“من أعظم مفاخر سلاطيننا المتأخرين شدة حرصهم على بيت المال وسهرهم الدائم عليه ولا زال الناس إلى اليوم يروون عنهم في هذا الباب حكايات طريفة أهمل مؤرخونا وياللأسف إثباتها في كتبهم وسنورد منها بعض ما تيسر لنا جمعه.
يحكى عن مولاي عبد الرحمان أنه كان شديد المراقبة على الأمناء وجميع من لهم اتصال ببيت المال، وكان يتولى محاسبتهم بنفسه، من ذلك أنه طلب يوما وهو بمراكش الأمين ابن شقرون أن يحضر دفاتيره ليحاسبه، وكان ابن شقرون هذا أمين الصاير والسكة وفي اسمه ضربت السكة النحاسية، فيقال لها: “الشقرونية”.
وفي غد ذلك اليوم بينما مولاي عبد الرحمان يطوف بقصره عند الصبح إذ عثر على رجل نائم متوسدا دفاتره، فسأل من هو؟ فقيل له: الأمين بن شقرون، فأفاقه وقال له: اذهب لحال سبيلك فلو كان في جوفك شيء من مال المخزن لما نمت مطمئنا.
وكان لهذه المراقبة الشديدة أثر قوي في نفوس الناس، فقد ولى مولاي عبد الرحمان الحاج عبد السلام العامري الشرادي أمين الطّواني بمراكش، والطواني كما تقدم هي خزائن الزيت، وكان الناس يشاهدونه يشتري الأوقية من الزيت لداره، والحال أن قناطير الزيت كانت تحت يده وتصرفه.
وكان مولاي الحسن أشد السلاطين المتأخرين حرصا على بيت المال، وكان بخيلا أشد البخل فيما يرجع لذلك، حتى أن أشراف الدار العالية كانوا يسمونه بالبخيل رغم عطاياه إياهم واعتنائه بهم؛ وكان بخيلا في كل شيء من مال الأمة حتى في الحبوب والزيت وسقط المتاع، وقلما كان ينفد لأحد شيئا من بيت المال وإن اتفق له ذلك فبالتافه الذي لا يكاد يذكر.
وقد طلب منه ولده مولاي عبد الحفيظ أن يحرر من الضرائب شيخه في الفروسية سيدي عمر من زاوية سيدي رحمون باحمر، فقال له مولاي الحسن بعدما أمسك بأذنه: إن حررت سيدك عمر وأمثاله من الضرائب فمن يملأ بيت المال؟ فصار مولاي عبد الحفيظ يبكي، فقال له مولاي الحسن: سأعطيه ظهير التوقير والاحترام.
ولاحظ مولاي الحسن أن حساب المصروف به أربع بسيطات زائدة، لم يبين فيما صرفت فيه، فلا زال يبحث وينقب ويراجع الحساب ويتصفح كأن القدر الضائع ذو بال، ولم يهدأ له بال إلى أن اكتشف الغلط واسترجع ذلك القدر”.
(“ماضينا القريب في كلمات” أبو القاسم؛ “جريدة العلم، عدد 1236/25 غشت 1950).
إضاءة
أوردنا هذا المقال المنشور في الصفحة الأولى لجريدة العلم الغراء، لنبين الدور الإيجابي الذي كانت تقوم به الصحافة الوطنية، في مواجهة الصحافة الاستعمارية، التي كانت لا تفوت الفرص للنيل من الشخصية المغربية بتوهينها وتبخيسها، والتنفير من رموز المجتمع، وضوابطه الاجتماعية، ونظمه الاقتصادية، لتدمير المتحد، وعزل المواطن عن تاريخه وحضارته ودينه الإسلامي الحنيف.