حليمة وعاداتها الرمضانية

15 يناير 2024 20:31

 هوية بريس – محمد كرم

 توطئة لا بد منها:  أعلم و تعلم جيدا، عزيزي القارئ، أننا مازلنا على بعد أسابيع من شهر رمضان. رغم ذلك، يطيب لي أن أبارك لك اليوم حلوله على نحو استباقي، إذ أخشى أن أجد نفسي منشغلا بأمور أخرى في الوقت الفعلي لظهور هلاله فأتخلف عن القيام بواجب التهنئة. الاحتياط واجب.

مرة أخرى، و مع اقتراب نهاية شهر شعبان، سيكسر الفلكيون المغاربة عطالتهم و سيخرجون أدواتهم للانكباب على حساب ما تبقى من أيام و ساعات على حلول شهر رمضان الكريم غير عابئين بالنقاش المحتدم و اللاعلمي الذي عادة ما يجمع بين الفاهمين و أشباه الفاهمين بخصوص ما إذا كان صيامنا سينطلق هذه السنة مع صيام الحوثيين أم مع أهل الشيشان القوقازيين… إلى أن يأتي حسم اللغط الرائج بصدور بلاغ وزارة الأوقاف و الشؤون الإسلامية الذي لم يطرأ على طريقة صياغته و مضمونه الأساسي أي تغيير مذ كان المغرب جزءا من المكسيك و كانت المكسيك جزءا من المغرب و كأن الأمر يتعلق بمطبوع جاهز بفراغات تستوجب الملء فقط.

و مرة أخرى، ستنهال علينا التهاني و التبريكات من الصادقين من الأحباب و الأصدقاء و المعارف السطحيين و حتى من المنافقين منهم  و خاصة عندما نكون من ذوي المناصب الدنيوية المؤثرة (!!!) و ستعرف البطاقات و الفيديوهات الإلكترونية الجاهزة رواجا استثنائيا في زمن تكاد تندثر فيه الإبداعات الإنشائية الشخصية حتى في أبسط المواضيع و حتى في صفوف حاملي أعلى الشهادات.

ومرة أخرى، سنجد ضمن المهنئين المبشرين والمتفائلين من لن يدع الفرصة تمر دون تذكيرنا بعذاب القبر وسبل تفاديه.

ومرة أخرى، ستغلق الحانات أبوابها لإعطاء فرصة للسكارى للنظر إلى العالم من زاوية مختلفة … ولو لمدة شهر واحد.

و مرة أخرى، ستكون هواتف الكثير من عيادات الأمراض المزمنة خارج الخدمة، و كل من يلح على استشارة طبيب معين طمعا في الحصول على رخصة الصيام مهما كانت حقيقة وضعه الصحي ما عليه إلا أن يتوجه إلى عيادته شخصيا و بدون موعد مع الاستعداد لانتظار دوره حتى خارج العيادة و مع التسلح بالصبر و خاصة عندما يكون الخبير المراد استشارته يعاني هو نفسه من المرض نفسه !!

و مرة أخرى، سيستحيل النهار ليلا و الليل نهارا في حياة الكثيرين ضدا على الطبيعة و نواميسها و في تحايل مفضوح على جزء من مقاصد ركن الإسلام الرابع و ذلك حتى يمر هذا الشهر الفضيل بأقصى قدر ممكن من السلاسة و بأقل جهد ممكن.

و مرة أخرى، لن يهمنا التقويم الميلادي على امتداد أربعة أسابيع و سينصب تركيزنا على التقويم الهجري في المقام الأول مع إيلاء أهمية خاصة لتوقيتي صلاتي الفجر و المغرب.

و مرة أخرى، سيتحول عالمنا إلى قاعة انتظار ضخمة تتوسطها ساعة حائطية كبرى تستقطب كل الأعين و تذكرنا باستمرار بعدد ساعات و دقائق الحرمان الغذائي المتبقية على حلول موعد الإفطار.

و مرة أخرى، ستستفيد النساء من هدنة نهارية تقيهن شرور المتحرشين المتربصين  و العابرين.

و مرة أخرى، ستمتلئ المساجد عن آخرها لما فيه مصلحة “أصحاب الديسير” الذين يعرفون جيدا أوقات كل الصلوات و إن كانوا لا يصلون في الغالب.

و مرة أخرى، سيطفو إلى السطح الجدال السنوي حول مشروعية الإفطار العلني. و مرة أخرى، لن يحسم الجدال و سيتم تأجيل الخوض في الموضوع من جديد إلى رمضان الموالي.

و مرة أخرى، ستنتصب الرادارات الآدمية لرصد من يصوم بالفعل و من يتظاهر بالصيام فقط، و من يواظب على صلاة التراويح و من يفضل متابعة جديد الدراما المغربية و العربية و ذلك في أفق ترتيب الجزاءات “القانونية”.

و مرة أخرى، سيندم السياح النصارى على اختيار هذه الفترة بالذات من السنة لقضاء عطلتهم ببلد مسلم حيث أن الأجواء العامة السائدة خلال النهار ستقلص حتما من درجة استمتاعهم بالتواصل مع الأهالي و من درجة ملامستهم  لمؤهلات البلاد و خصوصياتها، بل منهم من سيجد صعوبة حتى في إفراغ متانته بالشارع العام بحكم الإغلاق الذي يطال كل المقاهي و المطاعم خلال هذا الشهر و بحكم الغياب شبه المطلق للمراحيض العمومية بكل مدن المملكة.

و مرة أخرى، ستستقبل مخافر الشرطة أفواجا محترمة من “المقطوعين”  الذين يجدون أنفسهم أحيانا متورطين في جرائم مجانية لأتفه الأسباب.

و مرة أخرى، سيتخذ البعض من السفر عبر الطرق السيارة أو “البراق” أو الطائرة ذريعة للإفطار.

و مرة أخرى، ستتراجع الإنتاجية بكل القطاعات لأن البطن الجائع هو بطن ثائر بالضرورة و بلا أذنين و لا يهمه لا حجم الإنتاج و لا الأرقام المرتبطة بالصادرات و الواردات و لا المنحى العام لمؤشري “مازي” و “مادكس”. (المغاربة لا يشبهون البشاعة الحادة بالجوع عبثا !!)

و مرة أخرى، سيكون هناك من يذكرك بأن التطيب بالعطور حرام خلال ساعات الصيام و بأن هذه الخطيئة موجبة للعقاب في الدنيا قبل الآخرة.

و مرة أخرى، سيتفضل خبراء التغذية و ثلة من الأطباء و أشباه الأطباء بتذكيرنا ـ عبر كل الوسائل المتاحة اليوم ـ بالطريقة المثلى لتحقيق توازن غذائي خلال هذا الشهر الاستثنائي، و منهم بالطبع من سيحاول إقناعنا بأن تمرة واحدة و نصف “زلافة” من شوربة الخضر كافيان كوجبة إفطار، و بأن ربع رغيفة صغيرة و رأس سمكة كافيان كوجبة عشاء، و بأن ثلث “بطبوطة” و كأسا محترما من الشاي كافيان كوجبة سحور… مع وجوب الإكثار من شرب الماء.

و مرة أخرى، سيبدي المغاربة قدرة فائقة على الجمع بين طحن الأطعمة و متابعة السيتكومات الرمضانية و حصص الكاميرا “المفروشة” و طوفان الوصلات الإشهارية التجارية دون أن يكون لذلك أدنى تأثير لا على صفاء ذهنهم  و لا على درجة استمتاعهم بما هو متاح من مأكولات و مشروبات و لا على سلاسة عمل معدتهم و أمعائهم.

و مرة أخرى، سيجتهد عدد من العاطلين و المتقاعدين في قتل الوقت، و قد يلتجئون إلى كل أنواع المبيدات الممكنة بما فيها النوم المطول و الاستعمال العشوائي للمحمول و التلفزيون و السير وراء جنائز المجهولين و التجمهر حول حوادث السير و حضور جلسات المحاكم حتى و إن كانوا غير معنيين بها لا من قريب و لا من بعيد.

و مرة أخرى، ستتحول شوارعنا قبيل موعد الإفطار إلى حلبة لسباق السيارات و الدراجات و كأن هناك آية قرآنية أو حديث نبوي أو فتوى دينية تفيد بإلزامية التسمر حول مائدة الأكل في الموعد المحدد لرفع أذان صلاة المغرب أو انطلاق صوت “الزواكة” … و إلا اعتبر الصيام لاغيا.

و مرة أخرى، سيشهد التاريخ بأنه إذا كان الجزائريون أبطالا في الوفاء بركن الحج، و إذا كان الموريتانيون أبطالا في أداء ركن الصلاة، و إذا كان الليبيون أبطالا في إخراج الزكاة، و إذا كان التونسيون أبطالا في التفوه بالشهادتين، فإن المغاربة لا يغفرون لمن تسول له نفسه إفطار رمضان … و لو كان على طاولة العمليات بمستشفى زايد أو بمستشفى ابنه خليفة !!

و مرة أخرى، ستختلف مواضيع النهار التي ستعج بها مواقع التواصل الاجتماعي عن مواضيع الليل (مع التذكير بأن أخلاقيات التعاطي مع هذه الوسائل تستوجب التفرغ للمواضيع الليلية بعد صلاة التراويح طبعا و ليس قبلها).

و مرة أخرى، و مع دنو نهاية الشهر الكريم، ستتناسل المعطيات الفلكية بخصوص اليوم المتوقع للاحتفال بعيد الفطر السعيد و سيحتدم النقاش من جديد بين من يعتقدون بأن عيدنا سيتزامن هذه السنة مع عيد الليبيين التابعين للمشير خليفة حفتر و بين من يعتقدون بأن توقيت عيدنا لن يختلف عن توقيت عيد السودانيين التابعين للفريق أول عبد الفتاح البرهان … إلى أن يقطع بلاغ الجهة المعلومة الشك باليقين.

و مرة أخرى، سيظهر الزمار على شاشات القنوات التلفزيونية العمومية لدقيقة أو دقيقتين إيذانا بالعودة الوشيكة لإيقاع الحياة الأساسي، و سيشرع شلال بطاقات التهاني الجاهزة في التدفق من جديد، و سيعاد فتح الحانات، و ستفرغ المساجد من “كليان” رمضان، و لن تجد “الحريرة” من يسأل عنها لمدة قد تطول و قد تقصر، و سيهمش التقويم الهجري تاركا مكانه للتقويم الميلادي العالمي  … و ستعود حليمة إلى عاداتها القديمة.

 

ملحوظة ختامية : هذا المقال ما هو في الواقع سوى دعابة الغاية منها أخذ استراحة من الأخبار الواردة من غزة و ما يرافقها من صور التدمير و التقتيل و التنكيل و التشريد و مشاهد النحيب و الدموع و الأطراف المبتورة و الدماء المراقة و صيحات النساء و الأطفال (و حتى صيحات الرجال) المرسلة مباشرة إلى السماء دون المرور لا عبر “جامعة التنديد العربية” و لا عبر “مجلس الرعب الدولي”.

ألا يقولون بأن شر البلية ما يضحك؟

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M