حرب غزة في ظل التوترات العالمية القائمة
هوية بريس- محمد زاوي
يأتي العدوان الجديد على غزة في سياق مختلف عن السياقات السابقة للصراع الفلسطيني-“الإسرائيلي”، يتسم هذا السياق بنشوب توترات متعددة في عدة مناطق من العالم، لا تكاد تسلم منها قارة أو مجال جيوسياسي. فصل القضية الفلسطينية عن هذا السياق المنبئ بتشكل نظام عالمي جديد، هذا الفصل لا يعكس الحقيقة الشاملة لما يقع في فلسطين.
للحرب في فلسطين خصوصية من حيث تاريخ القضية ومصالح القوى المتدخلة فيها دوليا وإقليميا، إلا أن السياق الذي أفرزها هو ما أفرز: الحرب الروسية الأوكرانية، والتوتر بين أرمينيا وأذربيجان، وأزمة تايوان، والتوتر بين فنزويلا وغيانا. لا صدفة في السياسة، إذن لا صدفة في اندلاع هذه التوترات كلها مرة واحدة وفي السياق نفسه.
المطلوب، قبل الحديث عن الحرب في غزة، هو تحليل التوترات التي تشهدها مناطق جيوسياسية مختلفة من العالم؛ بذلك نستطيع فهم الحرب التي تلت “7 أكتوبر” في سياقها العالمي لا خارجه. من شأن هذه الخطوة أن توضح آفاقا خفية للصراع الفلسطيني-“الإسرائيلي”، كما من شأنها أن تساهم في البحث عن حل للقضية الفلسطينية وفق ما تسمح به ضرورة التحولات العالمية.
إن هذا البعد الكلي في حرب غزة هو ربما ما يفسر طول أمدها وتعدد أطرافها وتداخل مصالحهم. إنها حرب لا تعني الفلسطينيين ومستوطني الكيان الصهيوني وحدهم، بل رأينا كيف تتدخل فيها كل القوى الفاعلة دوليا، خاصة الكبرى منها كالصين وروسيا والولايات المتحدة الأمريكية. لهذه الدول وجهات نظر مختلفة بخصوص الصراع العربي-الإسرائيلي في الشرق الأوسط، كل منها تريد حلا بعينه لهذا الصراع، أو لنقل: ترى هذا الحل أو ذاك من مصلحتها.
أمريكا معنية بالدفاع عن الكيان الصهيوني، أي بالدفاع عن مصالحها في الشرق الأوسط؛ ف”إسرائيل” لا تعدو أن تكون مجرد كيان وظيفي يخدم مصالح الإمبريالية الأمريكية في المشرق العربي. وهناك أطراف أخرى تبحث عن لعب دور الوساطة، كقطر التي تربطها علاقات جيدة بطرف بارز داخل حركة “حماس” (خالد مشعل/ إسماعيل هنية)، ومصر باعتبارها الأقرب عربيا إلى ما يحدث في غزة.
أطراف أخرى، كروسيا والصين، مشغولة أكثر بقضاياها؛ “العملية الخاصة في أوكرانيا” بالنسبة لروسيا، وقضية “تايوان” بالنسبة للصين. ورغم علاقة هاتين الدولتين بالشرق الأوسط، ورغم اقتحامهما مؤخرا لمجاله الجيوسياسي الذي ظل في قبضة الأمريكيين منذ “سقوط جدار برلين”، إلا أن تدخلهما في حرب غزة محكوم بقضيتيهما الأبرز، أي “أوكرانيا” و”تايوان”، أكثر مما هو محكوم ب”الشرق الأوسط الجديد” الذي يصبوان إليه. فهذا في نظرهما آت لا محالة، تعجّل انبعاثه أمريكا نفسها. ما دام الأمريكي طرفا في “أوكرانيا” و”تايوان” معا، سيكون استنزافه في غزة في مصلحة روسيا والصين. هكذا على الأرجح ترى موسكو وبكين حرب غزة.
إيران نفسها تبحث عن مصالح بعينها في فلسطين، رغم الكم الهائل من الأدبيات والإيديولجيات التي روجتها “ثورة الخميني” منذ اندلاعها، والتي ملأتها عبارات “الموت لأمريكا، الموت لإسرائيل”. إن إيران باختيارها هذا لا تدافع إلا عن مصالحها ورغبتها في الاستقلال القومي وامتلاك قدراتها الوطنية وقرارها السيادي الوطني. الفصائل والوكلاء، رغم انخراطها في معاركها الداخلية وخضوعها لضروراتها، تلعب أدوارا لا يستهان بها لصالح إيران. فلا دولة تمنح السلاح والتقنية بسخاوة من أجل لا شيء، ولا دولة تنفق مليارات الدولارات على قضايا لا تنفعها بشيء.
إن إيران التي تمارس نوعا من الضغط والتدخل في الحرب الفلسطينية-الإسرائيلية، تمارس ضغطا وتدخلا آخر في “كارباخ” حيث الخلاف بين أرمينيا وأذربيجان. وهنا تحرس إيران تغير الخرائط في المجال الأوراسي، كما تحرسه في المشرق العربي. إن كل تغير لصالح أذربيجان (حليفة أمريكا) في “كاراباخ”، وكل تغير لصالح “إسرائيل” (كيان أمريكا) في الشرق الأوسط، لا يخدم مصالحها ويهدد رهاناتها في المجالين الحيوسياسيين معا. إنها جزء من التوتر بين “الشرق” و”الغرب” في كل من “كاراباخ” و”غزة”.
فنزويلا التي تتبنى موقفا معارضا للسياسة الأمريكية في الشرق الأوسط، كما تتبنى موقفا عدائيا ضد الكيان الصهيوني؛ لم تجد فرصة للتصعيد في “غيانا” أنسب من السياق الحالي حيث تعدد الجبهات الأمريكية. إن انفجار التوتر في القارة الأمريكية ليس وليد الشرط الأمريكي (القارة) فحسب، وإنما هو مرتهن لدرجة استنزاف الولايات المتحدة الأمريكية في جبهاتها الخارجية. إنه محاولة من فنزويلا للبحث عن منفذ لتسوية تعزز مصلحتها في “غيانا”، ليكون الأمر أشبه بانتزاع هذه المصلحة في غمرة الانشغال الأمريكي، وفي ظل استعداد الولايات المتحدة الأمريكية للتخلي عن بعض الجبهات لفائدة أخرى من باب التفكير بالأولويات.
الحرب في غزة انعكاس لحرب كبرى يبحث أصحابها عن طريق لتصريفها بأقل الخسائر، لأن الخسارة ستكون فادحة إذا ما اشتبك الكل ضد الكل، مباشرة وبكل وضوح. لا ينفي هذا التحليل فاعلية القوى والفصائل المحلية، غير أنه يفسر حركتها، إقبالها وإدبارها، بمدى استجابتها للتناقض الدولي القائم. المقاومة تقرأ جيدا واقعها الأقرب والأبعد، وبالتأكيد فهي لا تستحضر مأساة الشعب الفلسطيني والحصار الذي كاد ينسي قضيته كما تقول، وإنما أيضا تناقضات الكيان الصهيوني وعلاقتها بتناقضات الداخل الأمريكي، كذا تراجع الدور الأمريكي في المنطقة وانشغال “العم سام” في جبهات مصيرية.