حلول شرعية لإقامة صلاة الجمعة في ظل الظروف الراهنة

12 سبتمبر 2020 14:37

هوية بريس – د.رشيد بنكيران

دلت السنة النبوية الشريفة على أن مؤسسة المسجد ركيزة أساسية من ركائز البناء الحضاري للأمة الأسلامية ولبنة ضروروية للتمكين لها، فأول عمل قام بها النبي عليه الصلاة والسلام لما قدم المدينة هو بناء المسجد. ولهذا تحظى مؤسسة المسجد في منظومة التشريع الإسلامي باهتام كبير، وإذا كان للمسجد أدوار متنوعة ورسائل متعددة فإن حديثي سيقتصر على موضوع صلاة الجمعة لما لهذا الموضوع ضرورة خاصة ترتبط بواقع الناس اليوم، فإن الاحتياط الذي أملاه الخوف من وباء كورونا نزل بثقله فلم تقم صلاة الجمعة منذ أكثر من خمسة أشهر متتالية، وإلى الله المشتكى، هو حدث لم يعرفه بلد المغرب الحبيب في تاريخه الإسلامي

صلاة الجمعة شعيرة من شعائر الله

خص الشرع صلاة الجمعة عن غيرها من الصلوات بمجموعة من التشريعات والأحكام، يتغيى من ذلك أن يجعلها شعيرة عظيمة مميزة، فقذ ذكرها الله في القرآن الكريم ودعى إليها المؤمنين، وجعلها جماعتها فريضة أسبوعية دون الصلوات الأخرى، ولا تؤدى إلا في المسجد، تتقدمها خطبة وصفها القرآن بذكر الله، وتتخللها ساعة إجابة على خلف بين العلماء في تعيينها، من صادفها وهو يدعو استجاب الله له، كما رغب الشرع في أن يأتي المسلم صلاة الجمعة هو في أحسن هيئة لباسا وترجيلا واستياكا وطيبا، وعدّ يومها عيدا للمسلمين؛ يقول النبي عليه الصلاة والسلام قال: « إِنَّ هَذَا يَوْمُ عِيدٍ جَعَلَهُ اللَّهُ لِلْمُسْلِمِينَ، فَمَنْ جَاءَ إِلَى الْجُمُعَةِ فَلْيَغْتَسِلْ، وَإِنْ كَانَ طِيبٌ فَلْيَمَسَّ مِنْهُ وَعَلَيْكُمْ بِالسِّوَاكِ » رواه ابن ماجه بسند حسن.
ولعظم هذه الشعيرة فإن بعض العلماء جعلوا يومها بعد يوم عرفة من حيث المكانة والرتبة والفضل، فالحرص على إظهار هذه الشعيرة العظمى وإقامتها مقصد شرعي لذالته ولغيره، وما كان كذلك فلا يجوز للجماعة المسلمة تركه إلى في أحوال الضرورة الشديدة القصوى بعد استنفاذ جميع السبل الممكنة لأقامتها وإظهارها.

وباء كورونا وخطة أمر الواقع بالتعايش معه

كباقي دول العالم، اجتاح المغربَ وباءُ كورونا، هذا الوباء المعدي الخطير وسريع التنقل بين العباد والبلاد، ففرض على المسؤولين أن يتخذوا تدابير وقائية احترازية تتمثل فيما يسمى بالحجر الصحي الشامل، من بينها إلزام الناس بالتباعد فيما بينهم في أماكن اجتماعهم، مما أدى في أول الأمر إلى إغلاق العديد من القطاعات غير الضرورية المرتبطة بعيش الناس من المواد الغذائية، كالمدارس والمرافق الإدارية، والمقاهي والملاعب، وكذلك المساجد وتعليق أداء جميع الصلوات فيه إلى إشعار آخر، كان ذلك حرصا من المسؤولين على المحفاظة على النفس التي هي مقدمة في هذه الحالة على أداء صلاة الجماعة في المسجد كما هو مقرر في قواعد الشرع السمح ومقاصده.
انتهت الفترة الأولى من الحجر الصحي الشامل الذي دام تقريبا ثلاثة أشهر، عُرف فيه حجم خطر هذا الوباء، ومن بينه عدد الوفيات التي تهدد المصابين به، فقدر باثنين في المائة، وهو رقم ليس بالكبير المخوف مقارنة مع ما تسببه آفات اخرى من الوفيات يوميا ليس هذا الموضع مجالا للحديث عنها.

ونظرا للمشاكل الاقتصادية والاجتماعية والنفسية التي أفرزها الججر الصحي الشامل، قررت الجهة المسؤولة بتمديد الحجر الصحي ولكن أن يكون جزئيا غير شامل، فرخصت في فتح قطاعات كثيرة بشروط معينة تضمن بعض الاحتياط الممكن من انتشار وباء كورونا، والتي تتمثل في إجبار الناس لبس الكمامة عند الخروج وتعقيم الأماكن مع فرض تباعد نسبي في أماكن تجمعهم كالمدارس والمقاهي والمعامل والمحلالت التجارية والنقل العمومي وغيرها مما هو مجال لتجمع الناس، وقد رفع شعار أمر الواقع بالتعايش مع وباء كورونا مع أخذ الاحتياطات الممكنة.

ومن القطاعات التي استفادت من هذا االإذن دور العبادة بعد إلحاح من العلماء والدعاة وعموم الناس، ففتحت المساجد الكبيرة الواسعة بعد لُأي لأداء الصلواة الخمس فيها مع شروط معينة، أهمها فرض التباعد بين المصلين لمن أراد صلاة الجماعة في المسجد بقدر معين، ولكن استثني من ذلك صلاة الجمعة الشعيرة العظمى، التي امتد تعليقها وتعطيلها دون بذل أي مجهود يذكر في اتخاذ الأسباب إلى عودة إقامتها تدريجيا، مع أن معظم الدول البعيدة والقريبة والإسلامية وغير الإسلامية انطلقت فيها صلاة الجمعة منذ أكثر من شهر ونصف بتاريخ اليوم، ووباء كورونا لا يزال موجودا فيها كوجوده فينا، وبنسبة لا تتختلف في عمومها مع ما يوجد في المغرب، وقد اتخذت تلك الدول التدابير الاحتياطية المعروفة والمقدور عليها بالنسبة لنا أيضا.

وفي ظل هذا الواقع أصبحت أسئلة قلقة تفرض نفسها عن مصير شعيرة من شعائر الإسلام، وارتفعت من جديد ـ بسبب الغفلة عنها أو التغافل عنها ـ أصوات الغيورين من العلماء والدعاة والمثقفين وعموم الناس بالمطالبة بإقامة صلاة الجمعة في المساجد.

حلول فقهية ممكنة لو صدقوا ما عاهدوا الله عليه

سبقت الإشارة آنفا إلى أن صلاة الجمعة مقصودة لذاتها ولغيرها:
ووجه أنها مقصودة لذاتها لأنها شعيرة من شعائره العظمى التي أراد الشرع أن تكون ظاهرة كظهور يوم العيد، وكذلك لإقامة ذكر الله المعين الذي خصها به كما دل عليه القرآن.

ووجه أنها مقصودة لغيرها لما فيه من اجتماع المصلين وحصول الألفة بسبب ذلك وتعلم دينهم.
ولكل من هذين المقصدين ما يناسبه لتحقيقه على وجهه الأدنى في ظل وجود وباء كورونا وأخذ التدابير الاحتياطية لأجل التقليل من شره، فإن الميسور لا يُسقَط بالمعسور، بيان ذلك:

ـ أن صلاة الجمعة وفق المذهب المالكي لا تجوز أن تقام إلا في المسجد وفق شروط معينة، أهمها عدد المصلين، فيشترط لصحتها أن لا تقل جماعتها عن اثني عشر رجلا من غير الإمام لصلاتها ولسماع الخطبتين كما هو مقرر في كتب المالكية. والمساجد التي أذنت الجهة المسؤولة لفتحها وأداء الصلواة الخمس فيها هي مساجد واسعة، تستطيع ـ رغم التباعد الاحترازي المطلوب بين المصلين ـ أن تستوعب العشرات من المصلين بل المئات، فلنفترض أن مسجدا يستوعب في الظروف العادية ألف مصل، ولأجل الاحتياط المطلوب يسمح فقط بالاستفادة من ربعه وتبقى ثلاثة أرباعه فارغة؛ أي سيستوعب حسب المسموح به مائتين وخمسين مصل، بل لوافترضنا أن مسجدا في الظروف العادية يستوعب نصف العدد المذكور (500 مصل) لكان طاقة استعابه مع الأخذ بالتدابير الاحترازية مائة وخمسة وسبعين مصل، وهو عدد كاف لأقامة شعيرة الجمعة وإظهارها وتحقيق ما قصد بالذات منها وفق التدابير الاحترازية الممكنة، ولا ننسى أن المساجد التي نتحدث عنها يتوفر غالبها على بابين على الأقل، سيخصص أحدهما للدخول والآخر للخروج، فلا يجوز والحالة هذه مع توفرهذا الميسور تعطيل شعيرة صلاة الجمعة بسبب تعذر المعسور، والمتمثل في انتظار رفع وباء كورونا وعدوة الحياة إلى طبيعتها، الذي يبدوا أن الأمر يحتاج إلى شهور طويلة أخرى .

ـ أن تحقيق المقصد الثاني من مقاصد صلاة الجمعة يدفعنا أن نقرر أن تعدد صلاة الجمعة في المصر الواحد أو المدينة أو القرية الواحدة هو على خلاف الأصل، فجمهور العلماء يذهبون إلى عدم جواز تعددها إلا عند الضرورة والحاجة الملحة، ومنهم المالكية كما قرره شراح متن خليل وغيره من كتب المالكية ، ولولا تقدير هذه الحاجة الملحة للزم جميع سكان المدينة مثلا أن يصلوا في مسجد واحد، وهو أمر يعلم الآن استحالته لكثرة المصلين وشساعة مسافة المدينة وغيرها من الأعذار الشرعية والضروات المرعية التي بنوا عليها العلماء القول بجواز تعدد صلاة الجمعة في المدينة الواحدة على خلاف الأصل.

هذه الضرورات المرعية، أو فقه الضرورة يدعونا ـ في ظل وجود وباء كورونا ـ أن نخالف الأصل مرة أخرى ونفتح باب تكرار صلاة الجمعة في المسجد الواحد وفق ضوابط وشروط فقهية مؤصلة، تتمثل في زيادة الترغيب في قصر الخطبة والصلاة، وفي التنبيه على أن وقت صلاة الجمعة يمتد إلى صلاة العصر وأكثر، والتذكير بحرمة إعادة صلاة الجمعة للإمام وكراهتها للمأموم، وقد تصل هذه الكراهة إلى التحريم في ظل الظروف الخاصة التي تعيشها البلاد، فإن علماء المالكية قالوا بكراهة إعادة الجمعة والجماعة للمأموم في الظروف العادية، أما في ظل احتياج الناس لمكان في المسجد لأداء صلاة الجمعة بسبب عدم استغلال طاقة المسجد الاستعابية خوفا من انتشار الفيروس فقواعد المذهب تأذن برفع كراهة التنزيه إلى كراهة التحريم لمن صلها وأراد أن يعيدها نافلة.

والغرض من فتح هذا الباب وبيان هذه الأحكام هو التمكين لأكبر عدد ممكن من المسلمين أن يؤدوا فريضة صلاة الجمعة وينالوا بركتها وخيرها، فتصلى صلاة الجمعة مرتين أو ثلاث في المسجد الواحد وفق ما تمليه الظروف والمصلحة، ويتحقق المقصد الثاني من تشريع صلاة الجمعة.

ولو افترضنا أن هذا الحل يصعب تنزيله ـ وهو ممكن لمن كان حريصا عليه ـ فإن الحل الأول ميسور بدرجة كبيرة، مما يتيح إظهار شعيرة الجمعة وإقامتها وتحقيق ما قصد منها أصالة.

وختاما، إن الفقه الإسلامي ـ وبالأخص المذهب المالكي ـ لغني بقواعده وتراث علمائه في أن يخرج من يملك سلطة الفتوى والتنفيذ ما يمكن المسلمين في هذا البلد العتيق من إقامة شعيرة عظمى من شعائر الله، ألا وهي صلاة الجمعة الذي استحق يومها بوصف العيد بسببها.

آخر اﻷخبار
1 comments
  1. السلام عليكم،
    لا أفهم شيئا، يجب البدأ بالصلوات الخمس التي لا نصليها أيضا في المسجد فأغلب المساجد مقفلة !… فكيف ستقام شعيرة الجمعة و أغلب المساجد مقفلة ؟!…
    لا حول ولا قوة الا بالله.

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M