حقيقة الإنسان بين كورونا والآذان (1)
هوية بريس – عبد الرزاق سماح
الحمد لله رب العالمين حمداً يبلغ رضاه، نحمده حمد الشاكرين، ونشكره شكر الحامدين، والصلاة والسلام على أشرف من اجتباه مبعوثا رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وسلم تسليما لا يُدرَك مداه.
..إن عالمنا اليوم في حاجة إلى قيم الدين، لأنها تتضمن الفضائل التي نلتزم بها أمام خالقنا رب العالمين، والتي تقوي فينا قيم التسامح والمحبة والتعاون الإنساني على البر والتقوى، لا في سماحتها وحسب، بل في استمداد طاقتها من أجل البناء المتجدد للإنسان، وقدرتها على التعبئة من أجل حياة خالية من الحروب والجشع، ومن نزعات التطرف والحقد، حيث تتضاءل فيها آلام البشرية وأزماتها، تمهيدا للقضاء على مخاوف الصراع بين الأديان..
أما بعد:
قد يتساءل البعض عن الرابط في العنوان بين الإنسان وكورونا والآذان، وما العلاقة بينهم؟
فنقول مُتَّكلين على الله العليم الخبير بأنها علاقة فلسفية مادية وروحية بين الخلق والأمر، بين الغيب والشهادة، بين المادي والروحي، بين البداية والمآل، بين الداء والدواء، بين الماضي في الحاضر للمستقبل، بين الحق والواجب، بين حرية الاختيار وفردية التبعات، بين المسؤولية والمحاسبة، بين السعادة والشقاء.
إنها رحلة مع التاريخ الإنساني في الزمان والمكان في رحاب الكون كله، فالتاريخ ممتد من الدنيا إلى الآخرة، وهو فعل الإنسان وكسبه، ونجاحاته وأخطاؤه، وهو المسؤول في نهاية المطاف عن نتائج أفعاله. فالإنسان هو محور التاريخ، وهو المكلف بأن يحقق إرادة الله في التاريخ.
فنطرح تساؤلات عدة حول حقيقة الإنسان، والغاية من خلقه في هذا الكون، وما قيمته الحقيقية وسط الخلق كله، وما هو المآل والخاتمة لهذا الإنسان. وما هي الآثار التي يتركها بأفعاله وتصرفاته على الكون والحياة والإنسان؟ وماهي تصوراته وتوقعاته لسعادته في الحياة الدنيا والآخرة.
وسوف نقسم الموضوع إلى أجزاء ثلاث وهي: حقيقة الإنسان، ثم كورونا التي ترمز للابتلاء، وأخيرا الآذان الذي يرمز إلى الحرية والانعتاق من الأسر والتقليد.
(حقيقة الإنسان)
(1-1)
-1حقيقة الإنسان.
-2الغاية من خلق الإنسان.
3-رسالة الإنسان.
4-أسس ﺍﻟﻌﻼﻗﺔ بين ﷲ ﺗﻌﺎلى ﻭﺍﻹﻧﺴﺎﻥ.
5-ﺍﻟﺘﺼﻮﺭ الإسلامي ﻟﻠﻜﻮﻥ ﻭﺍﻹﻧﺴﺎﻥ ﻭﺍلحياﺓ.
(حقيقة الإنسان)
(1-1)
1 – حقيقة الإنسان
إن الفكر الإسلامي أسس رؤيته الفلسفية لأصل الإنسان على فكرة خلق الله تعالى له على صورته. ويؤكد القرآن أن الإنسان وُهبَ روحا، يُعَرّفُها بأنها من روح الله.
يقول الله تعالى:( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ، فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن روحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ). (الحجر:28-29).
ومن هنا حَلَّل (الفكر الإسلامي) النفس الإنسانية إلى مقوم حيواني يستقي الإنسان منه أحاسيسه وشهواته، ومقوم فكري يستقى منه عقله.
وتَحدَّث القرآن عن إنعام الله على الإنسان بحواس، وبقدرة على معرفة الكون، وعلى معرفة الله وإرادته، جديرة بالثقة فيها بدرجة مناظرة للوحي.
يقول الله تعالى:( وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً) (الإسراء :36).
ويقول:(ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ، وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ).(السجدة :9).
ويقول:(سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ).
(فصلت: 53).
فالعضو الذي يستطيع به الإنسان إدراك وفهم الوحي من جهة هو العقل، وهو بالتالي الملكة التي يستطيع بها أن يعرف ربه من جهة أخرى.
وهذه الصورة الإلهية كائنة في كل البشر على السواء، ويستحيل تدميرها أو فقدانها، ومنها يتشكل جوهر إنسانية الإنسان، وهي أنبل وأغلى ما يمتلكه، فهي نفخة من روح الله. ويعد الإنسان في حكم العدم في غيابها، وإذا ضعفت فإن الإنسان يوصف بالخبل أو الجنون، وعندها يرفع عنه التكليف.
وتتفق الرؤية الإنسانية الإسلامية في موقفها هذا من العقل مع الرؤية الفلسفية الإغريقية (لدى سقراط وأفلاطون وأرسطو)، مع وجود فارق بينهما بخصوص سنام العقلانية.
فهي عند الإغريق: الثقافة، وعند المسلمين: التقوى. إلا إنه عند التدقيق يتبين أن التقوى الإسلامية تجب الثقافة الإغريقية، لأن الإقرار لله بالربوبية، أي بكونه الخالق والمالك والحكم هو أسمى درجات العقلانية التي عرفها الإنسان. إلا أن الإسلام يختلف جذريا:
أولا: مع الرؤية الإنسانية الإغريقية، التي تعترف بإنسانية المواطنين الأحرار، بينما تصنف العبيد في فئة أخرى أدنى من سابقتها.
ثانيا: مع الرؤية الإنسانية اليهودية بذات الدرجة، التي تسلم بوجود الصورة الإلهية في كل البشر بالفطرة، ولكنها تفرق بينهم بالمولد والطبع معطية أتباعها وضعية مختارة.
ثالثا: مع المسيحية التي تمايز بين البشر من حيث امتلاكهم جميعا ناموسا طبيعيا، وتدعي اختصاص أتباعها بناموس إلهي بحكم إيمانهم وتعميدهم.
رابعا وأخيرا: مع الرؤية الإنسانية العلمانية الأوربية، التي تستمد هويتها من الثقافة الأوربية على سبيل الحصر، وتهبط بالآسيويين والأفارقة وغير الأوربيين عامة إلى مستوى أدنى من مستوى البشر.
فلم يستطع حتى رائد التنوير المفكر الكبير ايمانويل كانط، المنادي بالعقل الخالص، أن يصل بعقلانيته إلى نهايتها المنطقية، وخصص وضعية أدنى للآسيويين والأفارقة.
أما الإسلام فيرى أن كل البشر سواسية، ويُذكّرُ الله تعالى البشرية مرارا في القرآن أن:( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ). (الحجرات :13).
ويقول:(َومِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ {} وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ {} وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ). (الروم :20-22).
وبعد أن يقرر القرآن أن كل البشر يعودون إلى آدم وحواء، وأنهم من تراب، وأساس التفاضل بينهم هو التقوى، يطرح سؤاله البليغ:(قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ). (الزمر:9).
وفى حجة الوداع تنزل الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم مشيرا إلى إتمام الله الدين. ووجد النبي أن من المناسب في هذا الموقف الجليل، أن يُذَكر المسلمين الذين كان جلهم آنذاك عربا من حيث العرق، وكلهم عرب من حيث اللغة والثقافة أنه: {لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى} (1).
فالأمر الأخلاقي التكليفي المخاطب به الإنسان لا يلتفت إلى الماضي، ولا يتعلق بحدث وقع في الماضي، سواء كان هذا الحدث يشير إلى هبوط، أو إلى فداء تَمَّ على يد شخص آخر. ومنبع هذا الأمر ليس مثل تلك الأحداث الماضية، بل هو يتعلق جملة وتفصيلا من حدث حاضر أو مستقبلي. ومن هنا لا يعرف الإسلام أي تبرير بالإيمان، ولا أي تاريخ للخلاص.
ولا تنبثق أخلاقية الإنسان في منظور المسلم، من الإيمان بحدث خلاصي ماض، بل بالإيمان بمعية الله تعالى. ويعنى استحضار وجود الله تعالى في هذا المنظور، وجود الحق والقيمة، اللذان يؤسس الإنسان دعوى ولايته وسعيه عليهما. وتتوقف صدقية تلك الدعوى على تحريك الإنسان لمعطيات الزمان والمكان على نحو إيجابي يجعلها مجسدة للإرادة الإلهية في الكون.
ويؤكد الإسلام أن الروحانية ذاتها بكل فضائها، تصير في حكم العدم، إذا لم تصبح واقعا ملموسا، متجسدا في رجال ونساء يمشون على الأرض.
فأخلاقية المسلم ذات توجه مستقبلي كامل، حتى حين تكون غاية في المحافظة والركود. ومن هذه الإيجابية الأخلاقية يستمد المسلم حيويته. فمع تحريره من إصر الماضي وأغلاله، يصير المسلم نموذجا للنشاط وللإقبال على الحياة، وعدوا لدودا للزهد في الدنيا وللحط من قدر التاريخ.
-2الغاية من خلق الإنسان.
يقول الله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات 56).
لقد جاء خلق الإنسان من الأرض، فكانت الأرض قبل الإنسان، ثم جاء الإنسان ليكون خليفة فيها، ولم تكن حياة الناس على هذه الأرض عبثاً، بل كان خلق الإنسان لغاية محددة هي عبادة الله سبحانه، ولفهم معنى العبادة في سياق الغاية من خلق الإنسان جاءت آيات أخرى (البقرة: 30).
فالخلافة في الأرض هي معنى العبادة، وهي إعمار الأرض. ولكي تتحقق الخلافة في الأرض جاء تمكين الإنسان فيها، فهي مُسخّرة له، ولذلك طلب الله منه إعمارها (هود: 61).
فالعبادة خلافة في الأرض وتمكين وتسخير واستعمار لها بأمر الله ليعمرها الإنسان بالصلاح والإصلاح.
فقيامه بالإعمار إذن هو استجابة لدعوة الله لما فيه حياته الطيبة في الأرض، وحياته في جنات النعيم، وبذلك تظهر العبادة بوصفها التعبير الكلي عن المقصود بالعمران في الأرض.
فالغاية إذن من خلق الإنسان هي عبادة الله وحده، وهي طاعة أوامره التكليفية باختيار مسؤول، بتحقيق الجانب الأخلاقي من الإرادة البشرية عبر الفاعل الإنساني، وهي التي تحقق الخير الأسمى وتملأ الحياة بالقيم.
وجوهر مفهوم العبادة هو قيام الإنسان بالربط بين الموجودات وتوجيه العلاقة بينها باتجاه تلبية مراد الله تعالى، وإنجاز التكليف الرباني والمشيئة الإلهية. والتكليف الرباني هو أساس إنسانية الإنسان، وجوهر هذا التكليف هو الفعل الإنساني الأخلاقي، الذي هو أساس الوظيفة الكونية للإنسان.
فالإنسان كائن عابد حر مسؤول مستطيع بفطرته، وبتلمسه لأسباب الاستطاعة في كون قابل لتلقى فعله فيه.
والمشيئة الإلهية تتحقق على نحو لا إرادي في غير عالم الإنسان، وكذا في شق من عالم الإنسان (كما هو الشأن في وظائف الجسد الإنساني العضوية والنفسية)، بينما تتحقق في الشق الآخر المتعلق بالوظائف الأخلاقية على نحو إرادي حر. فللحياة غاية وهدف أسمى هو تحقيق الإرادة الإلهية الخيرة من مستوياتها الأرفع شأناً والأعلى منزلة، دون إهمال صور أخرى من إرادة الله التي تُعدُّ وسائل وأدوات لعمران الكون، من مأكل ومأوى وتزاوج، وعلاقات أسرية واجتماعية وغيرها.
3-رسالة الإنسان.
فرسالة الإنسان في هذه الحياة هي ملء الوجود بالقيمة، والقيم على ثلاث درجات:
- الدرجة الأولى: القيم الأولية الطبيعية، وهي محكومة بسنن كونية لا دخل للإنسان بها.
- الدرجة الثانية: القيم الوسائلية النفعية، وهي محكومة بنفع لا يتجاوز هذه الحياة الدنيا.
- الدرجة الثالثة: القيم الأخلاقية وحدها هي العليا، وهي التي ينفرد الإنسان بالقابلية لتحقيقها، لكونها مبنية
وجودا وعدما على إرادته الحرة المسؤولة، وبها يصير الإنسان صاحب رسالة كونية في هذه الحياة.
وقد خلق الله تعالى الكون، وسخر الوجود للإنسان بأمره لاستخدامه والتمتع به.
والغاية من خلقه للكون أن يملأه الإنسان بالقيمة الأخلاقية، وتلك هي رسالة الإنسان الكونية وسر تكريمه.
فالسموات والشمس والقمر والمحيطات والأنهار والجبال والأشجار والنبات، كلها مخلوقة لانتفاع الإنسان بها وزينة له، ووزن الإنسان في الآخرة مرهون بمدى إنجازه لرسالته الكونية في هذه الحياة (عمران الأرض).
وقد تأسس الوجود على توازن بيئي مبني على سلسلة من النظم المترابطة بين المخلوقات في مملكة، المُلك فيها على الحقيقة لله وحده، والإنسان فيها خليفة مُؤتَمَن، مأذون له بالانتفاع وفق المنهج الذي شرعه له المالك سبحانه. ومن مقتضى ذلك تكليف الإنسان بتجنب العقوق واتقاء الله فيه (المُلك)، وتَحَرّي الرفق به والإحسان إليه، والاستعمال الأخلاقي له (المُلك).
يقول الله تعالى:(هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ{} يُنبِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ{} وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالْنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ{} وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ{} وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأكُلُواْ مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ{} وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَاراً وَسُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ{} وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ{} أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ{} وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ). (النحل :10-18).
ويقول سبحانه وتعالى: (وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُم مِّن جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثاً وَمَتَاعاً إِلَى حِينٍ، وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّمَّا خَلَقَ ظِلاَلاً وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ
الْجِبَالِ أَكْنَاناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ). (النحل: 80-81).
فرسالة الإنسان تقع ضمن المجال الأخلاقي الذي لا تتحقق فيه إرادة الله إلا بفعل حر مسؤول، وهذا هو مناط القول بأن الإنسان خليفة بأمر الله في الأرض، لأنه هو المخلوق الوحيد الذي يستطيع تحقيق القيم الأخلاقية العليا، وهو الوحيد الذي بمقدوره أن يجعل تحقيقها في الوجود كله غاية له. فهو شبيه بجسر كوني، يمكن عبره تنفيذ الإرادة الإلهية في شموليتها بوجه عام، وفى شقها الأخلاقي الأعلى بوجه خاص، في معطيات المكان والزمان، وتحويلها إلى واقع فعلي معاش.
ولا عجب في ضوء ما سبق أن يعتبر الإنسان في منظور الإسلام أكرم مخلوق وأسمى مقاما من الملائكة، ومرد ذلك على وجه التحديد هو رسالته ومصيره الأخلاقي الفريدَين. (2)
4- أسس ﺍﻟﻌﻼﻗﺔ بين ﷲ ﺗﻌﺎلى ﻭﺍﻹﻧﺴﺎﻥ.
وﻘﺪ تم تحدﻳﺪ ﺍﻟﻌﻼﻗﺔ بين ﷲ ﺗﻌﺎلى ﻭﺍﻹﻧﺴﺎﻥ:
– ﺃﻭﻻ ﺑﺎﻟﻌﻬﺪ : ( ﻭﺇﺫ ﺃﺧﺬ ﺭﺑﻚ ﻣﻦ ﺑني ﺁﺩﻡ ﻣﻦ ﻇﻬﻮﺭﻫﻢ ﺫﺭﻳﺘﻬﻢ ﻭﺃﺷﻬﺪﻫﻢ ﻋﻠﻰ ﺃﻧﻔﺴﻬﻢ ﺃﻟﺴﺖ ﺑﺮﺑﻜﻢ ﻗﺎﻟﻮﺍ ﺑﻠﻰ ﺷﻬﺪﻧﺎ ﺃﻥ ﺗﻘﻮﻟﻮﺍ ﻳﻮﻡ ﺍﻟﻘﻴﺎﻣﺔ ﺇﻧﺎ ﻛﻨﺎ ﻋﻦ ﻫﺬﺍ ﻏﺎفلين ﺃﻭ ﺗﻘﻮﻟﻮﺍ ﺇنما ﺃﺷﺮﻙ ﺁﺑﺎﺅﻧﺎ ﻣﻦ ﻗﺒﻞ ﻭﻛﻨﺎ ﺫﺭﻳﺔ ﻣﻦ ﺑﻌﺪﻫﻢ ﺃﻓﺘﻬﻠﻜﻨﺎ بما ﻓﻌﻞ ﺍلمبطلون ). (ﺍﻷﻋﺮﺍﻑ:172-173)
– ثانيا ﺑﺎﻻﺋﺘﻤﺎﻥ: (ﺇﻧﺎ ﻋﺮﺿﻨﺎ ﺍﻷﻣﺎﻧﺔ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺴﻤﺎﻭﺍﺕ ﻭﺍﻷﺭﺽ ﻭﺍلجباﻝ ﻓﺄﺑين ﺃﻥ يحملنها ﻭﺃﺷﻔﻘﻦ ﻣﻨﻬﺎ ﻭحملها ﺍﻹﻧﺴﺎﻥ ﺇﻧﻪ ﻛﺎﻥ ﻇﻠﻮﻣﺎ ﺟﻬﻮﻻ). (ﺍﻷﺣﺰﺍﺏ:72). ﻭﻋﻠﻰ ﺃﺳﺎﺱ ﻣﻦ ﺫﻟﻚ تم:
– ثالثا ﺍﻻﺳﺘﺨﻼﻑ: (ﻭﺇﺫ ﻗﺎﻝ ﺭﺑﻚ ﻟﻠﻤﻼﺋﻜﺔ ﺇني ﺟﺎﻋﻞ في ﺍﻷﺭﺽ ﺧﻠﻴﻔﺔ. ﻗﺎﻟﻮﺍ اتجعل ﻓﻴﻬﺎ ﻣﻦ ﻳﻔﺴﺪ ﻓﻴﻬﺎ ﻭﻳﺴﻔﻚ ﺍﻟﺪﻣﺎﺀ ﻭنحن ﻧﺴﺒﺢ بحمدﻙ ﻭﻧﻘﺪﺱ ﻟﻚ. ﻗﺎﻝ ﺇني ﺃﻋﻠﻢ ﻣﺎ لا ﺗﻌﻠﻤﻮﻥ). (ﺍﻟﺒﻘﺮﺓ:30 ـــ 31).
– رابعا ﺍﻟﺘﻜﻠﻴﻒ ﻭﺍﻻﺑﺘﻼﺀ: ﻭﺑﻌﺪ ﺍﻻﺳﺘﺨﻼﻑ ﺟﺎﺀ ﺩﻭﺭتحديد ﺍلمهمة ﺍﻟتي ﻟﺘﺤﻘﻴﻘﻬﺎ ﻭﻗﻊ ﺍﻻﺳﺘﺨﻼﻑ، ﻭﻋﻠﻰ ﺫﻟﻚ ﻳﺘﻮﻗﻒ الحساب والجزاء، ﻓﻜﺎﻥ ﺍﻟﺘﻜﻠﻴﻒ ﻭﺍﻻﺑﺘﻼﺀ (ﻟﻴﺒﻠﻮﻛﻢ ﺃﻳﻜﻢ ﺃﺣﺴﻦ ﻋﻤﻼ). (ﺍلملك:2)
5- ﺍﻟﺘﺼﻮﺭ الإسلامي ﻟﻠﻜﻮﻥ ﻭﺍﻹﻧﺴﺎﻥ ﻭﺍلحياﺓ:
ﻣﺎ ﻣﻦ ﺣﻀﺎﺭﺓ ﺃﻭ ﻣﺪﻧﻴﺔ ﺃﻭ ﺣﺎﻟﺔ ﻋﻤﺮﺍﻧﻴﺔ يمكن ﺃﻥ ﺗﻘﻮﻡ ﺑﺪﻭﻥ ﺗﺼﻮﺭ، ﻓﺎﻟﺘﺼﻮﺭ ﻫﻮ ﺃﺳﺎﺱ ﺗﻘﻮﻡ ﻋﻠﻴﻪ ﻧﻈﺮﺓ ﻛﻠﻴﺔ ﻟﻠﻜﻮﻥ ﻭﺍﻹﻧﺴﺎﻥ ﻭﺍلحياﺓ، ﻓﻌﻠﻰ ﺍﻟﺘﺼﻮر تبنى ﺃﺭﻛﺎﻥ ﻭﺗﻔﺎﺻﻴﻞ ﻭﺩﻗﺎﺋﻖ ﺍﻟﺮﺅﻳﺔ ﺍﻟﻜﻠﻴﺔ؛ ﻓﺈﺫﺍ ﻛﺎﻥ ﺍلمنهج وﺃي ﻣﻨﻬﺞ ﻳﻘﻮﻡ ﻋﻠﻰ ﻣﺴﻠﻤﺎﺕ ﺗﺴﺒﻘﻪ ﻳﺴﻤﻴﻬﺎ ﺍﻟﺒﻌﺾ ﻣﺴﻠﻤﺎﺕ ﻣﺎ ﻗﺒﻞ المنهج، ﻓإﻥ ﺍﻟﺘﺼﻮﺭ بهذه ﺍلمثاﺑﺔ ﻟﻠﺮﺅﻳﺔ ﺍﻟﻜﻠﻴﺔ ﻫﻮ ﻣﻨﻄﻠﻘﻬﺎ ﻭﻗﺎﻋﺪتها، ﻭﺍﻟﺘﺼﻮﺭ ﻭﺍﻟﺮﺅﻳﺔ ﺍلتي ﺗﻘﻮﻡ ﻋﻠﻴﻪ يمثلاﻥ ﻣﺎ ﻛﺎﻥ ﻳﻌﺮﻑ ﻋﻨﺪ ﺍلحكماﺀ ﺍلمتقدمين ﺑﺎلحكمة ﺍﻟﻨﻈﺮﻳﺔ، ﺣﻴﺚ ﻗﺴﻢ ﺃﻭﻟﺌﻚ ﺍلحكماﺀ الحكمة إلى ﻧﻈﺮﻳﺔ تعني ﻓﻬﻢ ﺍﻟﻜﻮﻥ ﻛﻤﺎ ﻫﻮ ﻛﺎﺋﻦ، ﻭإلى ﻋﻤﻠﻴﺔ تعني ﻓﻬﻢ ﺍﻟﺴﻠﻮﻙ الحياتي ﻛﻤﺎ ﻳﻨﺒﻐﻲ ﺃﻥ ﻳﻜﻮﻥ.
فالأﺩﻳﺎﻥ ﻛﻠﻬﺎ ﻭﺍلمذﺍﻫﺐ جميعها ﻭﺳﺎﺋﺮ ﺍﻟﺘﻴﺎﺭﺍﺕ ﺍﻟﻔﻠﺴﻔﻴﺔ ﻭﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ﺗﺮﺳﻢ ﺃﻭﻝ ﻣﺎ ﺗﺮﺳﻢ ﺗﺼﻮﺭﻫﺎ، ﻭتحيطه ﺑﺎلخصاﺋﺺ ﻭﺍلمقوﻣﺎﺕ ﺍﻟﻼﺯﻣﺔ ﻟـﻪ، ثم تبني ﻋﻠﻴﻪ ﺭﺅﻳﺘﻬﺎ ﺍﻟﻜﻠﻴﺔ ﻭتحدﺩ ﺃﻫﺪﺍﻓﻬﺎ، ﻭﺍلمناﻫﺞ ﻭﺍﻟﺴﺒﻞ ﺍلمؤﺩﻳﺔ إلى ﺗﻠﻚ ﺍﻷﻫﺪﺍﻑ، ثم تحدﺩ ﺍﻟﻌﻼﻗﺎﺕ ﺍﻟﻔﺮﺩﻳﺔ ﻭﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ في ﺿﻮﺀ ﺫﻟﻚ ﻭﻋﻠﻰ مختلف ﻣﺴﺘﻮﻳﺎتها. ﻭﺍﻟﺘﺼﻮﺭﺍﺕ تختلف ﺑﺎﺧﺘﻼﻑ ﻣﻨﻄﻠﻘﺎتها ﻭﺗﻘﺼﺮﺃﻭ ﺗﻜﺘﻤﻞ بحسب ﺗﻠﻚ ﺍلمنطلقاﺕ، ﺳﻮﺍﺀ ﺃﻛﺎﻧﺖ ﻋﻠﻤﻴﺔ ﺃﻭ ﻣﻌﺮﻓﻴﺔ ﺃﻭ ﻓﻠﺴﻔﻴﺔ ﺃﻭ ﻣﺎﺩﻳﺔ ﺃﻭ ﺩﻳﻨﻴﺔ.
وقد ﺧﺺ ﷲ ﺗﺒﺎﺭﻙ ﻭﺗﻌﺎلى ﺍﻟﺘﺼﻮﺭ ﺍﻹﺳﻼمي بمجموﻋﺔ ﻣﻦ ﺍلخصاﺋﺺ ﻭﺍلمقوﻣﺎﺕ تبدو في ﺑﺪﺍيتها ﻭﻇﺎﻫﺮها ﺗﺼﻮﺭﺍ ﺩﻳﻨﻴﺎ غير ﺃﻧﻪ جمع ﰲ ﺧﺼﺎﺋﺼﻪ ﻭﻣﻘﻮﻣﺎﺗﻪ ﻣﺰﺍﻳﺎ ﺃﻫﻢ ﺍﻟﺘﺼﻮﺭﺍﺕ ﺍلتي ﻋﺮﻓﺘﻬﺎ ﺍﻟﺒﺸﺮﻳﺔ؛ ﻓﺎﻟﻨﻈﺮ ﺍﻟﻌﻘﻠﻲ ﺃﻭﻝ ﻭﺍﺟﺐ ﻳﻮﺍﺟﻪ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥ بمسؤﻟﻴﺔ ﺍﻟﻘﻴﺎﻡ ﺑﻪ ﻟﻴﺼﻞ إلى المعرفة.
فمعياره ﺍﻷﺳﺎﺱ (التصور الإسلامي) ﻣﻦ ﺩﺍﺧﻠﻪ، ﻓﻬﻮ ﺗﺼﻮﺭ ﺗﻮﺣﻴﺪي نقي ﺃﺭﺳﻰ ﷲ ﺗﺒﺎﺭﻙ ﻭﺗﻌﺎلى ﺩﻋﺎﺋﻤﻪ، ﻭﻓَﺼّﻞ ﻋﻠﻰ ﻋﻠﻢ ﺧﺼﺎﺋﺼﻪ، ﻓﻬﻮ ﺭﺑﺎني المنشأ لم يخالطه ﺍلهوﻯ، ﺗَﺴﺘﻤﺪ ﺣﻘﺎﺋﻘﻪ ﻣﻦ الحقيقة الإلهية ﺍﻷﺯﻟﻴﺔ ﺻﺪﻗﻬﺎ، ﻭﺛﺒﺎتها ﻭﻋﻠﻤﻴﺘﻬﺎ ﻭﺣﻜﻤﺘﻬﺎ، ﻭﻋﻤﻮﻣﻬﺎ ﻭشمولها، ﻭﺛﺒﺎتها ﻭﺗﻮﺍﺯنها ﻭﻭﺍﻗﻌﻴﺘﻬﺎ ﻭﺩﻗﺘﻬﺎ، ﻭﺇيجاﺑﻴﺘﻬﺎ ﻭﺣﺮﻛﺘﻬﺎ، ﻭﻋﺼﻤﺔ ﻣﺼﺎﺩﺭﻫﺎ ﻭﺇﻃﻼﻗﻴﺘﻬﺎ. فاﻟﺘﻮﺣﻴﺪ يمثل محوﺭ ﺍﻟﻌﻘﻴﺪﺓ ﻭﺃﺳﺎﺳﻬﺎ، ﻭﻋﻘﻴﺪﺓ ﺍﻟﺘﻮﺣﻴﺪ ﺗﺒين ﻟﻺﻧﺴﺎﻥ ﺃﻥ ﺍﻟﻮﺟﻮﺩ ﻟـﻪ ﻃﺮﻓﺎﻥ:
- ﺧﺎﻟﻖ ﻣﺘﻌﺎﻝ ﻫﻮ ﷲ ﺗﻌﺎلى.
- ﻭﻛﻞ ﻣﺎ ﺳﻮﺍﻩ ﻣﻦ ﺍلموﺟﻮﺩﺍﺕ ﺳﻮﺍﺀ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥ ﺃﻭ ﺍﻟﻜﻮﻥ وما حوى فهو مخلوﻕ.
ﻭﺍﻟﻮﺟﻮﺩ ﺍﻹلهي ﻫﻮ ﺍﻟﻮﺟﻮﺩ ﺍلحقيقي ﺍﻟﺪﺍﺋﻢ، ﻭﺍﻟﻮﺟﻮﺩ ﺍﻟﻜﻮني ﻭﺍﻹﻧﺴﺎني ﻭﺟﻮﺩ ﻏير ﻗﺎﺋﻢ ﺑﻨﻔﺴﻪ، ﻭﻻ ﻣﻌﺘﻤﺪ ﻋﻠﻰ ﺫﺍﺗﻪ،
ﻭ ﻛﻼهما ﻋﻨﺼﺮ ﻣﻦ ﻋﻨﺎﺻﺮﺍﻟﻌﺎلم ﺍلمخلوﻕ لله ﺗﻌﺎلى، ﻭﺍﻟﺴﻨﻦ ﻭﺍﻟﻘﻮﺍﻧين ﺍﻹلهية ﺍﻟﺜﺎﺑﺘﺔ تجرﻱ ﻋﻠﻴﻬﻤﺎ ﻣﻌﺎ: ( ﺇﻧﺎ ﻛﻞﹼ ﺷﻲﺀ ﺧﻠﻘﻨﺎﻩ ﺑﻘﺪﺭ) (ﺍﻟﻘﻤﺮ: 49).
ﻭﻣﻊ ﻫﺬﺍ ﺍﻻﺗﻔﺎﻕ ﺍﻟﺘﺎﻡ بين ﺍﻹﻧﺴﺎﻥ ﻭﺍﻟﻜﻮﻥ ــ ﻛﻠﻪ ﻭﻛﻤﺎ ﻫﻮ ــ ﻭﻣﻊ ﺑﺪﺍﻫﺔ ﻛﻮﻥ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥ ﻣﻮﻟﻮﺩﺍﹰ ﻃﺒﻴﻌﻴﺎ ﻟﻠﻜﻮﻥ، ﻓﺈﻥ ﺍﻟﻘﺮﺁﻥ ﺍلكريم ﻗﺪ ﺃﻭﺿﺢ ﺍﻟﺼﻠﺔ ﺍﻟﻌﻀﻮﻳﺔ بين ﺍﻹﻧﺴﺎﻥ ﻭﺍﻟﻜﻮﻥ، ﻭﺑَﻴَّﻦ ﺃﻥ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥ ﻣﻦ ﻫﺬﻩ ﺍﻷﺭﺽ:
(ﻣﻨﻬﺎ ﺧﻠﻘﻨﺎﻛﻢ ﻭﻓﻴﻬﺎ ﻧﻌﻴﺪﻛﻢ ﻭﻣﻨﻬﺎ نخرﺟﻜﻢ ﺗﺎﺭﺓ ﺃﺧﺮﻯ) (ﻃﻪ: 55).
ﻭﻫﺬﺍ ﺍﻟﺬﻱ ﻗﺮﺭﻩ ﺍﻟﻘﺮﺁﻥ ﺍﻟﻜﺮيم ﻫﻮ ﻧﻔﺲ ﻣﺎ ﺗﻮﺻﻠﺖ ﺇﻟﻴﻪ ﺍﻟﺒﺸﺮﻳﺔ ﺑﻌﺪ ﺳﺎﺋﺮ ﺍﻷﻃﻮﺍﺭ ﺍﻟتي ﻣﺮﺕ بها °ﻓﻠﺴﻔﺔ ﺍﻟﻌﻠﻮﻡ ﺍﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ° ﻟﺘﻘﺮﺭ ﺃﺧيرﺍ: ﺃﻥ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥ ﺑﻜﻞ ﺗﻔﺎﺻﻴﻠﻪ ﺑﺪﻧﺎ ﻭﻧﻔﺴﺎ وﺟﺴﻤﺎ ﻭﻋﻘﻼ ﻭﺣﻮﺍسا ﺇنما ﻫﻮ ﺍﺑﻦ ﻃﺒﻴﻌﻲ ﻟﻠﻜﻮﻥ. (3)
فالتصور الكوني في الإسلام يستند إلى أنَّ الكون مخلوق صالح ومنظم وغائي، وهو مسخر للإنسان وهبة من الله له لتمكينه من مهمة الاستخلاف. فالنظام والانتظام في الكون هو الذي يمكن الإنسان من الملاحظة المنظمة، التي تعينه في اكتشاف أوامر الله، وهي (القوانين والسنن)، ومن ثم تطوير العلوم الطبيعية.
أما الجوانب الاجتماعية والنفسية المختصة بالاجتماع البشري، فهي جزء من هذا الكون، وهي تخضع كذلك لسنن وقوانين تمكن الإنسان أن يكتشفها، فيطور من خلال هذه الاكتشافات العلوم الاجتماعية والإنسانية…
أما الرؤية الكونية في الحضارات الأخرى فتختلف تماماً عن الرؤية الإسلامية للكون والإنسان والحياة:
– فالحضارة الإغريقية مثلاً حضارة وثنية، تؤمن بتعدد الآلهة، وقد صوّرت الآلهةَ في صورة خصائص الإنسان المعروفة، ولذلك لم يكن غريباً أن تُظهِر هذه الحضارةُ آلهتَها في صورة كائنات يحارب بعضها بعضاً، وتلجأ إلى الخداع والتآمر، وترتكب الزنى والسرقة، وتمارس الحقد والانتقام؛ تماماً كما هو واقع البشر، ولأنّ هذه هي الآلهة فلا بأس أن يمارس الإنسان بعض ما تمارسه الآلهة، وهكذا يكون تأليه الإنسان.
– أما المسيحية في المقابل فقد اعتقدت بالخطيئة الأصلية التي جعلت الجنس البشري ساقطاً، ولا يمكن التخلص من حالة السقوط إلا أن يتجسدَ الإلهُ في المسيح، ويموتَ على الصليب تكفيراً عن خطيئة البشر.
– والهندوكية جعلت معظم الناس الهنود في طبقة المنبوذين، ووصفت غير الهنود بالنجاسة، وأبقت الصفة العليا لفئة قليلة من البراهمة، ولا يتم الانتقال من طبقة إلى أخرى إلا بعد الموت بالتقمص والتناسخ، أما العمل الأخلاقي في الحياة فلا قيمة له.
– والبوذية ترى أنَّ الحياة الدنيا للإنسان وسائر المخلوقات هي شر وبؤس وشقاء، وينحصر دور الإنسان في التخلص من هذا المصير بالانضباط والتأمل والتفكُّر.
والإنسان المسلم يؤمن أنّ الله الواحد هو العلة الوحيدة لكل شيء في الكون، وأنَّ الكون إنما يحدث بإرادة الله عن طريق المسببات الحادثة في الزمان والمكان، وكلها تخضع للبحث التجريبي والاستدلال العقلي.
ولا يزال الكثير من علماء الغرب يرفضون فكرة الإله الخالق المدبر، بسبب كراهيتهم لسلطة الكنيسة التي كانت تكرس المقولات الخرافية، وتخنق حركة البحث والاكتشاف العلمي…. لكنَّ حركة العلم هزمت سلطان الكنيسة في نهاية المطاف، وأدت هزيمتها إلى إرساء ما عرف بالعلمانية التي كانت تعني إلغاء هيمنة الدين الكنسي على التقدم العلمي، مما كان أمراً مشروعاً ويستحق التقدير، ولكن هذه العلمانية تجاوزت فيما بعد ومع الأسف رفض سلطان الكنيسة إلى رفض الدين جملة.
ﻭ ﺍﻟﻘﺮﺁﻥ ﺍﻟﻜﺮيم ﺭﺑﻂ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺼﻠﺔ ﺑين ﺍﻹﻧﺴﺎﻥ ﻭﺍﻟﻜﻮﻥ بمفهوﻡ» الخلق«، ﻓﺎﻹﻧﺴﺎﻥ ﻭﺍﻟﻜﻮﻥ ﻣﻌﺎ:
– ﻳَﺘَّﺤﺪﺍﻥ ﰲ ﺻﺪﻭﺭهما ﻋﻦ ﺇﺭﺍﺩﺓ ﺇﻟﻪ ﻭﺍﺣﺪ، ﻭﻣُﺪﺑَّﺮﻳﻦ ﺑﺘﺪبير ﺭﺏ ﻭﺍﺣﺪ:( ﻭﺧﻠﻖ ﻛﻞ ﺷﻲﺀ ﻓﻘﺪﺭﻩ ﺗﻘﺪﻳﺮﺍ ) (ﺍﻟﻔﺮﻗﺎﻥ: 2).
– ﻛﻤﺎ ﻳﺘﺤﺪﺍﻥ في ﺍلمبدﺃ ﻭالمآﻝ، وفي ﻛﺜير ﻣﻦ ﺍﻟﻘﻮﺍنين ﻭﺍﻟﺴﻨﻦ الحاﻛﻤﺔ ﻟﻜﻠﻴﻬﻤﺎ، ﻟﻜﻦ ﻟﻺﻧﺴﺎﻥ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻜﻮﻥ ﺩﺭﺟﺔ هي ﺩﺭﺟﺔ ﺍﻟﺘﻜﺮيم ﺍﻹلهي :(ﻭﻟﻘﺪ ﻛﺮﻣﻨﺎ ﺑني ﺁﺩﻡ ﻭحملناﻫﻢ ﰲ ﺍﻟبر ﻭﺍﻟﺒﺤﺮ ﻭﺭﺯﻗﻨﺎﻫﻢ ﻣﻦ ﺍﻟﻄﻴﺒﺎﺕ ﻭﻓﻀﻠﻨﺎﻫﻢ ﻋﻠﻰ ﻛﺜير ممن ﺧﻠﻘﻨﺎ ﺗﻔﻀﻴﻼ). (ﺍﻹﺳﺮﺍﺀ: 70).
ﻭﺩﺭﺟﺔ ﺍﻟﺘﻜﺮيم ﻫﺬﻩ ﺃﻫﻠﺖ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥ ﻟﻼﺳﺘﺨﻼﻑ ﻭﺍﻻﺋﺘﻤﺎﻥ والعهد ﻭﺍﻻﺑﺘﻼﺀ، ﻛﻤﺎ ﺃﻫﻠﺘﻪ ﻷﻥ ﻳﻜﻮﻥ ﺍﻟﻜﻮﻥ ﻣﺴﺨﺮﺍﹰ ﻟﻪ، وﺟﻌﻠﺖ ﻣﻦ خلقه ﺣﺪﺛﺎ ﻋﻈﻴﻤﺎ لم ﻳﺸﺒﻪ ﺃي ﺧﻠﻖ ﺁﺧﺮ في ﺃهميته بما في ﺫﻟﻚ ﺧﻠﻖ ﻣﺎ ﻫﻮ ﺃﻛبر ﻣﻨﻪ: (لخلق ﺍﻟﺴﻤﺎﻭﺍﺕ ﻭﺍﻷﺭﺽ ﺃﻛبر ﻣﻦ ﺧﻠﻖ ﺍﻟﻨﺎﺱ ﻭﻟﻜﻦ ﺃﻛﺜﺮ ﺍﻟﻨﺎﺱ ﻻ ﻳﻌﻠﻤﻮﻥ) (ﻏﺎﻓﺮ: 57). وﺟﻌﻠﻪ الله ﺗﻌﺎلى ﺃﻫﻼ ﻷﻥ ﻳﻘﻊ ﻟـﻪ الملاﺋﻜﺔ ﺳﺎﺟﺪﻳﻦ :(ﻭﺇﺫ ﻗﺎﻝ ﺭﺑﻚ ﻟﻠﻤﻼﺋﻜﺔ ﺇني ﺧﺎﻟﻖ ﺑﺸﺮﺍ ﻣﻦ ﺻﻠﺼﺎﻝ ﻣﻦ ﻣﺴﻨﻮﻥ ﻓﺈﺫﺍ ﺳﻮﻳﺘﻪ ﻭﻧﻔﺨﺖ ﻓﻴﻪ ﻣﻦ ﺭﻭحي ﻓﻘﻌﻮﺍ ﻟـﻪ ﺳﺎﺟﺪﻳﻦ) (الحجر: 28 ــ 29).
فصار الإنسان بهذه ﺍﻟﺪﺭﺟﺔ “ﻗﻄﺐ ﺍﻟﻜﻮﻥ ﻭﻣﺮﻛﺰ ﺍﻟﺪﺍﺋﺮﺓ ﻓﻴﻪ”
فَلُعن ﺇﺑﻠﻴﺲ ﻭﻃُﹸﺮﺩ ﻣﻦ ﺭحمة الله ﺗﻌﺎلى ﺑﺎﻟﺘكبر على أمره، ﻭﺭﺿﻲ ﷲ ﻋﻦ ﻣﻼﺋﻜﺘﻪ ﻭﺃﺛنى ﻋﻠﻴﻬﻢ ﻟﻄﺎﻋﺘﻬﻢ له ﺑﺎﻟﺴﺠﻮﺩ ﺇلى ﻫﺬﺍ ﺍلمخلوق ﺍلمكرم ﻣﻦ ﺧﻠﻘﻪ. فهيأ ﷲ ﺗﻌﺎلى لهذا ﺍﻹﻧﺴﺎﻥ ﻣﻦ ﻗﻮﻯ ﺍﻟﻮﻋﻲ ﻭﺍﻹﺩﺭﺍﻙ ﻣﺎ يمكنه ﻣﻦ ﺃﻥ ﻳﺴﺘﻮﻋﺐ ﺍﻟﻌﺎلم ﺍﻷﻛبر. ﻓتمكن ﺑﺬﻟﻚ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥ ﺃﻥ ﻳﺮﺻﺪ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﻈﻮﺍﻫﺮ ﺍﻟﻜﻮﻧﻴﺔ ﻓﻴﻜﺸﻒ ﻋﻦ ﺍﻟﻘﻮﺍﻧين ﻭﺍﻟﺴﻨﻦ ﺍﻟﻜﺎﻣﻨﺔ ﻭﺭﺍﺀﻫﺎ، ﻭﻳﻄﻠﻊ ﻋﻠﻰ ﺍلحقائق ﺍﻟﻌﻠﻤﻴﺔ ﺍﻟتي ﺗﺴﺎﻋﺪﻩ ﻋﻠﻰ ﺃﺩﺍﺀ ﻣﻬﺎﻣﻪ ﻭتمكنه ﻣﻦ تحقيق الإرادة الإلهية.
فكان ﺍﻟﻜﻮﻥ ﰲ ﺣﺎﺟﺔ ﺇلى ﺍﻟﺘﺴﺨير ﺑﺎﻟﻘﻮﺍﻧين ﻭﺍﻟﺴﻨﻦ، ﻭﻛﺎﻥ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥ فيﺣﺎﺟﺔ ﺇلى ﺍﻟﺘﺮﺑﻴﺔ ﻭﺍﻟﺘﻌﻠﻴﻢ ﻭﺍﻟﺘﻮﺟﻴﻪ، ﻓﻌَﻠَّﻤﻪ ﺟﻞ ﺷﺄﻧﻪ ﺍﻷسماء ﻛﻠﻬﺎ : (ﻭﻋﻠﻢ ﺁﺩﻡ ﺍﻷسماﺀ ﻛﻠﻬﺎ…) (ﺍﻟﺒﻘﺮﺓ: 31).(4)
والحمد لله رب العالمين.
(يتبع)
—————–
- أمين دويدار ، صور من حياة الرسول ،القاهرة :دار المعارف بمصر ،1372هـ/1953 ،ص 593 .
- أنظر كتاب التوحيد (مضامينه على الفكر والحياة) للأستاذ الدكتور إسماعيل راجي الفاروقي.
(3) ﻭﻣﻦ ﺍﻟﺬﻳﻦ ﺍﺳﺘﻌﻤﻠﻮﺍ (ﻣﺴﻠﻤﺎﺕ ﻣﺎ ﻗﺒﻞ ﺍالمنهج) ﺍلمرﺣﻮﻡ محموﺩ محمد ﺷﺎﻛﺮ في ﻛﺘﺎﺑﻪ (في ﺍﻟﻄﺮﻳﻖ إلى ﺛﻘﺎﻓﺘﻨﺎ) ﻃﺒﻌﺔ ﺩﺍﺭ ﺍلهلاﻝ.
(4) أنظر كتاب التوحيد (مضامينه على الفكر والحياة) للأستاذ الدكتور إسماعيل راجي الفاروقي.