكونية الدالة على الخالق جل وعلا وحكمته، والغاية من خلقه الإنسان وبث فروعه في الأرض.
تقترح مجموعة من الدراسات أن يكون للشعوب الأوروبية أصل واحد مشترك مع الشعوب الآسيوية، وهي دراسات متكاملة، بعضها أركيولوجي، وبعضها لساني، وبعضها جيني، يعضض بعضها بعضا، ويقوم الاقتراح على أن أصول هذه الشعوب راجع إلى أصل تركي عاش في من منطقة بحر الآرال، تمدد إلى الهند وفارس وغيرها وإلى أوروبا، حاملا أصولا ثقافية ودينية ولغوية واحدة، تطورت بسبب عوامل غيرت من شكلها، وأبقت جوهرها، وقد دلت دراسات متعلقة بـ”تاريخ الأديان” على وجود أساطير مشتركة بين فروع هذه الأمة المتمددة في الجهتين -كما في دراسة لـجورج دوميزيل في كتابه “Myte et épopée”- كما كشفت الدراسات اللسانية عن تشابه كبير بين لغات هذه الفروع في المفردات ونحوها، وتنبني كل هذه الدراسات على إثبات نظرية تطور اللغات، خاصة الأوروبية والآسيوية من لغة أصل هي اللغة الهندوأوروبية.
من اختلاف الألسنة، إلى ثقافة التعارف والاعتراف، يؤكد القرآن على حقيقة التنوع العرقي المتفرع عن الأصل الواحد، وهو آدم عليه السلام وزوجه بعد هبوطهما إلى الأرض بقول الله تعالى في سورة الحجرات: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ، وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ، إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)، فالتعارف يرد الأمر إلى أصله، ويتحاشى الاختلافات اللغوية بل يستعملها لتجديد التوافق والتعارف على عبادة الله تعالى واتباع الأنبياء، ومع الاختلاف الظاهر بين اللغات، فإن خصائص تطورها تؤكد أن طبيعتها الميل إلى التوافق لا التدافع، وهي حقيقة علمية ينبغي اعتبارها، والأخذ بلوازمها لإعادة تصحيح النظر إلى الاختلاف الثقافي بين الأمم.
بعد استقرار الأفواج التركية الأولى في أوروبا، مالت كل مجموعة بشرية إلى تطوير لغة تخصها، ثم عادت إلى التجمع مرة أخرى على قاعدة أنثروبولوجية معروفة وهي “القوة في الكثرة”، وليس المقصود بالقوة هنا القوة العسكرية فقط، بل القوة على تأمين الطعام والماء واللباس، فظهرت التحالفات والتكتلات، بل احتاج الأمر أحيانا إلى فرض ذلك بالقوة كما هو حال الإمبراطورية الرومانية التي انطلقت من روما وغزت كل أوروبا، وبتحولها إلى النصرانية، اعتمدت الدولة اللغة اللاتينية التي كانت لغة النخبة السياسية، ولغة الكهنوت والرهبان، واكتفى عوام الشعوب بلغات محلية ولهجات قبلية، مثل اللغة الغالية في المناطق الفرنكفونية الحالية، والجرمانية في الشرق.
ومع توالي الأحداث، اجتمعت الإرادة السياسية والجمالية اللغوية -كما يقول ألان رِي”- على الميل نحو إبداع لغة تخص منطقة بلاد الغال، فتشكلت النواة الصلبة للغة الفرنسية الأولى التي لا تشبه اللغة الفرنسية الحديثة في نحوها ومفرداتها، فتشكلت من اللاتينية والجرمانية والغالية، بل إن كلمة “Franc” جرمانية في أصلها، وستدخل اللغة الفرنسية في حركة تطور طويل مع دولة “Charles le chauve”، ثم كان لـ”كالفين” يد في تطويرها كما كان لـ”لوثر” يد في تطوير اللغة الألمانية بعد ترجمته الأناجيل من اللاتينية إلى الألمانية، وكان هذا دليلا على أن ظهور هذه اللغات الفرعية كان نوعا من التخلص من الثقافة القديمة والثورة عليها، فكيلفن ولوثر من أهم أعلام الحركة الإصلاحية الدينية في أوروبا، ثم وضع “رابلي” بصمته على اللغة الفرنسية أيضا، ثم لامونتين، وقد شهدت كتابات كل من ديكارت ونيوتن على هذا الانتقال حينما ألفا معا باللاتينية ثم بلغاتهم الجديدة، الفرنسية والإنجليزية، وبدأت تتشكل صورة الفرنسية الحديثة.
يستمر تاريخ تطور اللغة الفرنسية مع استقرار مجموعات من الفايكينغ في جهة النورماندي، وباتفاق سياسي مع السلطة الحاكمة في النواحي الفرنسية، سيقيم هؤلاء حضارة النورماندي، وسينسون لغتهم تقريبا لغلبة لغة الزوجات الفرنسيات على لغات أبنائهم، ومع ذلك فقد كانت لغتهم الأصلية أحد الروافد الكبرى للغة الفرنسية، وبعد الغزو النورماندي لبريطانيا، ستنتشر اللغة الفرنسية في الخطاب النخبوي البريطاني، وستحصل اللغة الإنجليزية على مفردات كثيرة لا تزال موجودة مع اختلاف في نطقها، ومع الامتداد العسكري الفرنسي، ستدخل اللغة الإيطالية على خط التأثير، وستكون اللغة الإيطالية أحد الروافد الثلاثة الكبرى للغة الفرنسية مع النورماندية والعربية في القرون الوسطى.
كتب “جون بريفو” كتابا بعنوان “Nos ancêtres les Arabes”، وأثبت فيه أن اللغة العربية من أكبر روافد اللغة الفرنسية منذ القرون الوسطى، وحدد قنوات الاستيراد في ستة، أولها الحروب الصليبية،والثانية الفتح الإسلامي للأندس، ثم الحضارة العلمية الأندلسية التي وفرت لها رصيدا كبيرا من المفردات التقنية والعلمية، ثم الحركة التجارية الواسعة في حوض البحر الأبيض المتوسط، ثم احتلال فرنسا لدول عربية في شمال أفريقيا ثم استقلالها عنها عن طريق المستعمرين العائدين، ثم أخيرا أغاني “الراب” التي يؤديها فرنسيون من أصول مغاربية، وهو مورد عجيب وغريب يؤكد صاحب الكتاب على أهميته.
هذا جزء من تاريخ اللغة الفرنسية بإيجاز مخل ربما، فليس قصدي التحقق ولا الاستيفاء، إنما قصدي التنبيه على طبيعة اللغة الفرنسية وأصولها، وهو أمر يساعد على أخذ موقف إيجابي من هذه اللغة الجميلة التي لم تبد أي تعصب أو تطرف، فبدأت متنوعة، ولا تزال كذلك، وهي دليل على وجوب تقبل فكرة الاندماج من الطرفين، من الأصل ومن الوافد أيضا، لصناعة ثقافة فرنسية وفية لقاعدة التطور اللغوي والثقافي وعدم التعصب للأصول الأولى، والدفع في وجه تطور الاندماج والاستيراد، وعلى النخبة الفرنسية أن لا تقف في وجه انتشار الحجاب في فرنسا بدعوى أنه يضاد الثقافة الفرنسية، لأنهم سيكتشفون أن الحضارة الإسلامية على ألسنتهم قبل أن تكون على رؤوس نسائهم، وأما في بلادنا العربية، وأخص المغرب، فليس عندنا مشكلة مع لغة من هذا النوع من اللغات الحية المتطورة المتسامحة، بل يجب إعطاءها حقها، وملاحظة الجانب الجمالي فيها، ومساعدتها على أن تقوم بدورها الحضاري المؤهلة له، فليست مشكلتنا مع “الفرنسية”، بل مع “الفرنسة” لأسباب تقنية وثقافية، فلا يجوز الخلط بين المفهومين.
مهما كانت الصورة الإيجابية التي ننظر من خلالها إلى حقيقة اللغة الفرنسية، فإنها لن تصل إلى مستوى اللغة العربية لأسباب متعلقة بالتاريخ والمضمون، فللعربية -التي يعود أصلها إلى آلاف السنوات- خصائص لا توجد عند هذه اللغات الحديثة المتفرعة والهجينة، فقد نزل القرآن باللغة العربية لأسباب متعلقة بالإعجاز والنبوة، ولأسباب متعلقة بالتأهل الثقافي لحمل الحضارة الإنسانية وفكرها المتطور، فهي القادرة على الدخول بإيجابية في حركة العلم والفكر، القادرة على استيعاب الثقافات الإنسانية المختلفة لتأمين تعايش رباني، هذه هي اللغة ذات الخصائص العجيبة التي تجعل كل من يخوص في أسرارها يجد لها روحا ربانية، ومن شاء الوقوف على ذلك، فليرجع إلى كتاب “الخصاص” لابن جني الرومي الأصل، تلميذ أبي علي الفارسي الأصل.