حفل تنكري
هوية بيس – حميد بن خيبش
ذات يوم استيقظت مدينة هاملن الألمانية على غزو للفئران بأعداد مهولة. دب الخوف والفزع في السكان، وحاولوا بكل الوسائل أن يقضوا عليها، لكن جميع محاولاتهم باءت بالفشل، فقرر أغلبهم أن يتركوا البلدة ويهاجروا إلى مدن أخرى. وفي مسعى أخير لإنقاذ المدينة أعلن رئيس بلديتها عن مكافأة قدرها 10 آلاف قطعة ذهبية لمن يُخلص الناس من هذه الآفة. وبعد أيام قليلة حضر للبلدة عازف ناي بملابس المهرجين، وادعى أنه قادر على إنقاذ البلدة. سخر منه الناس في البداية، ثم أصابتهم الدهشة حين رأوا الفئران تخرج من كل مكان على وقع ألحانه السحرية وتجتمع حوله، ثم سار بها إلى نهر كبير خارج البلدة لتغرق عن آخرها.
طبعا فرح السكان بالتخلص من هذه الكارثة، لكن لما طالبهم عازف الناي بمكافأته رفضوا أن يُعطوه شيئا، فقرر أن ينتقم؛ وبينما كانوا مجتمعين في دار العبادة صباح اليوم التالي لإقامة حفل ديني،وقف عند بوابة المدينة، وأخرج نايه ليعزف ألحانا سحرية، كان لها أثر عجيب على أطفال البلدة الذين تبعوه إلى قلب مغارة كبيرة، حيث اختفى الجميع للأبد، وعاشت البلدة مأساة كبيرة.
لا يحتاج الإنسان اليوم أن يعزف على ناي سحري. يكفي أن يكون مشهورا حتى يتبعه آلاف المعجبين والمعجبات، يحاكون كلامه وحركاته، ويقلدون تسريحة شعره، ويتابعون أخبار زواجه وطلاقه، متوهمين أن أسلوب حياته هو مصدر للسعادة. إن صورة الفئران وهي تغرق بفعل الناي السحري مؤلمة حقا حين تتحول إلى نموذج لما يجري في مواقع التواصل الاجتماعي، والتي باتت تغمر الناس بصورهم وأخبارهم، بعد أن انتقل دورهم من صناعة الإعلان والترويج للمنتجات إلى صناعة نمط حياة وأفكار، والاستحواذ على درجة عالية من وعي المشاهد وانتباهه، والتأثير على مواقفه وقراراته.
كانت الممثلة البريطانية Lilie langtry أول شخصية مشهورة تخوض تجربة الإعلانات، حين ظهرت على ملصق إعلان لصابون Pears سنة 1893. ومنذ ذلك التاريخ صارت الشركات تنفق مليارات الدولارات سنويا على المشاهير في الإعلانات، وتستغل مصداقيتهم لدى الجمهور لإقناعه باستهلاك منتج، أوالانحياز لعلامة تجارية في مقابل أخرى. وصارت مداخيل النجوم من الإعلانات أضخم من أية جائزة يربحونها أو تظاهرة يشاركون فيها؛ فلو أخذنا مثلا لاعب الغولف الأمريكي الشهير تايغر وودز..فقد حصل مقابل فوزه بثلاث بطولات دولية على مليون دولار، لكنه أبرم عام 2000 عقدا مع شركة نايك لمدة خمس سنوات مقابل 125 مليون دولار.
وحتى يؤثر المشاهير في متابعيهم، ويحفزوا رغبتهم في شراء المُنتج، لابد أن يتمتعوا بمصداقية تعتمد على الجاذبية والثقة والخبرة، ويكونوا أصحاب موهبة في مجالهم. لكن مع السوشيال ميديا صارت الشهرة أن تعرض ذاتك، وتحول جزءا من حياتك إلى سلعة يستهلكها المتابعون، مقابل زيادة نسب المشاهدة، وتحقيق أهداف إعلانية وتسويقية.
هؤلاء المؤثرون الجدد يضعون اليوم مقاييس جديدة للعلاقات العامة. ونظرا لسهولة وصول الناس إليهم وقربهم منهم، عكس مشاهير الفن والرياضة، فإن جاذبيتهم ترتفع، وتعزز الشعبية ميلهم إلى بناء صورة مثالية لا تعكس الواقع؛ الشيء الذي يؤثر سلبا على نظرة الإنسان لذاته وثقته بنفسه. ويسود القلق من تأثيرهم حين يتجاوز دورهم الترويج للإعلانات إلى بث حياتهم الوهمية وتصوراتهم عن العلاقات الإنسانية.
“زواج المشاهير لعنة” هكذا عبّرت زوجة فنان مصري بعد أن طلبت الطلاق منه، وسبب هذه اللعنة أن عليها أن تظهر مثالية طوال الوقت لتحافظ على صورة زوجها. وأكدت في رد على أسئلة متابعيها أن الحياة الزوجية عشرة وتفاهم،وليست مجرد صور تنشر على الانترنيت.
وفي استبيان أجرته يومية “الوطن” ،رفض 69% من المشاركين فكرة الزواج من أحد مشاهير السوشيال ميديا.وتراوحت الأسباب بين الغيرة وانتهاك الخصوصية، وصعوبة التقيد بمعايير تفرضها الشهرة.
من خلال حياة وهمية منشورة على حساباتهم، وسعادة مفبركة تفضحها أخبار الطلاق والمشاكل القضائية، يُلحق المشاهير ضررا بالعلاقات الاجتماعية، ويؤثرون على مفاهيم الحياة الزوجية والاستقرار، ومواصفات الارتباط العاطفي بين الشريكين، خاصة حين يتم التفاعل مع المتابعين باعتبارهم طرفا ثالثا في العلاقة، ومنحهم الشعور بأنهم عائلة ثانية.
النقطة الثانية هي تأثيرهم على الذوق العام، وتوجيه اختيارات المتابعين نحو أسلوب معين في طريقة العيش، دون مراعاة الأضرار النفسية والاجتماعية. مثلا قام متجر Lord& Taylor باختيار 50 مؤثرا على السوشيال ميديا لارتداء فستان من تصميم المتجر وعرض الصور على متابعيهم. وفي نفس اليوم تم اختفاء جميع القطع المعروضة من الأسواق.
كيف يكون لهؤلاء المشاهير تأثير على الحياة الزوجية، وعلى أفكار وتصورات المقبلين على اختيار شريك للحياة؟
يقع أغلب مشاهير السوشيال ميديا في ما يسميه عالم الاجتماع إرفينغ غوفمان بعرض الذات أمام الجماهير؛ حيث يقوم الشخص بتصدير صورته حين يكون في حضور الآخرين تماما كما يحدث على خشبة المسرح، بالشكل الذي يتوافق مع مصلحته الذاتية. وهو ما يتحقق تماما مع الاهتمام بالمظاهر على حساب الحياة الواقعية. فالزوج قد يترك زوجته المريضة في فراشها بلا اهتمام، لكنها حين تتعافى وتفتح حسابها على فيسبوك، ترى منشورا لزوجها يقول: سلامتك يا حبيبة القلب. هنا يصبح الحب العلني بديلا للحب الواقعي والمواساة التي يُعبر عنها الزوج بالبقاء إلى جانبها، أو إعداد كوب ليمون.
المشكلة الثانية التي يتسبب بها المشاهير تتعلق بمفهوم السعادة الزوجية. فأمام سحر السوشيال ميديا تصبح صورنا ونحن نضحك أهم من السعادة الحقيقية والسلام النفسي. تقول الإعلامية رانيا بدوي. وإذا كانت هناك صور حقيقية فهي ضئيلة، بينما يعكس الباقي حالة هروب من واقع مؤلم، ونادت بأن يهتم الفرد بتطوير علاقته بشريك حياته وبعائلته، وبعدها يلتقط ما يشاء من صور. وقتها ستكون صورا حقيقية.
والمشكلة الثالثة التي يُرسخونها بتصرفاتهم هي انتهاك الخصوصية، حيث يتساهل الشباب في نقل مجريات حياتهم الشخصية على صفحات العالم الافتراضي، فيُحطمون بذلك شعور الأمان الذي تدور حوله مجمل علاقاتنا الإنسانية.
معظم البيوت اليوم فقدت خصوصيتها، وصارت وجبة الطعام مخصصة للانستغرام، والملابس لإثارة المعجبين؛ بل حتى الخلافات الزوجية صارت تنقل على المباشر ليستمتع بالتطفل عليها كل من هب ودب. يتساءل ريموند واكس في كتابه (الخصوصية): أليست الخصوصية في الأساس اهتماما بحماية المعلومات الحساسة؟ وعندما نتألم لضياعها، ألسنا نحزن لفقدان السيطرة على حقائق شخصية بشأن أنفسنا؟ إن جوهر هذه السيطرة هو الممارسة الصريحة للاستقلال فيما يتعلق بتفاصيل حياتنا الشخصية، سواء تلك التي يتطفل عليها الآخرون، أو التي تُنشر على الملأ دون مبرر.
أما المشكلة الأخيرة التي يعززها مشاهير السوشيال ميديا ولو بشكل غير مباشر، فهي زيادة انشغال الأزواج بالهاتف، واندماجهم المفرط في العالم الافتراضي. وينتج عن ذلك أضرار تلحق العلاقة الزوجية، منها غياب الحوار، وتبلّد المشاعر، وإهمال الشريك مما يتحول إلى قتل معنوي للحياة المشتركة، ثم الطلاق العاطفي بحيث يصير لكل طرف عالمه الخاص، وتنهار العلاقة الحميمة بين الزوجين.
قائمة طويلة من الدراسات حول تأثيرات السوشيال ميديا تؤكد جميعها على أن ما يفعله بنا المشاهير ينطبق عليه المثل القائل : “كثرة الظهور تكسر الظهور”
والسؤال الذي يفرض نفسه في الأخير هو: كيف نحمي علاقتنا الزوجية من تأثير المشاهير؟
ما هي الوصفة التي تساعد على تحديد المسافة بين حياتنا الخاصة وحاجتنا للتفاعل مع منصات السوشيال ميديا؟
لدينا جميعا حاجات عاطفية لإشباعها: الحاجة للشعور بالأمان، والشعور بالحب، والشعور بالانتماء. ولكي نحققها يجب أن نبحث عن الرضا في تفاعلنا الإنساني الحقيقي مع شريك الحياة.
نبدأ أولا بتوسيع الاهتمام، ونبحث عن أشياء جديدة نعملها أو أشخاص نقابلهم، أو نستغل الانترنيت في استكشاف مواضيع جديدة. ولا بأس أن نخبر شريك الحياة أو العائلة بأننا نحاول القيام بشيء جديد، فربما يعطينا الآخرون اقتراحا لم يخطر على البال.
ثانيا: نبحث عن التوازن في حياتنا بأن نحدد المدة التي نقضيها على مواقع التواصل الاجتماعي، ونُبعد الأجهزة التي تُذكرنا بها؛ فهذا يقلل من الأفكار والمشاعر المرتبطة بها، ويساعد على خلق مسار جديد.
ثالثا: ننضم لمجموعات عمل أو تطوع، فهذه أفضل وسيلة للتخلص من القلق الذي ينتابنا حين نبحث عن التغيير،ومن المعروف أن مساعدة الآخرين تحقق شعورا جيدا.
وأخيرا استمتع بحياتك بدل أن تشاهد أشخاصا يفعلون ذلك؛ فالحياة لا تُعاش إلا مرة واحدة. وابتعد عن السوشيال ميديا فهذا الأمر يعزز الاستقرار النفسي، ويُخلص من الصفات السيئة وعلى رأسها الحسد والحقد. هذا ما توصل إليه بحث أجرته جامعة كوبنهاجن على متطوعين قضوا أسبوعا بدون سوشيال ميديا.
في الثامن من ديسمبر سنة 1980 أطلق مارك شابمان خمس رصاصات على جون لينون، أحد أعضاء الفرقة الغنائية الشهيرة “البيتلز” أمام شقته، ثم جلس بهدوء قرب الجثة حتى وصول الشرطة. وحين سُئل لماذا فعل ذلك، كان رده : لأنه مشهور جدا!
إنها ضريبة الشهرة التي يدفعها النجوم بسبب تأثيرهم، كما يدفعها المعجبون من وقتهم وحياتهم.
يدفعنا مشاهير السوشيال ميديا إلى الاستغراق بعيدا عن حياتنا الواقعية، ويبثون رسائل مزيفة عن السعادة وتقدير الذات، ليتحول كل منا إلى ألونسو كيخانو، بطل رواية دون كيشوت الذي فقد عقله من قلة النوم والطعام والقراءة المفرطة لقصص الفرسان، فخرج من بيته ليحارب طواحين الهواء معتقدا أنها وحوش تهاجم الفلاحين، فيحاربها ويهزمها في خياله، بينما العالم من حوله يحترق، والامبراطوريات تسقط، وحبيبته تموت.