حرية العقيدة في زمن تفكيكها
هوية بريس – محمد زاوي
1- حرية المعتقد في شروط الفرد والمجتمع والدولة والعالَم
هناك فرق بين منطقين: منطق يتصور الإنسان في الزمن والمكان، ومنطق آخر يتصوره مجرّدا في الذهن لا عن واقع متحرك. “الإنسان حر في اعتقاد ما يشاء”، لا اختلاف حول هذا المبدأ العام. إلا أن المبدأ شيء، والواقع في تغيّره شيء آخر.
“الإنسان حرُّ العقيدة”، ولكن! متى؟ وأين؟
“الإنسان يختار عقيدته”، ولكن! هل يختارها مطلقا؟أم أنه لن يكون قادرا على التحرر من اضطراره ودوافعه مهما ادعى ذلك.
…
لا تُطرَح هذه الأسئلة إلا نادرا، وذلك لأن الناس في تصور “حرية المعتقد” قسمان: من قال بالحرية المطلقة، ومن قال بالإكراه المطلق.
يقرّر الأولون وهْمَهم دون استحضار ما يلي:
– إيديولوجيا الدولة
– التاريخ الخاص للمجتمع
– ظروف النشأة والتربية
– سيكولوجية المعتقِد
– النظام الاجتماعي السائد عالميا أو وطنيا…
أما الذين يلونهم فهم جبْريون، يحرمون الإنسان من أدنى قدرة على التفكير والتمييز والترجيح بين اختيارين في الاعتقاد. وكخلاصة، فإن كلا الطرفين يشق عليهما استيعاب “حرية المعتقد” في إطار “ضرورات الفرد والمجتمع والدولة والعالم”.
الفرد حر في اختيار “معتقده”، ولكن وفق سيكولوجيته التي أنتجتها السنين. ولذلك كانت العلائق بالعقائد شتى، مع قابلية الإنسان لإصلاح نفسه ومعالجتها بضغط المجتمع وذوي القربى. في المثال، هناك عقيدة واحدة. وفي نفوس الناس، الهيئات شتى. إنها كذلك في المجتمع كله، بل وفي حياة كل فرد بعينه؛ تختلف الهيئات من فرد لفرد، كما تختلف لدى الفرد الواحد من مرحلة إلى مرحلة. الأصل هو التنوع في العقيدة الواحدة، وإذا تعددت العقائد واختلفت فحدث ولا حرج. إننا نختار عقائدنا، ولا نخرج عن إطارين: قانون النفس، واللاوعي الخاص بفرد دون آخر.
كيف تنشأ العقيدة في المجتمع؟ وكيف نفسر اختيار مجتمع لعقيدة دون أخرى؟ “التحدي والاستجابة”، “القابلية للاعتقاد ومضمون الاعتقاد”، “الحاجة والتلبية”… كلها ثنائيات تنفي أن تكون “عقيدة من العقائد” هي الفاعل الوحيد في الميدان؛ المحدد هو الشرط التاريخي، والعقيدة تؤثر إذا كانت ناجعة في هذا الشرط.
هذا ما حصل في شبه الجزيرة العربية، وفي مغرب الأمازيغ، وفي مغرب الاستعمار العسكري… وهذا ما نرى أنفسنا محتاجين إليه في مغرب “الاستعمار الجديد”… قبائل شتى، بآلهة شتى؛ شعب غائب، ودولة لم تتأسس بعد.
هذا هو الشرط الذي ظهرت فيه عقيدة التوحيد المحمدية، فكانت العقيدة السليمة الناجعة، وكانت الحاجة إلى التوحيد والدولة قائمة؛ أمازيغ فتكت بهم الفرقة، وخافوا بطش الأجنبي من جديد حيث لا شعب ولا دولة،هذا هو شرط قبول عقيدة التوحيد التي جاء بها الدعاة الأوائل، وما زادها المولى إدريس الأول إلا تأكيدا وحرصا، فتأسست العقيدة ومعها نشأت الدولة.
هذا، ولا تخرج عقيدة الحركة الوطنية (السلفية الوطنية) عن هذا الإطار، رب واحد في مواجهة آلهة الاستعمار المتعددة، وعبد مقاوم لا يرجو إلا جنّة ربه في أعلى عليين مع الصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقا.
وفي مغرب “الاستعمار الجديد”، هناك إرادات أجنبية لتفكيك “العقيدة الواحدة الجامعة”، وهو تهديد نستجيب له بتجديد عقدي بموجبه نعيد صياغة “عقيدة التوحيد” –دون مخالفة لأصول الدين- لمواجهة آلهة العصر الجديد: النزعة الاستهلاكية المتوحشة، التكنولوجيات، الكسل، النسيان، الدولار، الجنس الغابوي، الثورة المُعولَمة، إيديولوجيات الكونية، الأنانية، الإرهاب… وخلاصة نقول: تنشأ العقيدة ويختارها الأفراد، في المجتمع لا خارجه.
للدولة حسابان: حساب داخلي، وحساب خارجي. وبالتالي، لها إيديولوجيتان: إيديولوجيا الضبط في الداخل، وإيديولوجيا التعامل مع الأجنبي. لا تناقش العقيدة بعيدا عن ذلك، وخاصة في دولة لم يتحرر فيها الدين من قبضة السلطة ليعود إلى أصله الطبيعي الذي هو المجتمع.
الدولة هي الجهاز الإداري والمادي والإيديولوجي الذي تمارس من خلاله الطبقة المسيطرة سلطتها على باقي الطبقات في المجتمع. وفي دولة تحتكر العقيدة، تصبح هذه الأخيرة عنصرا من عناصر تحقيق السيادة في الداخل والخارج معا.
في الداخل، تساهم العقيدة في الحفاظ على واقع بعينه أو إحلال آخر مكانه بإرادة الطبقة المسيطرة، وفي العلاقة بالخارج، تحرّض الدولة شعبها بعقيدتها الرسمية على مواجهة العدو إذا اخترق حدودها الثقافية (تفكيك الثقافة الوطنية) أو السياسية (التدخل في القرار السياسي) أو الاقتصادية (فرض التبعية) أو الجغرافية (عسكريا)، يختار أفراد الشعب عقيدتهم ويحرصون عليها، في حدود الدولة، وفي حدود علاقتها بالمجتمع.
في العالم بأسره، يسود نظام اجتماعي بعينه. وهذا يصنع أخلاقه وقيمه وعقائده، وكلها تُفرَض على الإنسانية بمختلف أساليب العنف المادي أو العنف الرمزي، يختار الإنسان عقيدته، ولكن في أحد إطارين: إما في إطار مواجهة عقيدة النظام العالمي السائد، وإما في إطار الاستسلام لعقيدته والانهيار أمام عنفيه المادي أو الرمزي. عقائد الطرف النقيض للنظام العالمي، وعقائد الفئات التي التحقت بهذا النظام، كلها عقائد خاضعة لضرورة النظام الاجتماعي السائد وتتصارع في إطاره، مهما تحقق الأفراد بحرية الاختيار في كل طرف من طرفي التناقض الرئيس العالمي.
النفس والمجتمع والدولة والعالم… كلها عناصر تتفاعل في تحديد عقيدة الفرد، ولو أن التناقض الرئيس في الدولة، ومثله في العالم، هما اللذان يحددان تلك العقيدة بلا شك.
هل هذا يعني أن لا عقيدة ثابتة؟
هناك عقيدة ثابتة بلا شك، ولكنها ثابتة في شروطها المذكورة أعلاه؛ تحافظ على جوهرها، وتظهر بهيئاتها المختلفة حسب شروطها التاريخية المتغيرة؛ وهذا ما لاحظناه بالنسبة لعقيدة التوحيد في علاقتها بالمجتمع الذي تتأسس وتؤثر فيه، حيث الجوهر واحد لا يتغير (الله واحد لا شريك له)، والهيئات شتى (وثنية القبائل العربية، وثنية الأمازيغ وفرقتهم، واقع الاستعمار العسكري، استهداف الاستعمار الجديد).
هل أصبح من حقنا أن نتكلم عن “حرية المعتقد” في شرطنا الحالي؟
هل العقيدة قضية فرد ومجتمع ودولة وعالم؟ أم هي قضية فرد فقط؟
هل هذا هو نقاشنا التاريخي وموضوعنا المطلوب تاريخيا؟
هل من أحقية للحرية في غياب ضمانات المسؤولية؟
الحرية للناضجين، ويد الدولة والفقه على القاصرين أمر لازم. المثال هو حرية بلا شروط، وفي تاريخ الإنسان لا حرية إلا بشروط.
لا ضير في حُلمٍ مؤقت نمني به النفس ونتداوى به من آلام الأرض بين الفينة والأخرى، والعيب كل العيب أن نستنكر إكراه المجتمع والفقهاء (الرمزي والمعنوي) والدولة (الإيديولوجي والقانوني والمادي)، حيث نعجز عن منع إكراه آخر أجنبي (الاستعمار الجديد). إننا أمام مسؤوليتين: مسؤولية الحاكم في الأرض، ومسؤولية الفقيه للسماء. يحمي الحاكم عقيدة الدولة للدولة، فتتحقق بذلك رغبة الفقيه في استمرار دعوة السماء للسماء. ويحمي الثاني عقيدة السماء للسماء، فتتحقق بذلك رغبة الأول في استمرار الحكم والحفاظ على الدولة. ف”كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته”. الحاكم والفقيه، كلاهما مسؤولان عن العقيدة والدولة معا، وهذا ما يطلب توافقهما التاريخي والوطني.
2-نقاش في شرط النص
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: “لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة” (متفق عليه، من رواية عبد الله بن مسعود رضي الله عنه). ويقول الله تعالى: “لا إكراه في الدين، قد تبين الرشد من الغيّ” (سورة البقرة، الآية 256). أليس هذا من باب التعارض بين السنة والقرآن؟ كيف نتديَّن دون أن يكرهنا أحد، لنجد أنفسنا مُدانين وقد أُحِلّت دماؤنا بعد ممارسة حقنا في المنحى المعاكس؟ ألسنا مطالبين إما بجمع، وإما بترجيح، وإما بتوقف، وإما بإقرار نسخ؟ الجواب الوحيد على هذه الأسئلة هو: التاريخ، حيث التمييز بين المثال والواقع. المثال هو ألاّ يُكره أحد على دين، والواقع هو ما يهدد الدولة (الجماعة) ويشكك العامة في دينها.
“التارك لدينه المفارق للجماعة” عبارة دالة على الماهية بقيد، حيث قُيِّد مطلق (التارك لدينه) بمقيِّد (المفارق للجماعة). هذا ما قال به بعضهم، دون تدقيق في معنى “مفارقة الجماعة”. لا كلام مع المرتد الذي بدل دينه ما لم يعلن ردته على المسلمين (أهل البلد، المواطنين)، وبإعلان ردته وَجب تدخل القضاء (مع إمكانية الاجتهاد في الأخذ بالتعازير بدل الحدود في مجتمع تكثر فيه شبه القابلية لترك الدين الجامع). وهنا يصبح إعلان الردة “مفارقة للجماعة”، قبل أن يعلن المرتد “خروجه على الجماعة” بمهاجمة دينها والدعوة إلى دينٍ غيره.
هناك قول آخر يعتبر قول الله تعالى “لا إكراه في الدين” كلية أساسية من كليات الشريعة الإسلامية، وبالتالي فهي لا تُنْسَخ ولا تُخَصَّص بقرآن أو سنة. إنها الناسخة بدل ذلك، كما جاء عند الطاهر بن عاشور وفي تفسير الطبري نقلا عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما. يتحجج أصحاب هذا القول بكون الإسلام لم ينتشر بالسيف (بالإكراه)، وهذا في الحقيقة إخراج للظاهرة من تاريخها واحتفاء بها بعيدة عنه. صحيح أنّ “لا إكراه في الدين” كلية ومثال، ولكن واقعها ليس هو “النية المبيّتة أو الالتحاق بالعدو” فقط، كما قال بذلك أحمد الريسوني (1). هناك واقع آخر هو مواجهة إكراه بإكراه، وفي هذا نُدخِل غزوات فترة النبوة وفتوحات التوسع بعدها. لقد كانت قريش تمنع قابلية العرب للاقتناع بالدعوة الجديدة، فكانت الغزوات. ومن جهة ثانية، كانت الفرس والروم تحجران على شعبيهما في معرفة حقيقة تلك الدعوة، فكانت الفتوحات. لم يكره الرسول صلى الله عليه وسلم مجتمع شبه الجزيرة العربية على اعتناق دين الإسلام، ولكنه أكره من يكرههم على الكفر لينسحب ويغرب عن وجه تقدمية التاريخ. وكذلك هو الأمر بالنسبة للفاتحين، لا يكرهون الشعوب على دين التوحيد، ولكنهم يكرهون من يقف بدولة الاستعباد في وجه الدين الجديد.
إننا بإقرار ما ذُكِر أعلاه، لا نؤبّد شرطا تاريخيا، ولا فعلا تعلّق به. ما نؤبده هو المثال الذي يتحقق في شروطه المتغيرة عبر التاريخ، كما نؤبّد استحضار الشرط في كل مرحلة تاريخية بعد تحديده. وعلى نفس المنوال، نقول وقد استحضرنا شرطنا الحالي: المعتقد لا يكرَه أحد على تغييره أو التراجع عنه، هذا هو المبدأ العام الذي لا يناقشه أحد. ولكن أحوالنا اليوم تنطق بالشيء الكثير، فهناك فرق بين أن تعتقد بما تريد وبين أن تدعو إلى معتقدك الشاذ أو الخاص بك حيث العقيدة الجامعة مهددة. جمعيات ومراكز أبحاث استعمارية أجنبية، تضخ فيها مليارات الدولارات، تدعو إلى أفكارها وعقائدها الدخيلة والمفَكِّكة للعقائد الجامعة بمختلف الوسائل الناجعة والمثرة. وحركات ودعوات رسمية وشعبية ضعيفة خطابا وعُدّة، تنهزم في الميدان أمام جحافل الحداثويينالما بعد حداثيين المؤيَّدين بنصر “مراكز الاستشراق الأمريكي” وبقايا الرأسمال المالي الغربي (الأمريكي خاصة). والحالة هذه، هل نقاش حرية المعتقد هو النقاش المطلوب والتاريخي أم أننا في حاجة إلى ستر الضعف بمواجهة إكراه “المال وكونية حقوق الإنسان والضغط السياسي الأجنبي” بإكراه “عقوبة الردة”. نقول هذا، ونضم صوتنا إلى صوت أحمد الريسوني بضرورة التوسع في العقوبات الممكنة في حق المرتد الخارج بدعوته (الممولة والمدعومة رأسماليا) على أمته ووطنه. فقد قال الدكتور: “كما يظهر أن القتل ليس هو وحده العقوبة الوحيدة الممكنة لمثل هذه الحالة”. (2)
3- قراءة في فتوى المجلس العلمي الأعلى: في التمييز بين ردة دينية وأخرى سياسية
ورد في الفتوى الأولى للمجلس العلمي الأعلى (المغرب) –بخصوص حكم المرتد-: “أما بالنسبة للمسلمين: في شأن حرية المعتقد والدين، فإن شرع الإسلام ينظر إليها بنظر آخر، ويدعو المسلم إلى الحفاظ على معتقده وتدينه، وإلى التمسك بدين الإسلام وشرعه الرباني الحكيم، ويعتبر كونه مسلما بالأصالة من حيث انتسابه إلى والدين مسلمين أو أب مسلم التزاما تعاقديا واجتماعيا مع الأمة، فلا يسمح له شرع الإسلام بعد ذلك بالخروج عن دينه وتعاقده الاجتماعي، ولا يقبله منه بحال، ويعتبر خروجه منه ارتدادا عن الإسلام وكفرا به، تترتب عليه أحكام شرعية خاصة، ويقتضي دعوته للرجوع إلى دينه والثبات عليه، وإلا حبط عمله الصالح، وخسر الدنيا والآخرة، ووجب إقامة الحد عليه”. (3)
وفي فتوى ثانية ورد ما يلي: “لقد أثيرت قديما ولا تزال تثار قضية الردة والمرتد، ويبقى الفهم الأصح والأسلم لها المنسجم مع روح التشريع ونصوصه ومع السيرة العملية للنبي صلى الله عليه وسلم أن المقصود بقتل المرتد هو الخائن للجماعة، المفشي لأسرارها والمستقوي عليها بخصومها، أي ما يعادل الخيانة العظمى في القوانين الدولية، وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم: “من بدل دينه فاقتلوه”، المقيد بقوله صلى الله عليه وسلم: “التارك لدينه المفارق للجماعة”.
(…) ترك الجماعة لم يكن حينها إلا التحاقا بجماعة المشركين خصومهم وأعدائهم في سياق الحروب الدائرة بينهم، فالردة هنا سياسية وليست فكرية.
(…) ثمة شواهد في السيرة النبوية، منها صلح الحديبية الذي كان من بنوده: “أن من أسلم ثم ارتد إلى قريش لا يطالب به المسلمون، وأن من التحق بالمسلمين من المشركين استردوه. وفي الرجل الأعرابي الذي أسلم ثم طلب إقالته من شهادته فلم يفعل الرسول صلى الله عليه وسلم معه شيئا، فخرج من المدينة ولم يلحقه أذى، وإنما قال صلى الله عليه وسلم: “المدينة كالكير تنفي خبثها وينصع طيبها”، بالإضافة إلى حالات أخرى ارتدت على العهد النبوي ولم تحد بهذا الحد”. (4)
وإننا إذ نقارن بين النصين أعلاه، فإننا نقرر ما يلي:
– لا حق لأحد في تكفير أحد بعينه، ولا في إحلال العقوبة به، فتلك هي مهمة القضاء، و”ليس كل من وقع في الكفر وقع الكفر عليه”؛ كما يقول الفقهاء.
– لم يتراجع المجلس العلمي الأعلى عن فتواه الأولى بفتواه الثانية، كما تم الترويج لذلك، وإنما زاد فتواه الأولى بيانا وإيضاحا.
– قول أصحاب الفتوى: “ترك الجماعة لم يكن حينها”، ما هو إلى ربط للفظ “ترك الجماعة” بشرطه التاريخي “حينها”. فهي تعني في ذلك الحين التحاقا بدائرة الأعداء في تلك الشروط، كما تعني الأمر نفسه (الالتحاق بدائرة الأعداء) في شروط مغايرة. ومن ذلك، أن إعلان الردة قد يكون التحاقا بدائرة الأعداء بوعي أو بغير وعي.
– التمييز بين: ردة دينية ينكرها الشرع ولا تترتب عنها عقوبة دنيوية، وبين ردة سياسية تترتب عنها عقوبة دنيوية بغض النظر عن ترتب العقاب الأخروي عنها من عدمه. فالردة في الحقيقة هي ذات مضمون عقدي، ولكن الدولة لا تهتم بها إلا من باب ما يحمي حدودها ويحفظ سيادتها ومصالح شعبها (ومصالح شعبها من مصالحها، ولا يمكنها أن تكون إلا وطنية ولو في حدودها الدنيا). في هذا السياق تدخل حروب الردة التي قادها أبو بكر رضي الله عنها، فهي حروب سياسية تحمي عقيدة (وفي الحقيقة تحمي حكما شرعيا، هو “وجوب إيتاء الزكاة”) لسياسة وتفرض سياسة (أخذ الزكاة لصالح المسلمين ودولتهم الصاعدة) لعقيدة.
يقول امحمد جبرون: “فهي (أي الردة) لم تكن ردة شاملة وكلية عن الإسلام، كما ينطبع في الذهن بالوقوف عند لفظها، بل كانت بوجه عام، وإذا رمنا الدقة، ردّة جزئية، تروم –بالدرجة الأولى- التخلص من الأعباء المالية الواضحة للإسلام”.
ويعلق جبرون في الهامش: “إن الفرق كان واضحا لدى الصحابة ومَن في حُكمهم بين الردّة الشاملة التي تجسّدت في رجوع بعض القبائل عن الإسلام جملة، وبين الردة الجزئية التي اقتصرت على رفض الزكاة، ونرجح أن أغلب المرتدين كانوا من الصنف الثاني، ولعل طلب عمر رضي الله عنه لأبي بكر بالترفق في معاملة المرتدين كان يعني هذا الصنف بالدرجة الأولى”. (5)
– الشواهد التي استدعاها أصحاب الفتوى باعتماد السيرة النبوية، كلها شواهد تفيد ردة من ترك الدين وفارق الجماعة والتحق بالعدو (المشركين)، ولم تفِد من ترك دينه وفارق الجماعة وهدد مصالحها ودينها من داخلها وبين ظهرانيها. وهذه الأخيرة في نظرنا هي حالتنا الخاصة، وفيها كانت الفتوى الأولى واضحة صريحة.
– فيها كانت الفتوى واضحة صريحة، فتحركت الآلة الإعلامية لمن هم بين ظهرانينا ويخدمون الأجنبي في بلداننا. تحركت هذه الآلة الاستعمارية ضاغطة ومعتدّة بأدلوجة “الكونية والمواثيق الدولية”، فكان الرد من المجلس العلمي الأعلى: “إننا لا نحكم على من بدل دينه في بيته، وإنما على من بدله وفارق الجماعة وحرّض عليها، فتلك هي الخيانة العظمى التي تنص عليها مواثيقكم الدولية، فلماذا تنكرونها إذن علينا؟”.
– وعي نخبة المجلس العلمي الأعلى بخطورة التهديد الذي يحيط الدوائر ببلادنا من كل الجوانب، لعل أبرزها “مقومات التدين المغربي“، تلك المقومات التي تسقط تباعا بسقوط الوحدة، وهذه التي تسقط في شرطنا بسقوط “عقيدة التوحيد”. وهذا مما يُحسب لهذه النخبة، ويطلب دعمها والالتحام بها فيه، فذلك هو مدخل التوافق بين “علماء الدولة” و”علماء المجتمع” لصالح الوطن، ولا شيء غير الوطن.
4-دعوة لفقهاء الشريعة
من واجب الفقهاء أن يبحثوا في الأحكام وكيف توصل إليها “سلفنا الصالح”، من واجبهم أن يبحثوا عمّا كانت له (عن مقاصدها) في الدين والدولة معا. هذا، ولا ينبغي لهم أن يتكلموا في مستجدات الردة والإيمان دون طلب تحقيق مناط من المتخصصين في: الاقتصاد السياسي، العلوم السياسية، العلاقات الدولية، سوسيولوجياالأديان… وغيرها من التخصصات المطلوبة. لقد اعتاد الفقهاء على طلب تحقيق المناط من الأطباء والمهندسين، دون التفات إلى دور أكفاء العلوم الاجتماعية والإنسانية في تحقيق مناط قضايا أخرى بعينها. فينتج عن هذا تجاهل في التأويل وخطأ في التنزيل، مهما تحرى الفقيه عدم الجهل بالدليل. إن الكلام في “حكم المرتد” يعد من القضايا الكبرى التي تفتي فيها المجمعات الفقهية (مثل: “المجلس العلمي الأعلى” في المغرب)، وتلك هي قضايا الأمة، غير قضايا الأموال التي يفتي فيها الثقات، وغير القضايا الشخصية التي يفتي فيها فقيه القرية بما وُجد له في كتب الأحكام والفتوى على مذهب البلد، وكلها في نظرنا قضايا تطلب تحقيق مناطها في حالات بعينها من قبل متخصصي علومٍ لا يتقنها الفقيه.
لا يهمنا هنا الخوض في أقسام الفتوى، بقدر ما يهمنا كفّ التلاعب بقضايا الأمة (كقضية “حكم المرتد”) وجعلها مسألة متداولة خارج “المجمعات الفقيهة”. فما يتوفر لهذه لا يتوفر للأعيان من الفقهاء، ومنه (مما يتوفر للمجمعات الفقهية) متخصصون يعملون على تحقيق المناط في قضايا لا تطلب الاجتهاد في دلالات الألفاظ وحدها، أو المفاسد والمصالح وحدها، بل وفي التنزيل على الواقعة أيضا. (6)
وختاما نقول: لن يتكلم بحكمة وسداد في “حكم المرتد” مَن لم يستوعب آليات اشتغال الرأسمالية المتوحشة في دول الجنوب، مهما ادعى الفقه والخوض في كل كتاب يقتل هذا الحكم بحثا من حيث الأدلة والأحكام ودلالات الألفاظ والمقاصد المرجوة.
المراجع:
(1): أحمد الريسوني، الكليات الأساسية للشريعة الإسلامية، دار الكلمة، الطبعة الأولى، 2009، ص 177-179.
(2): نفسه، ص 178-179.
(3): الهيئة العلمية المكلفة بالإفتاء –المغرب-، فتوى المجلس العلمي الأعلى، 2012.
(4): المجلس العلمي الأعلى –المغرب-، وثيقة “سبيل العلماء”، 2017.
(5): امحمد جبرون، أزمة العلاقة بين الإسلاميين والعلمانيين بالعالم العربي: رؤى في نقد الانشقاق، طوب بريس، الطبعة الأولى، 2015، ص 35.
(6): عبد الله بن بية، في موضوع: “صناعة الفتوى وأصولها”.