حين تصبح إبادة الفلسطينيين “إرادة إلهية”

هوية بريس – متابعات
في ربيع 2024، وبينما كانت غزة تغرق تحت وابل من القصف الهمجي الصهيوني الذي أودى بحياة الآلاف من الأطفال والنساء والشيوخ، وهدم البيوت فوق رؤوس ساكنيها، وجد رئيس وزراء الكيان الغاصب بنيامين نتنياهو متسعًا من الوقت لاستقبال وفد إنجيلي أمريكي في القدس.
لم يكن المشهد قريبًا من أصوات الانفجارات أو دخان المعارك، لكنه كان يحمل في طياته خطورة لا تقل عن تلك التي تجتاح القطاع المحاصر.
هنا، في أروقة القدس، تلاقت السياسة بالدين، وامتزجت أهداف الاحتلال مع رؤى لاهوتية تكاد تجعل الإبادة مقدسة، والاحتلال حتمية نبوية لا مفر منها.
🙏 الوفد الإنجيلي: “رسل” يحملون رؤية نهاية الزمان!
على رأس الوفد كان القس ماريو برامنيك، أحد أبرز أعلام حركة “الإصلاح الرسولي الجديد”، وهو رجل دين أمريكي يتمتع بعلاقة وثيقة مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب.
بالنسبة لبرامنيك، الكيان الصهيوني (إسرائيل) ليس مجرد كيان سياسي، بل ركيزة أساسية في مخطط إلهي يقود العالم نحو “نهاية الزمان”.
إلى جانبه، شارك القس توني بيركنز، وهو شخصية بارزة في الأوساط الإنجيلية المحافظة، والذي يرى في الصراع الحالي أكثر من مجرد نزاع إقليمي. مما جاء في كلمته “هجوم حماس لم يكن عملاً إرهابيًا فحسب، بل كان شيطانيًا بأبعاد روحية عميقة“.
🔸هدف الزيارة: تعزيز الدعم الديني والسياسي للكيان الصهيوني في خضم حربها على غزة.
🔸الرسالة المشتركة: ما يدور في فلسطين هو معركة كونية بين “قوى النور والظلام“، وانتصار الاحتلال الصهيوني واجب مقدس مهما بلغت التضحيات.
⚔️ نقاشات بعيدة عن السياسة التقليدية
لم تكن الجلسة تهدف إلى مناقشة استراتيجيات عسكرية أو حلول دبلوماسية لوقف الحرب. بدلاً من ذلك، ركز الحديث على تفسيرات لاهوتية تبرر استمرار الاحتلال وتدمير غزة.
تبادل الحاضرون وجهات النظر حول كيفية توافق الأحداث الجارية مع ما جاء في الكتب المقدسة، حيث يرى الإنجيليون الصهاينة أن الحرب الحالية جزء من سلسلة أحداث تنبأت بها النصوص الدينية، وأن دعم الاحتلال الغاصب ليس خيارًا سياسيًا بل التزامًا إلهيًا.
في ختام اللقاء، طلب بيركنز أن يصلي من أجل نتنياهو. لم يتردد الأخير، بل أغمض عينيه بينما رفع القس يديه متضرعًا ليس فقط من أجل رئيس الوزراء، بل من أجل “انتصار إسرائيل والولايات المتحدة” في مواجهتهما المشتركة ضد “قوى الشر“.
وبعد أن ختم الصلاة بعبارته التقليدية “باسم يسوع”، فتح نتنياهو عينيه مبتسمًا، وقال مازحًا: “تعلمون، سمعت أن الرئيس بايدن قال إنني سأمر بلحظة مجيءٍ إلى يسوع. ربما كانت هذه هي اللحظة”.
✝️ الصهيونية المسيحية: اليهود أداة ومفتاح!
هذا اللقاء لم يكن استثناءً في مسيرة نتنياهو، الذي اعتاد استمالة المسيحيين الصهاينة لدعم سياساته. لكن ما يميز هذا الحدث هو حضور شخصية مثل برامنيك، الذي لا يكتفي بدور رجل دين تقليدي. فهو يعتبر نفسه “رسولًا” في حركة “الإصلاح الرسولي الجديد”، وهي حركة إنجيلية متطرفة تؤمن بأن العالم يجب أن يخضع لسلطة “رسل وأنبياء” معاصرين يتلقون وحيًا إلهيًا مباشرًا.
🔸رؤية برامنيك: ترامب هو مبعوث من الله لتحويل أمريكا إلى دولة ثيوقراطية مسيحية، والكيان الغاصب (إسرائيل) هو المفتاح لتحقيق هذا الحلم.
🔸اليهود مجرد أداة: في هذا السياق، لا يدعم الإنجيليون الصهاينة اليهود حبًا بهم، بل كأداة في مخططهم الديني، حيث يعتقدون أن اليهود سيصبحون مسيحيين عند اقتراب “نهاية الزمان”.
🌍 من التحالف السياسي إلى المشروع الثيوقراطي
لم تعد الصهيونية المسيحية مجرد تحالف تكتيكي بين اليمين الصهيوني والإنجيليين الأمريكيين، بل تطورت إلى مشروع ثيوقراطي طموح يسعى لإعادة تشكيل السياسة العالمية بناءً على عقيدة نهاية العالم.
هذه الرؤية تجد جذورها في القرن التاسع عشر، حين بدأت الأوساط البروتستانتية في بريطانيا ثم أمريكا تبني فكرة أن دعم الكيان الغاصب (إسرائيل) واجب ديني يستند إلى وعد الله لإبراهيم بمنح أرض فلسطين لليهود.
🔸التطور التاريخي: منذ ظهورها في بريطانيا، انتقلت الصهيونية المسيحية إلى الولايات المتحدة، حيث ازداد نفوذها مع قيام الكيان الغاصب (إسرائيل) عام 1948 وحرب 1967، الذي اعتبره الإنجيليون “دليلاً” على تحقق النبوءات.
🔸اليوم: أصبحت قوة سياسية مؤثرة تشكل مواقف الحزب الجمهوري وتدفع باتجاه دعم غير مشروط للكيان الصهيوني الغاصب.
🔔 حركة الإصلاح الرسولي: تطرف جديد
ضمن هذا السياق، تبرز حركة “الإصلاح الرسولي الجديد” كجناح متطور وأكثر تطرفًا من الصهيونية المسيحية التقليدية. أتباعها لا يكتفون بدعم الكيان الصهيوني، بل يسعون للسيطرة على “الجبال السبعة” للمجتمع (الحكومة، التعليم، الإعلام، الأعمال، الترفيه، الدين، والأسرة) لفرض رؤية مسيحية أصولية عالمية.
🔸دور الكيان الصهيوني: يعتبر الكيان حجر الزاوية في هذا المشروع، لأنه -وفق معتقداتهم- يُمهد لعودة المسيح.
🔸الفلسطينيون: لا مكان لهم في هذه الرؤية، إذ يُنظر إليهم كعقبة أو “أعداء الله” يجب القضاء عليهم لتحقيق النبوءة!
💥 غزة: ضحية المخطط الإلهي
في ظل هذه العقيدة، يصبح تدمير غزة وإبادة سكانها جزءًا من “مشيئة الرب“.
الإنجيليون الصهاينة لا يرون في الفلسطينيين شعبًا يدافع عن أرضه، بل كيانًا يعيق تحقيق النبوءات. هذا التفكير يبرر لهم الدعم المطلق للحرب، بل ويشجعون على تصعيدها كخطوة نحو “الخلاص“.
🔸موقف برامنيك: انتقد إدارة بايدن لمجرد تلميحها إلى حل الدولتين، معتبرًا ذلك “مكافأة للإرهاب“!
🔸تأثير الحركة: تمارس ضغطا سياسيا وتجمع تبرعات مالية ضخمة لدعم الكيان الصهيوني عسكريًا وسياسيًا.
🛡️ نفوذ أمريكي متزايد
في الولايات المتحدة، يشكل المسيحيون الصهاينة نحو 20% من الناخبين، وهم كتلة انتخابية قوية تدعم الحزب الجمهوري بثبات.
خلال عُهدة ترامب الأولى، حصل هذا التيار على مكاسب كبيرة، مثل نقل السفارة إلى القدس وإطلاق “صفقة القرن”.
واليوم، مع عودة ترامب إلى البيت الأبيض، تتزايد طموحات الإنجيليين لفرض رؤيتهم ليس فقط على السياسة الخارجية، بل على المجتمع الأمريكي نفسه.
🔸منظمات بارزة: حركة “المسيحيون المتحدون من أجل إسرائيل” (CUFI) تضم أكثر من 10 ملايين عضو، وتؤثر في قرارات الكونغرس.
🔸مستقبل الحركة: تسعى لتعزيز نفوذها عبر “مكتب الإيمان” المقترح في إدارة ترامب الجديدة.
🌐 خاتمة: حرب بلا نهاية؟
ما بدأ كتأويلات لاهوتية في القرن التاسع عشر تحول اليوم إلى قوة سياسية عابرة للحدود، تربط مصير غزة بأجندة دينية متطرفة.
الصهيونية المسيحية وحركة “الإصلاح الرسولي الجديد” لم تكتفيا بتشريع الاحتلال، بل تسعيان لإعادة رسم العالم وفق رؤية ثيوقراطية تجعل الفلسطينيين وقودًا لنبوءاتها.
فهل نحن أمام حرب صليبية مقدسة بلا نهاية؟ أم أن هذا التحالف سيواجه مقاومة تُعيد السياسة إلى مسارها “العقلاني”؟!