حين تتحول الرياضة إلى عبودية.. الباليه نموذجا
هوية بريس – تسنيم راجح
“مع مرور الوقت، يصير الألم الدائم في عموم الجسد أمراً اعتيادياً”[1]. هكذا تحدثت راقصة الباليه المحترفة نيكولا فولكر بكل بساطة عن الآلام المتعلقة بالرياضة التي اتخذتها نمطاً لحياتها. أما أحد الراقصين المحترفين فقال إنه لم يعد يفكر بآلام الممارسة إلا كجزء من الحياة اليومية، فتحضير أكياس الثلج لوضعها على أماكن الانتفاخ والتشنج والتقرح عمل روتيني قبل النوم يعين على الاستيقاظ في اليوم التالي لمعاودة التدريبات.[2]
أتحدث هنا عن الباليه، تلك الرياضة المعروفة بانسيابية حركاتها ورشاقة راقصاتها (وراقصيها حديثاً) بشكلٍ يلفت الأنظار ويثير الإعجاب، حتى يتخيل المشاهد أن هؤلاء المستعرضون يطيرون على المسرح متجاوزين لقوانين الجاذبية وممتلكين قوىً خارقة لحدود الطبيعة البشرية. لكن ما يظهر لنا ليس إلا جزءاً صغيراً من الحقيقة السوداء لهذه الرياضات القاسية (extreme sports) التي تفرض على لاعبيها نمطاً حياتياً كاملاً خاصاً بها، ابتداءً بأوقات النوم والاستيقاظ وانتهاءاً بقوانين الطعام والشراب. فما وراء كواليس رقصات الباليه من إصابات وآلام وأمراض نفسية واضطرابات طعام ونقص تغذية وتحرش جنسي يدوس على أبسط حقوق الإنسان، ناهيك عن كون هذه المنظومات منحيَّة للأديان عموماً عن أي مرجعية أو أولوية. وإن كان المقال يركز على الباليه، فإن معظم الكلام ينطبق على غيرها من الرياضات التي تسلِّع الجسد وتحول الإنسان إلى أداة متعة للجماهير المصفقة.
بالدراسات والإحصاءات
أشارت دراسة أجريت في البرازيل عام 2016 إلى أن حوالي 6 من كل 10 راقصي باليه يعاينون آلاماً بدنية مزمنة بسبب ساعات التدريب الطويلة والحركات المتطرفة التي يجبرون أجسادهم عليها.[3] ووجدت إحصاءات عام 2012 أن واحداً من كل ثلاث طلاب باليه يتعرضون لإصابة رياضية على الأقل في العام، ورغم ارتفاع النسبة إلا أن الباحثين أشاروا إلى أنها غير محصيةٍ للأرقام الحقيقية لأن كثيراً من اللاعبين يخفون إصاباتهم ويستمرون بالتدريبات رغم آلامها خوفاً على مستقبلهم المهني ومكانتهم في النوادي.[4]
وأشارت لجنة طب الرياضة واللياقة في الأكاديمية الأمريكية لطب الأطفال إلى أن البداية المبكرة لراقصي الباليه، الذين غالباً ما يبلغون الاحتراف في سن الـ15، تجعل الإصابات البدنية الكثيرة التي يتعرضون لها تصادف عمراً مهماً للنمو وتطور الجهاز العضلي الهيكلي مما يجعل هذه الإصابات خطرةً على التطور والنمو الصحي، وقد تنتج مشاكل طويلة الأمد وأمراضاً عضلية هيكلية مزمنة[5].
ومن حيث الصحة النفسية، وجدت عدة دراساتٍ أن سمات اضطرابات الطعام شائعة جداً بين راقصي الباليه، ومن أهمها: عدم الرضا عن الجسد وهوس النحافة والرشاقة، والتحكم بالوزن، واستخدام الملينات المعوية والتقيؤ بعد الوجبات.[6] أما عدد إصابات الراقصين بفقدان الشهية العصبي (anorexia nervosa) المشخصة عيادياً فهو يجاوز ثلاثة إلى ستة أضعاف العدد في من سواهم.[7]
وفسر الباحثون هذه النتائج بكون الرياضة نفسها تصنع بيئة من تعظيم النحافة والرشاقة القصوى ولا تقبل أي خلل فيها،[8] إلى جانب كون المتدربين يمضون قرابة ثمانِ ساعات في اليوم أمام مرايا ضخمة تعظم صورة الجسد في نفوسهم.[9]
ولا شك أن اضطرابات الطعام هذه ذات آثار عضوية خطيرة، تتراوح بحسب شدتها بين نقص التغذية وفقر الدم واضطراب وظائف الكلى ونقص الشوارد وبطء القلب وغيرها الكثير.[10]
أما من الناحية الأخلاقية (بمفهومها العلماني)، فيشير البروفيسور روبن ليك من جامعة North Texas إلى أن هناك إشكالاً في طريقة تدريب الراقصين، الذين يدخلون المجال في سن صغيرة ويتعلمون أن عليهم قبول كل ما يقوله أو يفعله المدرب دون نقاش أو تساؤل. فتفاضلية القوى المتطرفة هذه تأخذ من الراقص كل قوة إرادة وتضعها في يد المشرف، متيحة المجال له ليقوم بالتصرفات غير المقبولة دون مساءلة أو مراجعة.[11] وخلال عام 2018 وبعد انطلاقة حركة MeToo في أمريكا فقد تم التبلغيغ عن ما يزيد على 11 حالة اعتداء جنسي على راقصات باليه سواء من مدربيهم أو زملائهم.[12]
لكنهم سعداء!
من الطبيعي تماماً أن تكون النفس المشغولة في حالة من الاستقرار الموهم بالسعادة، فهي تشعر أنها تملأ الناحية الغائية فيها، وتعيش لهدف مهم. ورغم أن هذا الانشغال يغطي الأسئلة الوجودية في النفس ويخدعها إلى أنها تحقق هدفها، إلا أنه يبقى مجرد مشتت سرعان مايزول، ولك أن تسأل ما حال هذه النفوس إن تعرضت لحادث أعاق حركتها، أو إصابةٍ منعتها من التمرين ولولفترة وجيزة، إلى أين ستهرب من ذاتها إذا رفض دينها المبتدع استقبالها؟
تتحدث الراقصة المتقاعدة ويندي والان عن التجربة الصعبة التي مرت بها حين أخبرها رئيس ناديها وهي في سن الخامسة والأربعين أن رشاقتها لم تعد بالمستوى المناسب للأداء. تقول إنها صُدِمت، وقضت أياماً كثيرة تبكي بلا توقف.
في لقاء مع إذاعة NPR الأمريكية، تصف ويندي حالة الفراغ التي شعرت بها لما أخذَت منها هويتها التي قضت عقوداً تبنيها، فهي لم تكن تعرف إلا هذا النادي وجدول التدريبات الذي يصلها منه، تأتيه في الصباح ثم تغادره في المساء.[13] لم تستطع الفتاة التي باعت كل عمرها لمهنة وجمهور وأضواء أن تقبل أن هؤلاء كلهم يشيحون وجوههم عنها لأنه لم تعد قادرة على إمتاعهم كالشابات الصغيرات. لقد صارت ممنوعة من الأداء الذي قدمت لأجله أيامها وحياتها لمّا مر الزمان بها وتركها وحيدةً لم تستفق من الصدمة.
المال والمتعة
عجيبٌ فعلاً كيف تلاعب الغرب بالمصطلحات وحوّلوا حركات غير بشرية ورشاقة مرضية إلى صناعةٍ مادية مربحةٍ تستعبد النفوس وتبيعها مقابل أوهام شهرةٍ ونجومية فارغة، وكل ذلك تحت مسمى “الرياضة”.
رياضةٌ تحول الجسد الإنساني إلى سلعة رخيصة مهيأة لأن تفعل أي شيء يبهر الجمهور وينهضهم على أقدامهم بالتصفيق والتشجيع. رياضةٌ تجبر المشاركين على التعري وأرتداء الملابس غير المريحة أو المناسبة للحركات، فيغدو الراقص المسكين عبداً للاحترافية والشهرة ومفاهيم النجاح الفاسدة، ولا يزال يغرق في دوامة مبهمةٍ من حميات وتمارين وآلام.
ولنا أن نسأل هنا: كيف يمكن لممارسةٍ تحوي من الخطر البدني والنفسي ماذكرنا أن تكون مشجّعةً اجتماعياً؟ أليس حرياً بالمشاهد أن يتفكر بما يجري وراء الكواليس؟ كم سنةً أضاع هذا المستعرض من عمره ليقدم عرضاً لا يتجاوز الساعة؟ أين احترام هذه النفس البشرية؟
لقد ضاعت قيمتها وصارت مطلوبة للمتعة والمال لا أكثر، فعالم الرأسمالية المادية يريد تشغيل المسارح وجني الربح وتحريك الاقتصاد، ولتذهب حقوق الإنسان وكرامته التي أمضى المؤتمرات والمحاضرات الطوال يعلم الشعوب المتأخرة عنها حيث تذهب.
ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش
[1] نيكولا فولكر، مدرّسة باليه في Twinkle Dance،هونغ كونغ، https://www.scmp.com/lifestyle/arts-culture/article/2166222/ballet-dancers-life-strength-training-strict-diet-ice-packs
[2] شيا جون، راقص باليه محترف، هونغ كونغ، https://www.scmp.com/lifestyle/arts-culture/article/2166222/ballet-dancers-life-strength-training-strict-diet-ice-packs
[3] Thomas, J.J., Keel, P.K. & Heatherton, T.F. Disordered eating and injuries among adolescent ballet dancers. Eat Weight Disord 16, e216–e222 (2011). https://doi.org/10.1007/BF03325136
[4] Wanke, E. M., H. Mill, and D. A. Groneberg. “Ballet as high-performance activity: health risks exemplified by acute injuries in dance students.” Sportverletzung Sportschaden: Organ der Gesellschaft fur Orthopadisch-Traumatologische Sportmedizin 26, no. 3 2012: 164-170.
[5] American Academy of Pediatrics Committee of Sports Medicine and Fitness, 2000، https://pediatrics.aappublications.org/content/106/1/154.short
[6] Becker, A.E., Grinspoon, S.K., Klibanski, A. and Herzog, D.B. 1999. Eating disorders. The New England Journal of Medicine, 340(14), 1092-1098.
Ringham, R., Klump, K., Stone, D., Steven, L., Stowe, S. and Marcus, M. 2006. Eating disorder sympthomology among ballet dancers. International Journal of Eating Disorders, 39, 503-508
NICE 2004. Eating disorders: Core interventions in the treatment and management of anorexia nervosa, bulimia nervosa and related eating disorders. The British Psychological Society, Leicester and The Royal College of Psychiatrics, London. Retrieved on November 29, 2008 from www.nice.org.uk
Thomas, J.J., Keel, P.K. & Heatherton, T.F. Disordered eating and injuries among adolescent ballet dancers. Eat Weight Disord 16, e216–e222 (2011). https://doi.org/10.1007/BF03325136
[7] المصدر السابق
[8] Thomas, J.J., Keel, P.K. & Heatherton, T.F. Disordered eating and injuries among adolescent ballet dancers. Eat Weight Disord 16, e216–e222 (2011). https://doi.org/10.1007/BF03325136
[9] Benson, J., Gillien, D. M., Bourdet, K., & Loosli, A. R. (1985). Inadequate nutrition and chronic calorie restriction in adolescent ballerinas. The Physician and sportsmedicine, 13(10), 79-90.
[10] Palla, B., & Litt, I. F. (1988). Medical complications of eating disorders in adolescents. Pediatrics, 81(5), 613-623.
[11] Robin Lakes, university of north Texas, 2018
https://www.dancemagazine.com/metoo-dance-2569127206.html
[12] Riley Griffin, Hannah Recht and Jeff Green October 5, 2018
https://www.bloomberg.com/graphics/2018-me-too-anniversary/
[13] Terry Gross, 2017, NPR, From Injury To Recovery, A Ballerina Fought To Retire On Her Own Terms
المصدر: موقع السبيل.