حرب أوكرانيا: لماذا فوجىء الغرب؟
هوية بريس – د. سالم الكتبي
لماذا تشتعل حرب أوكرانيا في هذا التوقيت؟ سؤال ربما تجد له أكثر من إجابة بحسب نظرة كل طرف لهذا التطور العالمي الخطير، وهي في مجملها إجابات وردود تلامس الحقيقة من قريب أو من بعيد، ولكن الأهم منها جميعاً أن هذه الحرب تؤسس لنظام عالمي جديد وتعجّل بتشكيل أسس هذا النظام، بل وتقلب الطاولة على التنظيرات التي حصرت التنافس القطبي بين الولايات المتحدة والصين، لتحجز روسيا لنفسها مقعداً على الطاولة الرئيسية لتقاسم النفوذ العالمي في القرن الحادي والعشرين.
الرئيس بوتين الذي تقول تقارير إعلامية روسية وغربية عدة أنه أبلغ نظيره الأمريكي جورج دبليو بوش في عام 2008 أن “أوكرانيا ليست دولة”، لا يبالي بردود الفعل الغربية ويعتبر أنه يخوض “حرب تحرير”في أوكرانيا وانه مايفعله ليس سوى استعادة للمسار الطبيعي للأمور بعد استفاقة روسيا وخروجها من حالة الضعف التي انتابتها بعد انهيار الاتحاد السوفيتي.
مايحدث في أوكرانيا هو بشكل عام “من بين أحلك ساعات أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية”كما قال جوزيب بوريل منسق الشؤون الخارجية بالاتحاد الأوروبي، وبدا الأمر وكأنه مفاجأة حقيقية للغرب رغم أنهم أنفسهم كانوا يتحدث ويحذرون من خطر غزو روسي لأوكرانيا، ولكن بالمقابل بدا أن هناك ميل لاستبعاد هذا السيناريو، وساد اعتقاد واسع بأن روسيا ستتراجع في النهاية! وحتى الأيام الأخيرة لم يكن هناك اتفاق غربي غربي على تقييم مسار الأزمة، فوزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك حذرت من “التكهن”بنوايا روسيا في ما يتعلق بأزمة أوكرانيا، بينما كان الرئيس الأمريكي جو بايدن يعرب عن “ثقته”بأن نظيره الروسي فلاديمير بوتين اتخذ قرار غزو الجمهورية السوفياتية السابقة، حيث قالت بيربوك في ردها على سؤال عما إذا كانت تتفق مع تقييم بايدن “في الأزمات، أسوأ ما يمكن القيام به هو التكهن أو افتراض”قرارات الطرف الآخر.
ولاشك أن الدعاية والمناورات السياسية الروسية قد لعبت دوراً كبيراً في اثارة الشك لدى قطاعات غربية واسعة في امكانية تحقق سيناريو الغزو، ولاسيما عندما يتعلق الأمر بالتشكيك في أساليب الولايات المتحدة والسعي لتذكير العالم بواقعة تمهيد وزير الخارجية الأسبق كولن باول في الأمم المتحدة لغزو العراق في عام 2003، حيث قدم باول وقتذاك “أدلة”على خداع المفتشين الدوليين واخفاء أسلحة دمار شامل، وماحدث بعد ذلك أن باول نفسه عاد ـ بعد مغادرة منصبه في عام 2005 ـ ووصف خطابه في الأمم المتحدة بأنه “وصمة عار ستبقى في سجله للأبد”، ثم أعرب في مقابلة تلفزيونية عام 2010 عن اسفه لأن المعلومات كانت خاطئة. هذه الواقعة استخدمتها الدعاية الروسية جيداً في محاولة نسف كل التصريحات الأمريكية التي تتحدث عن غزو روسي محتمل لأوكرانيا، واعتبرته سيناريو من وحي خيال الاستخبارات الأمريكية، ومن البديهي أن يميل البعض لتصديق هذه الدعاية التي استندت إلى واقعة كبرى في التاريخ المعاصر!
المفارقة أن الحرب اندلعت بعد أيام قلائل من انعقاد مؤتمر ميونيخ للأمن، حيث شاركت الولايات المتحدة بحضور بارز لطمأنة الحلفاء، حيث شاركت نائبة الرئيس كامالا هاريس ووزير الخارجية أنطوني بلينكن، ورغم كل التحذيرات والتهديدات بفرض عقوبات فإن روسيا كانت قد حسمت أمرها وكانت تنتظر على مايبدو توقيت التنفيذ.
روسيا تطلب ب”انسحاب كل قوات الولايات المتحدة واسلحتها المنتشرة في وسط أوروبا وشرقها، في جنوب شرق أوروبا ودول البلطيق”، و”التخلي عن أي توسيع مقبل لحلف شمال الاطلسي”، وتدعمها في ذلك الصين التي ترى أن “التوسع المتواصل لحلف شمال الأطلسي يتعارض مع زمننا هذا”، وهذا مايفسر إصرار الرئيس بوتين على التحرك لتغيير الواقع الجيواستراتيجي على أرض الواقع من أجل التفاوض لاحقاً مع الغرب لتحقيق مطالبه، أو إجبار حلف الأطلسي على تغيير مخطط التوسع بحكم الواقع، ولاسيما في حال سقوط أوكرانيا التي وصفها رئيسها فولوديمير زيلينسكي بأنها “درع أوروبا”في مواجهة روسيا، معتبراً أن تقديم الدعم العسكري الأطلسي ليس “مساهمة خيرية”تطلبها بلاده بل مساهمات في الحفاظ على أمن أوروبا والعالم.
اخطات التقديرات الاستراتيجية التي حصرت تحركات روسيا في إطار لعبة “عض الأصبع”وسياسة حافة الهاوية”واعتبرت أن كل من روسيا والغرب يريد الانتصار من دون مواجهة عسكرية، في انعكاس واضح لعدم وفهم الكثيرين ـ حتى الآن ـ لفكر وتوجهات وقناعات أو حتى استيعاب دروس الماضي القريب من سلوكيات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين!
لا يمكن انكار عنصر المفاجأة في هذه العملية العسكرية التي كان العالم كله يتابع تطوراتها وتفاصيلها بدقة، حتى أن الحديث عن مفاجأة يكاد يكون عبثياً، ولكنه حدث بالفعل لأن غالبية العواصم الغربية ظلت تستبعد الأمر وتنظر بتشكك لامكانية تحقيق سيناريو الغزو، حيث عاش الكثيرون على أمل تراجع الرئيس بوتين ووقع آخرين في فريسة لنفي موسكو المتكرر وجود أي نية لمهاجمة أوكرانيا وأن الأمر يتعلق بالحصول على ضمانات أمنية من الأطلسي، واعتبر البعض أنها مجدر مناورة ودفع بالأمور إلى حافة الهاوية لانتزاع تنازلات أطلسية، ولكن من يقرأ الأحداث من زاوية أعمق تاريخياً وأيديولوجياً كان يدرك تماماً أن بوتين لن يتراجع وأن تأخر التنفيذ يعود بالأساس لاستشراف سقف ردود الفعل الغربية والتأكد تماماً من عجز حلف الأطلسي عن الرد، وهذا ما كان واضحاً خلال نقاشات مؤتمر ميونيخ الذي كان فرصة مثالية للكرملين للتعرف على ما تفكر فيه الدوائر الغربية حيال الأزمة الأوكرانية.