“حكامهم أساتذة في التسخير”.. وثائق تكشف دور بريطانيا في الصحوة الإسلامية بالسعودية!
هوية بريس – وكالات
تشير وثائق لوزارة الخارجية البريطانية إلى أن لندن كانت مهتمة جدا بموجة الصحوة الإسلامية التي شهدتها السعودية في ثمانينيات وبداية تسعينيات القرن الماضي، خصوصا بعد نجاح الثورة الإيرانية في الإطاحة بالشاه حليف الغرب المقرب.
وتشير الوثائق، بحسب موقع “بي بي سي” إلى أنه في أواخر عام 1980، قررت وزارة الخارجية تحديث مراجعة أجرتها عام 1978 بشأن “الخطر الملموس” أو “التأثيرات المستقبلية الجدية” للإحياء الإسلامي على المصالح البريطانية.
نشأ تيار الصحوة الإسلامية في الجزيرة العربية بعد نجاح الثورة الإيرانية، بقيادة آية الله الخميني، في الإطاحة بنظام شاه إيران رضا بهلوي المستبد في عام 1979. ثم نما بفعل تبني علماء سعوديين بارزين لأفكاره.
وأصبحت ملامح هذا التيار أكثر وضوحا بالمملكة في عهد الملك فهد، الذي كانت تربطه علاقات جيدة مع حكومة رئيس الوزراء البريطاني جون ميجور.
وبعد تدفق القوات الأجنبية إلى الجزيرة العربية للمشاركة في حرب تحرير الكويت من الاحتلال العراقي التي انتهت رسميا في شهر فبراير 1991، زاد تأثير الصحوة، وبدأ الصراع بين رموزها والسلطة السعودية.
وكان من نتائج الصراع اعتقال عدد من قادة تيار الصحوة، الذي استقطبت أفكاره مختلف فئات الشباب السعودي عبر المحاضرات والخطب الدينية، دون محاكمة. ومن أبرز هؤلاء الشيوخ سلمان العودة وعائض القرني وسفر الحوالي.
وكلفت وزارة الخارجية البريطانية إدارتها المعنية بأن “تفعل أقصى ما بوسعها لمواصلة مراجعة تطور الاتجاهات الهامة في الإسلام، وللحفاظ على تقييم محدث دائما للآثار المحتملة لهذه الاتجاهات، وخاصة نمو ما يسمى بالتطرف، أو الأصولية، أو الإسلاميين”.
وحرصت الوزارة على التأكيد على أهمية رصد “مواقف حكومات الشرق الأوسط المختلفة تجاه هذه الاتجاهات ومدى ضعفها (في مواجهتها)”. كما أنها أكدت على السعي للتنبؤ بتأثير تلك الاتجاهات “على المصالح الغربية والبريطانية”.
وإضافة إلى نظرائه في 14 دولة إسلامية، طُلب من سير جيمس كريغ، السفير البريطاني في جدة تقرير عن حالة الإسلام في السعودية.
وفي تقريره، رأى سير جيمس أن حكام المملكة يعرفون كيف يستغلون الإسلام كمسوّغ شرعي لحماية حكمهم.
وقال إن “آل سعود أنفسهم أساتذة فن تسخير الحماس الإسلامي لتحقيق أغراض سياسية، والأغراض في حالتهم هي بقاؤهم السياسي”.
وشهد صيف عام 1992 ذروة الصراع العلني بين دعاة أنصار الصحوة ونظام الملك فهد بعد أن وقّع علماء الصحوة وأساتذة جامعيون، بمبادرة من الشيخ العودة، ما وصف حينها بـ”مذكرة النصيحة” التي وُجهت إلى الملك، وتضمنت مطالب بإصلاح شامل، في إطار الشرع الإسلامي، يتضمّن إنهاء الامتيازات الممنوحة لأفراد أسرة آل سعود الحاكمة.
وكان تقدير بريطانيا لموقف الملك فهد من هذه المذكرة، بحسب تقرير لوزارة الخارجية، هو أنه “تعامل مع الوضع بحذر مميز”. وفسّر التقرير هذا بأن فهد أراد “الحفاظ على التوازن، وتجنب مواجهة”.
وقال التقرير: “النشطاء الدينيون تجاوزوا الحد بنشر المذكرة. فهذا دفع هيئة كبار العلماء (ممثلة المؤسسة الدينية الرسمية الموالية للحكومة ) إلى إدانتها”.
بعد هجوم هيئة العلماء على أنصار الصحوة، وجه الملك تحذيرا صريحا من تدخّل “المتطرفين” في الشؤون المدنية، ومن استخدام “المنابر لإرسال رسائل سياسية”.
غير أن التقييم البريطاني الشامل للوضع في السعودية في ظلّ الصراع بين المؤسسة الدينية الرسمية الحكومية من جانب، وعلماء الدين المطالبين بالإصلاح من جانب آخر، انتهى إلى أن المملكة باتت في حاجة إلى الإصلاح.
“استعداد للإنصات”
وفي مساهمته في هذا التقييم، قال سير آلان غوردون مونرو، الذي كان سفيرا لبريطانيا في المملكة بين عامي 1989 و1993: “يجب أن نضع في الذهن أن الإسلام، ونحن في العام الهجري 1413، لم يمر بحركة إصلاحية، بل إن البعض قد يقول إن السعودية خضعت لحركة معادية للإصلاح”.
ومن واقع متابعته للوضع في المملكة، حمَّل السفير علماء الدين المؤيدين لنظام الحكم المسؤولية عن العداء للإصلاح. وقال إن “المتعصبين داخل المؤسسة الدينية (الرسمية) ما زالوا غير متقبلين لممارسة التفسير الفردي (الاجتهاد) للعقيدة من أجل تكييفها مع المجتمع الحديث. فالنسبة لهؤلاء، يقع الجزء الأعظم من سلوك الإنسان ضمن الشعائر المنصوص عليها (العبادات) ولا يتعلق بالممارسة العلمانية (المعاملات)”.
وبحسب الوثائق، فإن نقاشات البريطانيين مع السعوديين بشأن ظاهرة الإحياء الديني في المملكة قد تكثفت بعد تولي سير آلان منصبه.
وتشير الوثائق إلى أن النقاشات التي خاضها السفير مع المسؤولين السعوديين أسفرت عن أنهم مصرون على سياستهم في التعامل مع ظاهرة الإحياء الإسلامي، وأن العائلة الحاكمة طمأنت البريطانيين بأنهم “لن يرتكبوا الخطأ نفسه الذي وقع فيه شاه إيران وأسفر، في نهاية المطاف، عن الإطاحة بنظامه قبل حوالي 14 عاما”.
ويشير أحد تقارير سير آلان إلى منطق السعوديين في التعامل مع الناشطين الإسلاميين حينذاك هو أن السلطة هي التي تضع السقف الذي لا يمكن للمتشددين تجاوزه.
وجاء في التقرير أنه “في الأوقات الحالية، يقال إن العائلة تعرف كيف تتصرف مع مد وجزر الحمى الدينية، مرخية الحبل وفق ما تقضي الضرورة، فقط لتشده بحدة بمجرد أن يتخطى المتطرفون حدود التسامح العام”.
وأضاف أنه “لا يمكن أن تكون هناك مواجهة متهورة أو خلق أبطال إسلاميين، ولا حاجة لذلك. فيُنظر إلى هذا على أنه أكبر خطأ اقترفه الشاه”.
وتحدث التقرير عن “إصرار آل سعود على أنهم يتعاملون مع نواة المتطرفين الصلبة الذين يمكن عزلهم عن أنصارهم عن طريق التحذيرات، ومنعهم من الوعظ الديني، بملء المجلس الأعلى للعلماء (هيئة كبار العلماء) بشيوخ أكثر اعتدالا، ثم عزلهم (المتطرفين) جسديا كملجأ أخير”.
وبهذا الأسلوب توقّع السعوديون أنه “يمكن مرة أخرى توجيه الورع الديني الوطني، الذي لم يلوث بالتطرف، لدعم الوضع القائم”.
بعد أشهر قليلة، أثير الوضع داخل السعودية في أثناء مباحثات بين فهد وميجور خلال زيارة للأخير للرياض.
وصارح الملك ضيفه بإصراره على سيطرة الحكومة على المؤسسة الدينية بوضعها الذي يفرض عدم تدخل علماء الدين في شؤون السياسة والدولة.
وفي أحد تقاريره، قال السفير، الذي حضر المباحثات، إن “آل سعود يرون، بالتأكيد، الأمر على هذا النحو. ويقولها الملك فهد بوضوح، كما قال لميجور في شهر يناير 1993. بالنسبة له، يجب أن تكون المؤسسة الدينية الرسمية تابعة للحكومة”.
“فاتيكان الإسلام”
بعد انتهاء فترة عمله في أواخر عام 1993، كتب سير آلان تقريرا مفصلا شرح فيه الوضع السياسي والديني والاجتماعي والاقتصادي في السعودية لمساعدة صانعي السياسات البريطانية تجاه المملكة. واختار السفير “العربية السعودية: الإحياء الإسلامي” عنوانا لتقريره، الذي وُجه إلى وزير الخارجية مباشرة.
وعبّر السفير عن اعتقاده بأن للتديّن في السعودية جوانب إيجابية تخدم مصالح المملكة والغرب في الوقت نفسه؛ فهذا التدين “بجوانبه الإيجابية يوفر القوة الموحدة في هذه المملكة المترامية الأطراف”.
يروي السفير أن الملك فهد وصف المملكة، في أحد لقاءاته به، بأنها “فاتيكان الإسلام”. غير أنه رصد ما ألمح إلى أنه تناقض تعيشه السعودية بين تدين ظاهر وشكاوى من ممارسات تخالف التعاليم الإسلامية. وهذا هو، حسب رصده، أحد أسباب الاتجاهات المتطرفة التي يُخشى منها داخل المملكة وخارجها.
وقال سير آلان إن هناك “ضيقا مبدئيا داخل المجتمع السعودي يعبر عن نفسه في التدين الظاهر وفي الاتهامات المثارة بشأن الانحلال المخالف للإسلام في الإدارة وفي السياسة الخارجية. وهذا المزاج هو بشكل أساسي من نبت الداخل”.
وأكثر ما أقلق البريطانيين في هذا الوقت هو مصير حكم آل سعود في مواجهة التأثيرات التي خلفها وجود القوات الأجنبية، ومنها البريطانية، في المملكة في أثناء حرب تحرير الكويت من الاحتلال العراقي.
ولفت السفير انتباه حكومته إلى أنه بعد رحيل القوات الأجنبية “ظهر رد فعل قوي أخذ شكل سلسلة من البيانات الداعية إلى تطبيق معايير إسلامية صارمة في الإدارة العامة من أجل تنقية المجتمع من التلوث الغربي”.
ورصد تلقي هذه الدعوة “استجابة بين الشباب السعودي في الجامعات، وعلى جبهة أوسع”.
وأضاف: “جانب مهم من رسالة المتطرفين هو انتقادها الضمني لحق آل سعود في الحكم. والامتيازات التي ضمنها بعض أعضاء العائلة في مجال الأعمال الحكومية تحولت أيضا إلى قضية تغذي الاستياء، يدعمها هالة فساد في المراكز العليا، التي يتعرض بلا شك شاغلوها من الجيل الأكبر سنا من آل سعود، لموقف ضعيف يسهل نقده”.
ويكشف سير آلان أنه ناقش مع مختلف رموز النظام السعودي السياسي والأمني، جدوى سياستي القبلية والاعتقالات في مواجهة رموز الصحوة. وانتقد تهديد النظام بمثل هذه السياسات ووصفها بأنها “خرقاء”.
وفي تقريره ، قال السفير: “في مسعى أخرق آخر لمواجهة رسالة الإسلاميين، دخلت الحكومة النقاش عبر شرائط الكاسيت عن طريق رعاية توزيع الشرائط التي تتضمن مواعظ ذات نبرة أكثر اعتدالا. وتم إيضاح أنه لو تدهور الوضع، حينئذ فسوف يكشر آل سعود عن أنيابهم مرة أخرى، حيث إنهم يستدعون ولاء القبلية البدوية لدعم سلطة النظام”.
ولمّح السفير إلى أنه صارح المسؤولين السعوديين، ومن بينهم ولي العهد في حينه الأمير عبد الله بن عبد العزيز آل سعود، بضرورة علاج جذور المشكلة وليس أعراضها فقط.
وقال إن نهج السعوديين “عفا عليه الزمن، ويعتمد على سجل الأبوية في الماضي، والتلاعب الاجتماعي، ويعالج الأعراض وليس الأسباب”.
ونصح بالسماح بـ”التعبير عن الجدل علنا”، مؤكدا أن “الطريقة البالية في قمع المنابر لن تجلب الهدوء بل تخلق فراغا يثير الاستياء”.
ونبّه إلى أن “أحد أوجه ضعف الملك فهد وجيله الأكبر سنا من آل سعود هو أنهم يخافون النقاش، خشية أن يُطلق العنان لصراع” في المملكة.
وتحدث السفير عن ما وصفه بالتعقيد المتنامي في المجتمع السعودي الفتي، الذي يحكمه كبار السن، ويحتاج، وفق تصور البريطانيين إلى نظام حكم لا يقوم فقط على “الأبوية الخيرة”.
وحذّر من أن ما يحدث في المملكة “يسمح للأفكار الإسلامية المتشدّدة بأن تملأ الفراغ السياسي”، مشيرا إلى أن “المحاباة والفساد داخل أجزاء من أسرة آل سعود توفر هدفا للنقد”.
ورأى أن “التوبيخ وإمكانية استخدام القمع سوف يشتريان الوقت لكنهما سوف يولدان الاستياء، (لذا) فإن هناك حاجة إلى سياسات أجرأ وأكثر راديكالية”.
وكان تقدير السفير أنه في الحالة السعودية “هناك علاجات متاحة لا تتعارض مع التقليد الإسلامي. وهذه العلاجات تشمل النقاش العام، صحافة أكثر حرية، حكومة أكثر انفتاحا، وتشجيعا على ريادة الأعمال وإعطاء الجيل الأصغر أهمية أكبر”.
ونبّه إلى أن هذه الخطوات “سوف تحرم هؤلاء الذين يعملون على خلق مجتمع مسلم متشدد ضيق الأفق من التأثير الذي يحققونه الآن”.
واقترح السفير العمل لدى آل سعود لدفعهم إلى تغيير سياساتهم و”طرح علاجات أوسع” لتصحيح المسار. وبرّر هذا قائلا: “مصلحتنا مرتبطة باحتواء آل سعود لأضرار التطرف والاتجاهات المعادية للغرب”. (عربي 21)