حين تغيب الثقافة الجادة
هوية بريس – إبراهيم أقنسوس
ماذا يتبقى من الإنسان حين يضمر بعده الثقافي ويتلاشى؟؟، وما قيمة وجوده، حين يتحول إلى آلة صماء، يعيش ليستهلك، ويقضي سحابة عمره، في الجري وراء البحث عن إشباع غرائزه البهيمية؟؟، ليس إلا، وماذا يحدث حين تتحول هذه الثقافة التي تعنيه، إلى مجرد أشكال ومظاهر فارغة؟؟
تتجه المدنية، بمعناها اللبرالي المادي، عموما نحو هذا المنحى، وتجتهد من أجل تحويل البشر إلى كائنات مستهلكة، و مستهلكة، بكسر اللام وفتحها، وتشتغل جل الحكومات عبر العالم، وعيا وبغير وعي، رغبة حينا، ورهبة أحيانا، من أجل ترسيم هذا المنحى، عبر توفير كل وسائل الإغراء، التي تسوق البشر سوقا، إلى المزيد من إدمان الإستهلاك، وإلى المزيد من البحث عن إشباع الغرائز، وإرواء الرغبات الحيوانية، ليس إلا، مع الحرص كل الحرص، على إغلاق كل منافذ السؤال، ومفاتيح الوعي والمراجعة، إذ الغاية في النهاية هي حيازة المال، والإنخراط في جوقة اللبرالية المتوحشة، والباقي كله تفاصيل، لا قيمة لها، بما في ذلك هذا الإنسان، أو هذا الذي يسمى إنسانا، ولنفس المنطق تستسلم جل الحكومات الضعيفة والتابعة، طوعا وكرها، فتتحول بلادها إلى أسواق تجارية مفتوحة، كل شيء فيها يباع ويشترى، بما في ذلك القيم والرموز والمعاني، فتتراجع مظاهر الثقافة الجادة، ومقتضياتها الفكرية والتوعوية، لصالح تغول الإستهلاك، والبحث عن المزيد من الإقتناء والإمتلاك والإشباع المادي، بغض النظر عن كل قيمة أو خلق أو دين، وبالطبع لا مجال هنا لأي حديث عن قيمة الثقافة، بالمعنى الجاد للكلمة، وعلاقتها بالإنسان .
من هنا نفهم هذه الرغبة الملحة والمصرة، في تبخيس كل ثقافة جادة، وفسح المجال واسعا لكل أنواع التهريج والتنكيت والبهلوانيات الفارغة، التي لاتحمل أي مضمون حقيقي، أو رسالة دالة، عدا الضجيج، واستجداء الإضحاك البليد، وإضاعة أوقات المواطنات والمواطنين، فيما أصبح يسمى ثقافة، وعلى سبيل التبريرالعجيب، يوجد دائما من يقول، هذه رغبة الجمهور، دون طرح السؤال الصعب والمباشر، حول من يتحمل مسؤولية صناعة هذا الجمهور، ومن يتكلف بتربية أذواق المواطنات والمواطنين، وما مبرر كل هذه الضحالة التي تمارس باسم الثقافة والتنشيط، أحيانا كثيرة، حتى أصبح من الصعب اليوم، العثور بين المواطنات والمواطنين المتعلمين، على من يحسن الإصغاء لقصيدة شعرية، ويتماهى مع أسئلتها ورموزها، أويعكف على قراءة رواية من الغلاف إلى الغلاف، أو ينخرط في دراسة مشروع فكري محدد، ويقدم قراءته لمفاصله ورهاناته النظرية، في حدودها الدنيا على الأقل، أو يحرص على متابعة نقاش نظري عميق، يتطلب حدا معقولا، من الإنصات وإعمال العقل، أو يحضر عرضا مسرحيا مميزا، أويتابع شريطا سينمائيا مبدعا، يراهن فيه الكاتب والمخرج معا، على الفكرة والأطروحة، لا على أجساد الممثلات والممثلين.
كل هذه الأمثلة وغيرها، تؤشر على ضمور الثقافة، بالمعنى الجاد للكلمة، مايعني الإكتفاء بالأشكال، والمراهنة على المظاهر والسطوح، والبحث عن الإعتراف المجاني، المذر للمال والمصالح، بلا عمق ولا استحقاق، فماذا يتبقى من الثقافة حين تتحول إلى بهرجات وتهريج، في أحسن الأحوال، وماذا يتبقى من الإنسان المواطن، حين يعيش بلا ثقافة جادة؟؟، بلا سؤال، بلا رغبة حقيقية في المعرفة؟؟، وماذا ينتظر منه بعد ذلك؟؟