“حرية التعبير” لا تسوّغ الإساءة إلى مقدسات المسلمين…

“حرية التعبير” لا تسوّغ الإساءة إلى مقدسات المسلمين…
هوية بريس – د. عبد المنعم التمسماني، أستاذ التعليم العالي بجامعة عبد المالك السعدي-تطوان
إن ما يحدث من إساءات متكرّرة ومقصودة إلى مقدّسات المسلمين عموما، لا يمكن عدّها بأي معيار من قبيل “حرية التعبير” أبدا بحال، كما يزعم شرذمة من الحاقدين على ديننا ومقدّساتنا في الدّاخل والخارج ، فكلّ ناموس ونظام له حدود ومستثنيات، ولا مطلق في هذا العالم . وبناء عليه، فلا توجد حرية مطلقة سائبة، لذلك ألفينا جميع دساتير وقوانين العالم، تنصّ على ضرورة احترام المعتقدات والمقدّسات الدينية، وعدم المساس بها، وتقرر أن (حرّية التعبير) محميّة ومصونة، ما دامت لا تشكّل عدوانا على الآخرين .
وهو ما تُصرّح به وتؤكّده أيضا جلّ الهيآت والمنظّمات العالمية الكبرى، وفي مقدمتها: “منظّمة الأمم المتحدة”، فقد قال أمينها العام السابق (بان كيمون) في تعليقه على نشر “فيلم براءة المسلمين” المسيء إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: إن « منتج الفيلم أساء إلى حرّية التعبير عبر إنتاجه لهذا الفيلم»، وأن «حرّية التّعبير ينبغي أن تكون، بل يجب أن تكون، محميّة حينما يتم استعمالها لغرض مشترك، ولعدالة مشترك، وحين يستعمل بعض الناس هذا الحقّ لاستفزاز وإهانة قيم ومعتقدات الآخرين، فلا يمكن حماية هذه الحرية في هذه الحالة» وأردف قائلا : «موقفي هو أن حرّية التّعبير في الوقت التي تشكّل حقّا أساسيا ومكتسبا، لا ينبغي للبعض أن يسيء إليها عبر بعض الأفعال المشينة والمخجلة».
قلت: والمطلوب أن تُفَعَّل مثل هذه التّصريحات، بل وأن يُرتقى بها إلى مستوى ( تجريم) ما لم تسوّغه من “إهانة قيم ومعتقدات الآخرين”.
ومما ينبغي استيعابه جيدا أنه لا توجد حرية مطلقة البتّة إلا في ما يخص حرية الاعتقاد والتفكير، أما التّعبير عن هذه الحرّية، فهو سلوك اجتماعي، ينبغي أن يخضع للتّنظيم والتّقنين في أي مجتمع من المجتمعات، كما هو معلوم لكل من درس القانون .
فكلّ قوانين الأرض تضع قيودا وضوابط لممارسة حرّية التّعبير، يتعيّن الالتزام بهـا…
فالقانون الفرنسي مثلا يمنع أية كتابة أو حديث علني، من شأنه إثارة الأحقاد والكراهية ضد أي مجموعة دينية أو عرقية.
والقانون الدنماركي لا يجيز لوسائل الإعلام الإساءة إلى الأشخاص، أو إيصال وجهات نظر مسيئة (عنصرية، تمييز…)، وذلك حتى لا يتم استغلال الحرية استغـلالا تعسّفيـا …
وإذا كانت قوانين دول العالم كله تُجرِّم الإساءة إلى عامة الناس، فإن الإساءة إلى “الذّات الإلهية المقدّسة” وإلى نبيّ الإنسانية محمد صلى الله عليه وسلم، وإلى غير ذلك من مقدّسات المسلمين، لأولى وأحرى بالتّسفيه والتّجريم …
لذا، كان من المتعيّن على كل أصحاب المواقف السلبية من حملات الإساءة المتكرّرة إلى مقدّسات المسلمين أن يُدينوا المتورّطين فيها والسّاقطين في أوحالها، بدل أن يدافعوا عنهم بالباطل.. وذلك حماية لحرمات المقدّسات الدّينية، بل وحماية للحرّية ذاتها من أن تشوَّه حقيقتها، ويُساء استغلالها وتوظيفها.
ولكن من المؤسف والمخزي أن الحاقدين على دين الإسلام والمسيئين إلى مقدّساته -على اختلاف مشاربهم ونزعاتهم، وتباين مواقعهم وطبقاتهم- يتعاملون مع مختلف القيم الإنسانية النبيلة التي يرفعون شعارها، ويدَّعون حمايتها والدّفاع عنها، وفي مقدّمتها قيمة (الحرية) ، بازدواجية مقيتة !!..
فعندما يُنتهك مبدأ الحرّية ويُساء استخدامه وتوظيفه في التّعامل مع مقدّسات المسلمين، نجد الكثيرين منهم يقفون إلى جانب المتلاعبين بهذا المبدأ الإنساني السامي، وكأنّ مقدّسات المسلمين وثوابتهم مستباحة على كل حال، ولا حرمة لها ، ومن ثم، فلا ينبغي أن يُجَرَّم من تجاسر على انتهاكها !! .
أما إذا أسيئ استخدام المبدأ نفسه في التّعامل مع غير المسلمين، بأن مُسَّت مقدّساتهم ورموزهم الدّينية أو السّياسية بسوء باسم (الحرّية)، فإنهم يُقيمون الدنيا ولا يُقعدونها، ويطالبون بتفعيل البنود التي تُجرِّم الإساءة إلى الأشخاص والمؤسّسات والمعتقدات …ويبذلون قصارى جهدهم من أجل أن يُؤاخَذَ المنتهِكون لمبدأ الحرية -في نظرهم- بما يستحقّون من عقوبات رادعة زاجرة، ولا يرون في ذلك مصادرة لحرية التعبير !!
وما أكثر الشّواهد والوقائع التي تبرهن وتدلّل بقوة على زيف ادّعاء المعادين لديننا ومقدّساتنا حماية مبدأ (الحرية)، وتعكس ازدواجية مقيتة في تعاملهم مع هذا المبدأ الإنساني تنزيلا وتفعيلا.
ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر : أنّ بريطانيا، التي تزعم أنها -إلى جانب حليفتها الإستراتيجية أمريكا- رائدة الديمقراطية في العالم، والمدافع الأول عن حرّية الرّأي وحرّية التّعبير عنه، أقامت الدنيا ولم تقعدها ضدّ كتاب ألّفه خادمٌ سابقٌ في (القصر الملكي البريطاني)، يُدعى (مالكولم باركر) ، تعرّض فيه لذكر ما لاحظه خلال سنوات داخل هذا القصر من فضائح خلقية، وإباحية غير محدودة، وتَنَكُّر لتعاليم كافة الشرائع السماوية، الأمر الذي أجبره على ترك عمله بالقصر، والتفرُّغ لكتابة وتوثيق ما لاحظه وعاينه من فضائح خلال مدة إقامته بـه…
وفور الإعلان عن قرب إصدار الكتاب ونشره، قامت قيامة بريطانيا -التي تتشدّق بحمايتها للحرّية ودفاعها عن أصحاب الرّأي والفكر، ورفضها مصادرة الكتب والصحف، وإن تضمّنت تطاولا على شخصية عامة أو على نظام سياسي لدولة ما- فسارعت إلى اتخاذ كافة الإجراءات من أجل منع نشر وتداول الكتاب في بريطانيا، بحجّة الحفاظ على كرامة وهيبة الأسرة الملكية (المعصومة من الخطأ) !! .
ولم يقف تَحَرُّك الدولة عند هذا الحد، بل أعلنت الملكة نفسها –وللمرة الأولى في تاريخ الأسرة المالكة في بريطانيا- أنها تنوي اللجوء إلى القضاء الأمريكي، في محاولة منها يائسة لمنع نشر وتداول كتاب خادم قصرها السابق (مالكولم باركر) بحجّة تضمنه وقائع غير صحيحة، وتلطيخه هيبة الأسرة المالكة البريطانية !! . [ينظر “آيات شيطانية : جدلية الصراع بين الإسلام والغرب”، لرفعت سيد أحمد ، ص : 160- 181] .
– وفي مقابل هذه المواقف الصّارمة، وذلكم التدخّل القوي والفوري من الدولة البريطانية ضدّ إصدار وتداول الكتاب المذكور، وجدنا هذه الدولة – التي ترفع راية الدفاع عن حرية الرأي- تشمئزّ غاية الاشمئزاز من ردود الأفعال الإسلامية على رواية قذرة، وهي رواية (آيات شيطانية) التي تطاول صاحبُها على الجناب المحمّدي المنيف، ونَعَتَ أشرفَ خلق الله وسيّدَ الأولين والآخرين محمدا صلى الله عليه وسلم بأبشع النّعوت وأرذلها وأخسّها، كما تطاول على رسول الله إلى صفوة خلقه المرسلين (جبريل) عليه السلام، وعلى أمّهات المؤمنين الشريفات الطاهرات، بل وتجاسر على النّيل من “الذات الإلهية المقدسة” !!!
لقد أقامت بريطانيا الدنيا ولم تقعدها ضدّ المسلمين وقتئذ؛ لأنهم طالبوا بمصادرة تلكم الرواية التافهة الخسيسة، لما تضمنّته من إساءة مقصودة إلى مقدّساتهم وثوابتهم، ولما فيها من استهانة متعمّدة بالإسلام والمسلمين !!
فأيّ سلوك حضاري هذا الذي يُجَرِّم الحديث عن فضائح أسرة ملكية غربية، ولا يمانع من انتهاك وازدراء المعتقدات والمقدّسات الإسلامية؟!، وأيّة ديمقراطية، وأيّة عدالة هاته التي تجرّم التّطاول على قائد من قادة الدول الغربية، أو المساس ببند من بنود قوانينها، أو فصل من فصول دساتيرها، أو إهانة راية من راياتها … وتبيح في الآن ذاته الاستخفاف بعقائد المسلمين، والنيل من دينهم وقرآنهم ونبيهم، والتّطاول على كلّ مقدّساتهم؟! بل وتشجّع على القيام بذلك، انتصارا منها لـ (حرية التعبير) بمفهومها الانتقائي والاختزالي لدى المغرضين من الغربيين ؟! .
الأمر الذي يؤكد ما سبق الإلماع إليه من أنّ المتجاسرين على الإساءة إلى مقدّسات المسلمين -على اختلاف أوطانهم ومشاربهم ومواقعهم- يتعاملون بازدواجية مقيتة مع القيم الإنسانية الحضارية التي يدَّعون حمايتها والدفاع عنها، وعلى رأسها قيمة (الحرية)!!..



