حل ملف الصحراء المغربية.. الفرح المنكد بالخوف

حل ملف الصحراء المغربية.. الفرح المنكد بالخوف
هوية بريس – إبراهيم الطالب
خمسون عاما هي عُمر صراع مفتعل جثم على قلب مغرب ما بعد الاستقلال، صراع غذته الأيديولوجيا، ولم تفصل فيه الأمم المتحدة التي صنعته دولها الإمبريالية أصلا، رغم وضوح الأدلة والوقائع التاريخية، وكيف يكون لهذا الصراع حل لدى من صنعه ورعاه واستغل كل فصوله، ذلك وفرنسا وبريطانيا اللذان قسمتا الدول الإسلامية هما واضعَتا خريطة سايس وبيكو، قبل أن تدخل أمريكا المجال الأوربي والإسلامي لتهيمن على أحوال الأمة الإسلامية بعد عقود حربها الباردة مع الاتحاد السوفييتي، هذه الحرب التي كانت دائما باردة في بلدانهم، لكنها ساخنة في أقاليمنا الإسلامية، ومنها الصراع المفتعل في صحرائنا المغربية، التي ما كانت لتعرف هذا الوضع لولا أفكار القذافي وجمال عبد الناصر وبومدين ذات النزعة الاشتراكية الحمقاء التي كانت تريد إسقاط الملكيات التائهة التابعة لليبرالية لا زالت تخترق البلاد وعقول العباد حتى صيرت الجميع أفواها تلتهم وأمعاء بطول وعرض كوكب الأرض.
باسم الثورة سقطت ملكيات، وباسم الثورة مزقت الجغرافيا وانشرت النار والدمار، ليخلد الجميع بعد انتهاء الحرب الباردة لأمم أمريكا لتشرع اليوم في المساومة وتبيع للناس حقوقهم المنهوبة، فهكذا هي السياسة في عالم “أمم متحدة” ضد الفقراء والمظلومين والبائسين؛ سياسة لم تقطع مع الإمبريالية التي تعتمد أساسا على استغلال الدول ونهب خيراتها، وهذا ما يجعلنا فعلا نطرح السؤال:
إلى أين يتجه ملف الصحراء المغربية بعد القرار 2797؟
وقبل الجواب نلقي نظرة خاطفة على مضمون القرار واتجاهه العام، حيث اعتمد مجلس الأمن القرار 2797 بعد إحرازه لـ11 صوتا مؤيدا له، وثلاثة أصوات امتنعت (الصين وروسيا وباكستان)، فيما لم تُشارك الجزائر في التصويت، القرار تضمن تمديد مهمة المينورسو حتى 31 أكتوبر 2026، مع طلب مراجعة استراتيجية خلال ستة أشهر.
وأهم ما جاء به القرار هو ما اعتبر أنه تصفية نهائية للملف العالق منذ عقود، والمتمثل في تأكيده بشكل واضح على أن خطة الحكم الذاتي التي تقدم بها المغرب تُمَثل قاعدة “جدّية وواقعية” للنقاش، وقد فُسر هذا عمليا على أنه موقف واضح يدفع نحو مسار تفاوضي على أساس الحكم الذاتي مع تقليص هامش خِيار الاستفتاء.
ولا يخفى أن هذا الموقف الجديد لمجلس الأمن كان برعاية أمريكية وأن التصويت عكس تحوّلا في مقاربة المجلس لصالح الحل الذي تقدمت به الرباط، حيث سبق أن أكدت واشنطن، على لسان وزير الخارجية الأمريكي (ماركو روبيو) في 8 أبريل 2025، أن “الولايات المتحدة تعترف بسيادة المغرب على الصحراء وتعتبر الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية الحل الوحيد القابل للتطبيق”؛ كما أعاد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في 2 غشت 2025 تثبيت هذا الموقف.
إذن فالمسار الأقرب إلى الواقع والذي سيعرفه ملف الصحراء المغربية هو مفاوضات في “إطار الحكم الذاتي”، مع بقاء “الاستفتاء” شعارا تفاوضيا أكثر منه مسارا عمليا، وهنا تُبْقي دول مجلس الأمن لنفسها الوقت والإمكانية لاستغلال الوضع الجديد وابتزاز المغرب ما أمكن، حتى تحقق الاستفادة القصوى من ملف تركته عالقا منذ نصف قرن ليستعمله المتغلب يوما ما، ويبدو أن هذا اليوم قد اقترب، خصوصا مع هذا الصراع الدولي بين المعسكر الصيني والروسي والمعسكر الأمريكي والبريطاني والأوروبي.
فماهي المحاذير التي تلتف بوضع ما بعد قرار مجلس الأمن؟
هناك مجموعة من المحاذير نذك منها:
أولا- “الاستغلال الغربي” للمغرب في عمقه الإفريقي بحيث تحوله إلى مجرد “شرطي إقليمي” يصبح المعول عليه أمنيا وحدوديا في النيابة على الغرب في محاربة الهجرة الإفريقية نحو الشمال، واستعماله مجرد بوابة لا شريكا في بناء قارة نخرها الاستغلال الغربي منذ بداية الحملات الإمبريالية إلى اليوم.
ثانيا- التخوف من سقوط المغرب في ملعب التنافس بين واشنطن/أوروبا مع موسكو وبكين في الساحل، واستغلال الخصومات مع الجارة الجزائر، لإشعال حرب استنزاف ستحول دون الاستفادة من خيرات الأقاليم الصحراوية المغربية، وقد تضمنت شيئا من هذا بشكل مبطن تصريحاتُ واشنطن التي تحدثت عن تسريع “سلامٍ إقليمي هذا العام”، وكذلك دعمها لصدور النص الأممي يوحي باشتغالها على ملفٍ ترتبط فيه ثلاث عناصر: الصحراء-الجزائر-الساحل.
ثالثا- التخوف من آثار تدويل الاستثمارات في الداخلة وملفات الطاقة الخضراء، والمشاريع الكبرى (ميناء الداخلة الأطلسي، والهيدروجين الأخضر) حيث تجذب هذه الأخيرة رؤوس أموال غربية، لكنّ شروط التمويل والحوكمة البيئية/الاجتماعية قد تتحول إلى أدوات نفوذ، تضعف السيادة المغربية وتتيح للشركات المتعددة الجنسية أن تتحكم في الاقتصاد المغربي بشكل مباشر يمنع وصول الثروة إلى خزانة الدولة ومن ثم يتعمق الفقر وينتشر الاستغلال لليد العاملة المغربية بدل أن يرتفع المستوى المعيشي للإنسان المغربي ويحدث النمو والتقدم، فترتفع البلاد إلى مستوى يليق بتاريخ الأمة المغربية.
خامسا- الربط السياسي لتنفيذ القرار وتأييده على أرض الواقع بالتطبيع، حيث ستستفحل هيمنة الرأسمال الصهيوأمريكي على الاقتصاد المغربي، وما يستتبعه من هيمنة ثقافية وسياسية واقتصادية، كما يرتبط بهذا المحذور ربط ملف حل القضية بالملفات الإقليمية مثل: سياسات الهجرة، وتموضع النفوذ الغربي في دول الساحل، الأمر الذي ينتج عنه مقايضات غير مريحة.
هذه المحذورات وغيرها تدفع بقوة نحو الحزم، وتقتضي العمل على تجنّب الارتهان للرؤية الأمريكية لمستقبل القارة الإفريقية، التي يُعتبر المغرب من أكبر الدول المؤثرة فيها، وذلك عبر تنويع الشركاء، وتثبيت أساس قانوني وتجاري متين للسلع القادمة من الأقاليم الجنوبية داخل أوروبا، وتحديد هوامش الدور الأمني بالمجال الإفريقي.
هذه المحاذير تجعلنا نطرح السؤال التالي:
أي مستقبل للمغرب ضمن رهانات أمريكا والقوى الاقتصادية الكبرى؟
هناك سيناريو صعب يتمثل في اختراق تفاوضي مفترض ستعمل عليه أمريكا التي لا تؤمن إلا بالربح المبني على الاستغلال لكل نقط الضعف، والتي تعتري شركاءها قبل أعدائها، فأمريكا بقيادة ترامب هي مجرد شركة “إمبريالية” كبرى لا تعرف المنافسة الشريفة ولا الاحترام المتبادل وهذا واضح ممَّا رأيناه في تدبيرها لعلاقاتها مع الدول الإسلامية وخصوصا العربية خلال السنوات الأخيرة.
وبخصوص ملف صحرائنا، فلا شك أن الموقف الأمريكي قد عرف تحولا هاما بعد قبول المغرب بإعادة ربطه للعلاقات مع الكيان الغاصب، وهنا مكمن الخطر لأن هذا الأخير يعمل بالشراكة مع أمريكا على إعادة رسم خريطة العالم الإسلامي حتى تستجيب لمخططاته في إنشاء إسرائيل الكبرى كما هو معلق في الكنيست منذ ما يناهز 80 سنة، والتي هي جزء من جغرافيا الشرق الأوسط الكبير الذي يقع المغرب في جانبه الغربي وفق الخرائط والمفاهيم التي بدأت في تنزيلها أمريكا منذ 2004.
لذا حق لنا أن نتخوف ونحذر، خصوصا أن التحول في الموقف الأمريكي حصل بعد أحداث الكركرات والتحرش السافر بالتجارة المغربية ومحاولة سد الطريق على المغرب بالاستيلاء على معبر الكركرات الذي يعتبر شريان المبادلات التجارية بين المغرب ودول غرب إفريقيا؛ فبعد أحداث الكركرات وتجديد التوتر شرق الجدار الدفاعي بين المغرب وجبهة البوليساريو، أصبحت واشنطن أكثر وضوحا في دعمها للاستثمارات الأمريكية والمغربية في الأقاليم الجنوبية، مؤكدة أن الشركات الأمريكية مدعوة للعمل في كامل التراب المغربي بما فيه الصحراء.
وفي دجنبر 2020، وبعد إعلان “تطبيع” العلاقات بين المغرب وإسرائيل، أعلنت الولايات المتحدة رسميا أنها تعترف بسيادة المغرب على كامل أراضي الصحراء الغربية، الأمر الذي جعل موقف أمريكا يبدو بمثابة جزء من صفقة التطبيع، التي هي من لوازم بناء شرق أوسط جديد وكبير ترأسه دولة الكيان.
لذا فالغالب على الظن أن المفاوضات بين المغرب وغرمائه ستكون تحت رعاية أمريكية ستفرض خطة “الحكم الذاتي الموسّع” في مسار دبلوماسي للأمم المتحدة، يعتمد أساسا له: “الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية” كإطار للتفاوض الرئيسي، مع محاولة تقليص خيار الاستفتاء المستقل.
وأما الجشع الصهيو أمريكي فإن العاقل عليه أن ينظر إلى القرار الأممي 2797 على أنه ليس تصفية لملف الصحراء المغربية، بل هو بداية له، فحجم التحديات التي تواجه المغرب في إدارة وضع الأقاليم الجنوبية بعد اعتماد القرار الأممي 2797، مهم جدا، وقد تطرقنا لجملة من التحديات، وهناك أخرى كثيرة يزيد من حدتها:
1- غياب أو قلة الشركات الكبرى المواطنة التي تقدم مصلحة البلاد والمغاربة على مصالح أربابه، والتي يمكن للمغرب أن ينافس بها الشركات المتعددة الجنسية التي ستحل بالأقاليم الصحراوية المغربية.
2- انتشار الفساد السياسي والإداري وضعف الأداء الحكومي وانسداد أفق الإصلاح.
3- الاضطراب الهوياتي للسياسات العمومية بين اقتصاد السوق والليبرالية المحكوم بعلمانية “شِبه” متسترة، وبين مرجعية أصيلة للبلاد والحكم والعباد والمتمثلة في المرجعية الإسلامية.
4- ارتباط الاقتصاد المغربي بسياسات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، التي ستحول دون الاستفادة الحقيقية من الخيرات والقدرات، التي يمكن أن يجنيها المغرب من حل ملف صحرائه.
5- تفكك البنيات الاجتماعية والثقافية والعلمية وضعف النخب المنظرة في المجالات المختلفة والتي تشكل الأساس في كل نهضة اقتصادية واجتماعية وسياسية، حيث يعرف المغرب إفلاسا على مستوى التنظير والتفكير في الحلول الكفيلة بانتشال المغرب من وهدة التخلف والفقر، هذا الوضع سيجعل الدولة مضطرة إلى اللجوء للمراكز البحثية والمؤسسات الغربية لوضع السياسات العمومية والاستراتيجيات الكبرى لمغرب ما بعد قرار 2797.
إن القرار 2797 بقدر ما يفرح كل مغربي يجعل كل عاقل يتخوف من المرحلة القادمة فالخطر ليس في “الدعم الغربي” في حد ذاته ولا في الشراكات المرتقبة، بل في الشروط اللامكتوبة التي ستفرض على المغرب وأخطرها التي ستوضع في شكل مقايضات، ويليها من حيث الخطورة الشروط القانونية والمالية والوظيفية، التي ستتحدد خلال المفاوضات، والتي إن لم تُدَر بذكاء وحزم وقوة، فسنعيد مأساة ما بعد مفاوضات إيكس-ليبان 1955 و”لا سيل سان كلو” نونبر من نفس السنة، والتي بموجبهما، -وما تلاهما من مفاوضات الحكومة الانتقالية ساعتها-، دخلنا في استقلال توافقي ظالم لا نزال نعيش آثاره على كل الأصعدة إلى يومنا هذا.
لذا فالمغرب محتاج اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى كل أبنائه من عموم المغاربة ونخبهم وعلمائهم والنزهاء من سياسييهم ومفكريهم، لحماية البلاد من الاختراقات المقبلة والمحدقة بالبلاد، فما يحققه الغرب بالاقتصاد والمال والأعمال لا يحققه بالسلاح والتدمير والقتل، هكذا يشهد التاريخ.
وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم.



