أي حزب سيختار المواطن الأمريكي في الانتخابات الأمريكية، أو بالأحرى أي رمز انتخابي سيختار، حمار الديمقراطيين، أم فيل الجمهوريين؟ قد تكون تعرف هذه الرموز الانتخابية، لكن هل تعرف سر اختيارها؟
لنفهم الأمر دعنا نرجع بالزمن قليلاً إلى الوراء لنفهم أهمية “الحيوان السياسي” في جلب الحظ للأحزاب الأمريكية.
في العام 2008، حضر حمار يُسمّى موردخاي (كما أسماه مالكه كورتيس إمري) مؤتمر الحزب الديمقراطي في مؤتمره بمدينة دنفر في ولاية كولورادو الأمريكية، وكان من المقرر أن يكون موردخاي أول تميمة حظ رسمية حية في تاريخ الحزب الديمقراطي.
قطعاً لم يكن ليُلقي الحمار خطاباً أمام الحزب، غير أنّ الديمقراطيين كانوا يأملون أن يتيح وجوده بعض اللحظات المبهجة خلال المؤتمر الوطني الديمقراطي. وقد أثار حضور الحمار تساؤلات الأمريكيين حول ما إذا كان الحزب الجمهوري سيقدم نظيراً حياً يجسّد شعار الحيوان الخاص به، وهو الفيل، في مؤتمر سبتمبر بمدينة مينيابوليس بولاية مينيسوتا.
وجود موردخاي في المؤتمر الوطني الديمقراطي أثار تساؤلات أخرى منطقية آنذاك. من أين جاء هذان الرمزان؟ لماذا قرر الديمقراطيون الارتباط بحيوان من فصيلة الخيل كثيراً ما يكون موضع سخرية واستهزاء؟ وكيف أصبح حيوان بأنياب عاجية وجلد سميك يمثّل الجمهوريين، حزب السياسة الاجتماعية والمالية المحافظة؟
حمار الديمقراطيين
لفهم أصل الحمار باعتباره رمزاً للحزب الديمقراطي، ينبغي أن تعرف القليل عن السياسة في العصر الذي عاش فيه رسام الكاركتير الذي ابتكره، وهو توماس ناست، أحد أشهر رسامي الكاريكاتير السياسي في أمريكا (له أصول ألمانية).
رسام الكاريكاتير الشهير الذي ربط الحمار بالحزب الديمقراطي احتقر “ديمقراطيي السلام”، أي الديمقراطيين المناهضين للحرب الأهلية الأمريكية (بين عامي 1861 – 1865). إذ كان المناهضون للحرب منذ البداية ديمقراطيين شماليين، وكان ناست يرى أنّهم عنصريون مناهضون للاتحاد، وأصبحوا بارزين ومؤثرين أكثر مما ينبغي في الشمال.
وفي أول رسمة كاريكاتورية له يظهر فيها الحمار، نُشرت عام 1870، صوّره ناست كحيوان يركل أسداً ميّتاً. ووصف ناست الحمار بأنه صحافة السلام (المناهضة للحرب) والأسد بأنه إدوين ماكماسترز ستانتون، الذي شغل منصب وزير الحرب في إدارة أبراهام لينكون الذي كان قد توفي للتو آنذاك.
وكان الرسم الكاريكاتوري بمثابة رؤية سلبية عن الصحافة الديمقراطية التي أساءت معتقداتها المستمرة المناهضة للحرب إلى ستانتون في رأي ناست، وفق السرد التاريخي الذي أورده موقع HowStuffWorks الأمريكي.
ثم ظهر استخدام ناست التالي للحمار في الكاريكاتير الذي نُشر عام 1874 رداً على نداءات الديمقراطيين بالقيصرية (Caesarism) ضد الرئيس الجمهوري يوليسيس غرانت. وكان يُعتقد أن الرئيس الأمريكي الجمهوري يوليسيس غرانت يسعى إلى فترة ولاية ثالثة، وقارنه الديمقراطيون بيوليوس قيصر، فأظهروه في صورة دكتاتور جشع يحاول ممارسة السلطة الإمبريالية.
اعترض ناست على تلك الادعاءات. وفي رسمه الكاريكاتوري الذي نُشر في السابع من نوفمبر عام 1874، بعنوان “هلع الفترة الثالثة Third Term Panic”، أظهر ناست الصحافة الديمقراطية، وتحديداً صحيفة New York Herald الأمريكية، في صورة حمار يرتدي جلد أسد.
كان الحمار، الذي كُتب عليه “Caesarism”، يخيف الحيوانات الأخرى وسط حالة من الفوضى. وكان الكاريكاتير يمثل ما شعر به ناست إزاء وسائل الإعلام الديمقراطية التي كانت تعتمد على إشاعة الفزع، فقد ظهروا كحيوان مفترس ولكنهم في الواقع كانوا حمقى ولا ضرر منهم بسبب ذعرهم.
ومع أنَّ حمار ناست كان يمثل انتقاداً آخر لأعضاء بعينهم في صحافة الديمقراطيين، وليس الحزب ككل، ظل الرمز مرادفاً للديمقراطيين. واستمر رسَّام الكاريكاتير في استخدام الرمز، بما في ذلك رسم كاريكاتيري عام 1879 يظهر فيه مرشح رئاسي ديمقراطي بارز وهو يسحب حماراً كُتِب عليه “الحزب الديمقراطي” من ذيله.
كان المرشح يحاول منع الحمار من الاندفاع نحو حفرة كُتِب عليها “الفوضى المالية”. وكان الرسم تعليقاً على مسألة الغطاء الذهبي والتضخم عشية انتخابات 1880. وبحلول العقد اللاحق، جعل استخدام ناست للحمار من هذا الأخير رمزاً للديمقراطيين، ولو أنَّ الحزب الديمقراطي لم يتبنّ هذا الحيوان رمزاً له قط.
وفي هذا الرسم الكاريكاتيري الذي يُصوِّر سياسياً يمسك بذيل الحمار الديمقراطي، يظهر الرمز السياسي الشهير الآخر لناست، الفيل الجمهوري، طريحاً على الأرض مصاباً وراقداً في الخلفية.
وفي حين كان الحمار الديمقراطي في العموم رمزاً لحزبٍ من الحمقى الناهقين في نظر ناست، كان للفيل الجمهوري قصة أخرى. فهو يرمز لحزبٍ تخلّى عن جذوره الليبرالية الاجتماعية، التي كان يُفضِّلها ناست.
فيل الجمهوري
تماماً كما هو الحال مع الحمار، أصبح الفيل رمزاً شائعاً من خلال الرسوم الكاريكاتورية السياسية لناست. لكنَّ ناست كانت لديه مشاعر مختلفة تجاه الفيل؛ إذ كان يمثل الحزب الذي أحبّه منذ ظهوره في المشهد السياسي لنيويورك. وكان يكمن خلف أداءاته التصويرية قناعات جمهورية قوية. لكنَّ ناست بات مُحبَطاً من الجمهوريين في العقد التالي لعام 1870، حين شعر أنَّ الحزب ابتعد عن الليبرالية الاجتماعية. وسيُولِّد هذا الإحباط، جزئياً، صورة الفيل الجمهوري.
كان الفيل قد استُخدِم مرتين من قبل كرمزٍ سياسي، إحداهما في مقالة متعلِّقة بأدبيات حملة لينكولن عام 1864، ثم استُخدِمَت مجدداً في مجلة Harper’s Weekly عام 1972. وظهر أول استخدام من ناست في نفس الرسم الكاريكاتيري “Third Term Panic” عام 1874 الذي أظهر حماراً مُقنَّعاً يطارد حيوانات خائفة.
وكان فيلٌ مكتوب عليه “التصويت الجمهوري” يقترب بتثاقل من حفرة كُتِب عليها “التضخم” و”الفوضى”. كان الفيل يمثل آثار تكتيكات التخويف من جانب الديمقراطيين المناهضين للحرب الأهلية، فضلاً عن عملاق “البهيموث” المرتبك الذي شعر ناست أنَّ الكثير من الجمهوريين والناخبين الجمهوريين باتوا يشبهونه.
وبعد كاريكاتير “Third Term Panic”، استمر ناست في استخدام الفيل لتمثيل الجمهوريين. فأظهر رسمٌ يعود إلى أبريل 1876 بعنوان “The Political Situation” (الوضع السياسي) العم سام مرتبكاً، وقد كُتِب عليه “تصويت الشعب”، وهو يمتطي فيلاً ذا رأسين مضطر للاختيار بين “الطريق الديمقراطي” و”الطريق الجمهوري”. وأظهر رسماً آخر نُشِر قبل الانتخابات الرئاسية لعام 1876 فيلاً جمهورياً ضخماً يدهس نمراً ديمقراطياً.
جاء أول رسم كاريكاتيري لناست يستخدم فيه الفيل للتعبير عن الحزب الجمهوري ككل في مارس 1877. فعقب الانتخابات الرئاسية المثيرة للجدل بشدة، رسم فيلاً مكدوماً ومُنتَهَكاً جاثماً أمام شاهد قبر للحزب الديمقراطي.
يشير الفيل المريض إلى اعتقاد ناست بأنَّ انتصار الجمهوري رذرفورد هايز، على الرغم من خسارة التصويت الشعبي، كان انتصاراً مريراً ومُضِرّاً. بل وفي رسمٍ كاريكاتيري عام 1884، اعتبره ناست “الفيل المقدس”، رمز الحنين إلى الحزب الذي كان يحبه ذات مرة.
وبعكس الحزب الديمقراطي، تبنّى الحزب الجمهوري في نهاية المطاف الفيل باعتباره الرمز الرسمي له.
قدَّم ناست الحمار والفيل باعتبارهما رمزين سياسيين وطنيين، لكن لا توجد إجابة قاطعة للتساؤل بشأن بقائهما شائعين للغاية بعد مرور قرابة 140 عاماً.
لكن، وفق “عربي بوست” لعل التفسير الأفضل هو تأثير ناست نفسه. إذ كان رسَّام كاريكاتير سياسياً نادراً أثَّرت أعماله على الحياة السياسية في عصره. ويكمن البرهان على ذلك في كلمات مشاهير زمانه. فوصف الرئيس أبراهام لينكولن ناست بأنَّه “أفضل مُستقطِب للأنصار” في حملة إعادة انتخابه عام 1864. وكان يوليسيس غرانت يحمل مشاعر مماثلة بشأن انتخابه عام 1868، وكال المديح لـ”قلم ناست”. وقال مارك تواين إنَّ ناست “أحرز نصراً مذهلاً لغرانت، بل أعني للحضارة والتقدُّم”.